شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
دفعت ثمن الخروج من غزة مالاً وأشياء أخرى

دفعت ثمن الخروج من غزة مالاً وأشياء أخرى

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!
Read in English:

The cost of leaving Gaza is a price paid in many ways

كانت المرة الأخيرة. وقفتُ أتأمّل غزة لآخر مرة في حياتي. كانت جميلة وبهيّة. تشبه حبّة كرز قُطفت للتو.

تذكّرت ساحة البيت، دمعة أمّي، دوّار أبو احميد، الأصدقاء واحداً واحداً، الحُب، واليأس، والانتظار الطويل قبل الهروب.

كنتُ أعرف أنها النظرة الأخيرة التي سأظلّ أتذكرها طيلة عُمري، وسأحدّث عنها أبنائي يوماً ما. لم يدلني قلبي على ذلك. لكن دلّتني الأيام الطويلة التي قضيتها منتظراً إدراج اسمي في قائمة المسافرين، والساعات الطويلة التي قضيتها في الصالة المصرية منتظراً ختم الدخول إلى العالم.

ما زلت أؤمن أنني سأعود، ربما شاباً أو أباً أو جداً، فليس من المنطقي أن أموت وأنا ملتفت للوراء

بعد خمس دقائق من التأمّل المصحوب بأنفاس السيجارة، تنهّدتُ مستذكراً كلّ ما حدث قبل الوصول لهذه النقطة الفاصلة بين عالمين متوازيين.

ندمتُ على الخروج أم لم أندم. لم أعرف ولن أعرف. حملتُ حقيبتي الصغيرة، وأدرتُ وجهي واضعاً غزة وراء ظهري.

ولو كنتُ أعرف عندها أنني سأظلّ طيلة عمري ملتفتاً للوراء، لما أدرت وجهي عن غزة البتة.

الزمن الموازي

مثلما لاحظ الأسير الشهيد وليد دقة وهو في السّجن، أنّ هناك زمنين يسيران بالتوازي ويتقاطعان عند موعد الزيارة؛ كنتُ دائماً أرى المعبر خطّاً فاصلاً بين زمنين مختلفين أيضاً.

فعلى الرغم من أنّ الحياة في غزة تبدو طبيعية تماماً مثل أيّ حياةٍ أخرى، إلا أنها لم تكن كذلك بوماً. فبعد الخروج من بوابة المعبر، يُدرك الواحد منا أنه كان في بقعةٍ أخرى، لا ماضٍ ولا حاضر ولا مستقبل فيها.

لذلك، وبمجرّد خروجي من بوابة المعبر، شعرت أنني انتقلت إلى زمنٍ آخر، لا يُشبه البتّة الزمن الموجود في غزة. يُشبه الأمر أن تتحرر الروح بعد اعتقال طويل.

حين رأيت دموع الأمّهات وهنّ يودّعن أبناءهنّ في ساحة المعبر الخارجية لم أستغرب. وحين رأيتُ الغزّيين يحملون طناجر الكهرباء وكراتين رأس العبد وزبادي الفخار، أدركتُ أنهم يُودّعون غزة على طريقتهم الخاصة، كأنهم يقولون: "نحبّك جداً، ولكننا لن نعود أبداً. فالخروج منكِ لم يكن سهلاً، والعودة إليكِ تكلفة لا نقدر على دفع ثمنها".

تكلفة الخروج

يمكنني القول إنني دفعتُ تكلفة الخروج من غزة كاملةً، لذلك لم أعد. أما هؤلاء الذين لم يدفعوا التكلفة كاملةً، فقد عادوا، ولو أدركوا للحظة أنهم سيدفعون ثمناً مضاعفاً لما عادوا.

فتكلفة الخروج ليست مادية فقط، بل تشمل جزءاً كبيراً من الذكريات والشوارع والأحاديث الليلية والأصدقاء. لذلك، في اللحظة التي دفعتُ فيها 76 شيكلاً (20 دولاراً) رسوم الخروج من الصالة الفلسطينية، كنتُ أعرف أنني أدفع تكلفة أخرى أيضاً.

هي ليست سعر التنسيق الذي بالكاد استطعت جَمعه ودفعته قبل وصولي إلى المعبر، بل تكلفة أخرى معنوية بذلتُ عمراً كاملاً في صناعتها، وكان عليّ حينها أن أتنازل عنها إلى الأبد، وقد تنازلت.

بينما تختلف هذه التكلفة من غزيٍّ إلى آخر، فقد تكون اشتياقاً طويلاً للأمّ، وقد تكون جزءاً من القلب يتمثل في ترك الحبيبة بعد سنوات من الآمال والأحلام. وفي بعض الحالات تكون هذه التكلفة خوفاً واحتراقاً على الأبناء والزوجة الوحيدة.

لذلك، أعرفُ ويعرف كلّ غزّي آخر، أن الخروج من معبر رفح لا يحتاج للمال فقط، بل يحتاج إلى قوة تحمل "الفقد" التي يُجبر عليها.

فالخروج ليس كما العودة، والذي يعيش في الزمن الموازي خارج غزة، يُصبح من الصّعب جدًا عليه أن يعود إلى زمن خارج هذا الزمن.

بوابة الحياة

"غزة هي قبو العالم". جملةٌ لم تَغب عن بالي طوال الطريق من بوابة معبر رفح حتى مطار القاهرة. كنت أكررها كمُحترفٍ في سيرك يؤدي الحركات بكلّ تلقائية.

