أثناء تقديم أوراق الالتحاق بالخدمة العسكرية، يمُرّ المُجندون بما يُعرف باسم "التلقين الأمني"، حيث يُلقي "حِكمدار" المجموعة، تعليمات الحفاظ على سلامة الوحدة وحياة المجندين، وبعض الأشياء التي من شأنها "إعفاء المُتقدم من الخدمة لأسباب أمنية". أحد تلك الأسباب كان ذهابك، أو أحد أفراد أسرتك، إلى الدول المحظورة، والتي كان من بينها "إسرائيل". إسرائيل... محظورة! ومعاهدة السلام؟ هل تناثرت صفحاتها في الهواء فجأة؟
"الحكمدار" لاعباً أولمبياً
"ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ". صورة ضبابية، تختلط فيها الذكريات مع الأحلام، والأوهام مع الحقائق: السادات وجولدا مائير يتبادلان الضحكات، بينهم صورة الشهيد إبراهيم الرفاعي، ودماء الأسرى في معتقل "عتليد". جثامين جنود داستهم الدبابات الصهيونية في "رأس سدر"، تقطعها صورة حسني مبارك مصافحاً شارون، قائد السرية التي دفنت جنودنا الثمانين أحياءً في "وادي اللطرون". أوراق اعتماد دولة إسرائيل عُمَّدت بدماء "يوسف"، وأواصره الممزقة، وبقايا "شَعره الكيرلي"، أما الدخان المتصاعد من أبنية غزة، وبيروت، وسوريا، والعراق، والسودان، وليبيا، وقريباً مصر، فقد شممنا رائحته في صفحات "كامب ديفيد" و"وادي عربة" و"أوسلو"، وإرهاصات بشير الجميل.
هذا ليس تعنتاً سياسياً، بل حقيقة أثبتتها لنا الأيام: هذا العدو سيبقى هو العدو، والسلام لا يستقيم إلا بموافقة جميع الأطراف، والتطبيع لا يعفي المُجرم من المحاسبة، أما ذلك "الأومباشي" الذي أملى علينا تلقينه الأمني، فيكره إسرائيل مثلي تماماً، وربما أكثر، وما أظنّه أنه ينام ودموعه على خديه من الشعور بالخذلان.
ثم أنه لو صادف صهيونياً على قارعة الطريق، لربما شتمه، أو تحاشاه كأن لم يكن، وهذا هو أضعف الإيمان، ولتسقط كافة معاهدات السلام البالية. فإن كانت تلك هي الحالة العامة داخل الدوائر الرسمية؛ فلماذا إذن نندهش من اللاعبين العرب في الأولمبياد عندما يتعاملون بنفس المنطق مع لاعبي العدو؟
هل مجرّد اللعب يعني الاعتراف بالكيان الذي يمثّله الخصم؟ هل موقف اللاعبين العرب هو جزء من المعركة، لذلك وجب التنويه، أم أن الرياضة شيء والمواقف السياسية شيء آخر؟
ولأسباب لا أعلمها، تذكرت ذلك الحِكمدار المصري "المَجدع" فور إعلان اللاعب الجزائري، رضوان مسعود دريس، انسحابه من منافسات الجودو في أولمبياد باريس، ورفضه منازلة لاعب الكيان الصهيوني توهار بوتبول، ثم عنَّت على بالي من جديد، صورة كل لاعب عربي اتخذ موقفاً: رأيته في نادر السيد، حارس مرمى منتخب مصر، بعد أن رفض المشاركة مع فريقه "كلوب بروج" البلجيكي في مباراة داخل "فلسطين المحتلة"، ما أدى إلى الاستغناء عنه نهائياً، وفي قرار أحمد حسن، قائد المنتخب المصري الأسبق، برفض اللعب مع "أندرلخت" البلجيكي، ضد "هابويل تل أبيب" الإسرائيلي، في دوري أبطال أوروبا، وأيضاً حينما رفض ارتداء قميص فريق غالطة سراي التركي، بعدما أعلنت إدارة النادي التعاقد مع اللاعب الإسرائيلي "حاييم بن رفيف".
سمعتُ أنفاسه في صوت المهاجم المغربي مروان الشماخ، عندما رفض اللعب أمام فريق "مكابي حيفا" حينما كان لاعباً في صفوف فريق "بوردو الفرنسي". ورأيته في جزائري اسمه مزيان دحماني، رفض المشاركة في بطولة العالم للجودو في برشلونة عام 1991، بعدما أوقعته قرعة الدور الأول أمام منافس إسرائيلي، وفي انسحاب الجزائرية مريم بن موسى من بطولة العالم للمصارعة عام 2011 في روما، بعدما أوقعتها القرعة مع الإسرائيلية شاهار ليفي، وفي تخلي المرشح الأول لحصد بطولة العالم للتايكوندو 2011، المصارع الجزائري زكريا شنوف، عن أحلامه، بعدما رفض مصارعة الإسرائيلي آدم ساجير، مفضلاً الخروج من الدور الأول للبطولة.