فمع كلّ مشهدٍ كنت أراه، عمارة جَميلة، طفل يضحك، شارع طويل؛ كنتُ أتذكّر قبواً قديماً يعيش فيه بشر قدماء.

إن معبر رفح هو البوابة التي تفصل بين القبو والسطح، وبين الموت والحياة. فبعد أن عبرتها أدركتُ أنني نجوتُ من الموت المحتّم بالطائرات والمدافع والرصاص الطائش، ولكن هل كلّ من يخرج من الموت تستقبله الحياة؟ لا أعرف.

أعرفُ ويعرف كلّ غزّي آخر، أن الخروج من معبر رفح لا يحتاج للمال فقط، بل يحتاج إلى قوة تحمل "الفقد" التي يُجبر عليها

ولكن شباب غزة الذين هربوا نحو البحر للجوء في أوروبا وغرقوا أو اختفت آثارهم، يعرفون. وأولئك الذين لم يستطيعوا تَحمّل قسوة الحياة في الخارج فعادوا، يعرفون.

والذين لم يمتلكوا ما يكفي من مال لعبور بوابة معبر رفح، يعرفون. والأمهات اللواتي انتظرنَ عند عتبات البيوت عودة أبنائهنّ ولم يعودوا، يعرفنَ أيضًا.

نتيجة لذلك، يدرك الغزي في قرارة نفسه أنّ معبر رفح ليس مجرّد بوابة خروج وعودة، بل بوابة حياة وموت، فالداخل منها مفقود والخارج منها مولود للمرة الأولى.

المرة الأولى

وصلتُ مطار القاهرة بعد رحلة استغرقت 9 ساعات. وهناك كان عليّ التعامل مع عالم جديد لم أعرف عنه أيّ شيء من قبل، شاهدته في الأفلام والمسلسلات فقط. وسمعتُ عنه في الزيارات الصيفية لأبناء العائلة.

ومثل أيّ غزّي حالفه الحظ فسافر للمرة الأولى في السادسة والعشرين من العمر، كنتُ مرتبكاً، خائفاً، ومنبهراً بصوت المذيعة الداخلية وهي تقول: "الرجاء من السادة المسافرين على متن الرحلة رقم... التوجه إلى البوابة رقم... استعداداً لركوب الطائرة".

كنتُ أسمع هذا النداء للمرة الأولى في حياتي، فسرعان ما عدتُ إلى الوراء... للمرة الأولى تحديداً.

وإن كان بإمكاني تعليق لافتة فوق بوابة معبر رفح يوماً ما، فلن أكتب عليها سوى عبارة: المرة الأولى. فعلى الرغم من أنّ ثمة مرات أولى كثيرة يخوضها الغزيون في البلاد، إلا أنّ معبر رفح هو بوابة لمراتٍ أولى كثيرة لا يمكن تجريبها في غزة.

فمن خلاله يُجرّب الغزيون شعور السفر للمرة الأولى، وبعد عبوره يجربون شعور ركوب السيارة لأكثر من ساعة متواصلة، ومن خلاله فقط يمكنهم رؤية العالم والتعرف على جنسيات أخرى للمرة الأولى. وعن طريقه فقط يشعرون بأنهم أحرار للمرة الأولى بعد سنوات من التموضع في 365 كم2، فيسافرون عبر مطار، ويتحدثون عن مواضيع غير متعلقة بالحروب والتصعيد.

يمكن أن يتسلقوا جبلاً أو يركبوا موجاً أو يناموا في غابة أو يحضروا حفلاً غنائياً أو يدخلوا سينما أو يتصوروا مع مشهور... أشياء كثيرة يمكنهم فعلها للمرة الأولى، لم يعد بمقدورهم اليوم فعلها.

فبعد أن عبرتها أدركتُ أنني نجوتُ من الموت المحتّم بالطائرات والمدافع والرصاص الطائش، ولكن هل كلّ من يخرج من الموت تستقبله الحياة؟ لا أعرف

المرة الأخيرة

لا أعرف كيف خطر لي يومها أنها المرة الأخيرة. لذلك لم أترك شيئاً يُمكن تأمّله إلا وتأملته. بدءاً من إسفلت الأحلام المُوصل إلى بوابة معبر رفح، مروراً بالصالة الخارجية ومنظرها الذي لا يوحي بالانتقال إلى عالمٍ آخر، وصولاً إلى الصالة الفلسطينية المُرتبة والتي تأخذ المُسافر في فسحة من الأمل.

لا أعرف كيف انتبهت، ولم يخطر لي البتة أنني لن أعود لأنني لن أستطيع أن أعود، وليس لأنني لا أريد.

فلم يعد هناك نقطة التقاء بين غزة والعالم منذ احتلّت إسرائيل معبر رفح وقامت بحرقه وتدميره، ففقد الفلسطينيون نافذتهم الوحيدة التي تطلّ على العالم.

على الرغم من ذلك كله، ما زلت أؤمن أنني سأعود، ربما شاباً أو أباً أو جداً، فليس من المنطقي أن أموت وأنا ملتفت للوراء.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ألم يحن الوقت لتأديب الخدائع الكبرى؟

لا مكان للكلل أو الملل في رصيف22، إذ لا نتوانى البتّة في إسقاط القناع عن الأقاويل التّي يروّج لها أهل السّلطة وأنصارهم. معاً، يمكننا دحض الأكاذيب من دون خشية وخلق مجتمعٍ يتطلّع إلى الشفافيّة والوضوح كركيزةٍ لمبادئه وأفكاره. 

Website by WhiteBeard