على من نطلق الرصاص؟
هناك لاعبون إسرائيليون في مسابقة دولية ما، هل نواجههم أم ننسحب؟ نلعب ونسحقهم بالطبع، وماذا لو خسرنا؟ ننسحبُ بالطبع، وماذا عن أحلام اللاعب الضعيف؟ وموقف دولته الرسمي؟ مواقف مشرفة أم خيانة وتطبيع؟ هل مجرّد اللعب يعني الاعتراف بالكيان الذي يمثّله الخصم، استناداً على نفس المنطق الذي يجعل من محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، محبوباً لدى الحكومة الإسرائيلية أكثر من يحيى السنوار؟ هل موقف اللاعبين العرب هو جزء من المعركة، لذلك وجب التنويه، أم أن الرياضة شيء والمواقف السياسية شيء آخر؟
صورة ضبابية أخرى، حسناً؛ لكنها هامة جداً، حتى بالنظر إلى المعايير الإسرائيلية نفسها، في التعسف و"النَخورة" خلف كل شيء مهما بدا صغيراً لمنع العرب من الانتصار فيه، ولعلنا جميعاً نتذكّر ما حدث مع اللاعب الجزائري فتحي نورين، حينما آثر الانسحاب من أولمبياد طوكيو، بعدما أوقعته القرعة في منافسة لاعب إسرائيلي، ثم قال في تصريحات للتلفزيون الجزائري إن "دعمه للقضية الفلسطينية جعله غير قادر على المنافسة"، وما تبعه من رد فعل عنيف للغاية، إذ أعلنت اللجنة الأولمبية إيقافه، ومدرّبه، لمدة 10 أعوام، الأمر الذي أدى إلى اعتزاله اللعب نهائياً، ثم تحذيرات اللجنة الأولمبية الدولية، من مغبّة مقاطعة المنافسين الإسرائيليين.
الاعتراف بالنسبة للاحتلال -كما الرفض- كلمة واحدة واضحة وصريحة، يفهمها ويردّدها الجميع، مجرد كلمة، ولكن... أتعرف ما معنى الكلمة؟
"لا أريد ليدي أن تتسخ"
ولد فتحي نورين في مدينة "وهران" بالجزائر عام 1991، ونشأ في أسرة بسيطة ومحافظة، بدأ ممارسة اللعبة عن عمر 7 سنوات، وتوّج بطلاً للجزائر للمرة الأولى عام 2007، ومنذ ذلك الحين فاز بالعديد من البطولات والألقاب الدولية، بما في ذلك بطولة إفريقيا ثلاث مرات، وبطولة البحر الأبيض المتوسط. أُصيب في عام 2015، لكنه عاد بقوة لأولمبياد طوكيو 2020، ثم رفض اللعب أمام اللاعب الإسرائيلي، فانتهت مسيرته المهنية، وعاد محمولاً على الأعناق كبطل قومي، بعد أن سبب حرجاً لقادة الكيان الصهيوني وحلفائه.
لتكتب بعدها صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية: "إن العرب يستهزئون بنا، هناك كل أنواع اتفاقيات السلام، ولكن على الأرض، يثبت الرياضيون/ات العرب أن إسرائيل غير موجودة في أعينهم"، وأن "اتفاقيات إبراهيم" لا تحمل أي وزن بين عامة الناس، لماذا؟ لأن فلسطين ستظل دائماً البوصلة الأخلاقية للعالم العربي.
كان نورين صريحاً للغاية، لم يهادن، لم ينافق، وقامر بمستقبله الآتي كاملاً، من أجل لحظة واحدة، فماذا استفاد إذن جرّاء تلك المقاومة؟ لا شيء، سوى كرامته ربما، وربما أيضاً اكتسب قوةً خارقة، تمكنه الآن من النوم بهدوء وممارسة حياته بشيء من الفخر، فخر جعل يديه نظيفتين تماماً من أي دماء، على حدّ قوله، وذلك على العكس من بعض اللاعبين/ات العرب الآخرين، الذين لعبوا وأعطوا الشرعية للكيان المحتل دون جدوى.
من بينهم لاعبة الجودو السعودية تهاني القحطاني، التي رفضت الانسحاب من أولمبياد طوكيو، وخسرت أمام منافستها بنتيجة 11-0. ثم أظهر مقطع فيديو تداوله مستخدمون على مواقع التواصل الاجتماعي، القحطاني واللاعبة الإسرائيلية وهما يتصافحان 3 مرات بعد المباراة التي أقيمت في طوكيو.
هذا إضافة إلى أن اللاعب/ة الإسرائيلي/ة في الغالب الأعمّ كان، أو لم يزل، جندياً في جيش الاحتلال، وهذا ما يمحو الفكرة السخيفة القائلة بفصل الرياضة عن السياسة، ويعصف بعملية السلام كلها.
على سبيل المثال، فازت اللاعبة أفيشاج سيمبرج بالميدالية البرونزية في التايكوندو أثناء خدمتها في الجيش الإسرائيلي، تحديداً في الفيلق المسؤول عن مستوطنة "ألون" غير القانونية في الضفة الغربية المحتلة. ورغم ذلك لم يستبعدها أحد من المسؤولين، رغم أنها، نظرياً، تسببت، وزملاؤها، في مقتل لاعبة التايكوندو نغم أبو سمرة، وما لا يقل عن 350 رياضياً فلسطينياً في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر، نصفهم على الأقل، كان يحلم باللعب في أولمبياد باريس.
قد يقول قائل: سنلعب ونهزمهم شر هزيمة؛ أما أنا فأقول إن هذا يخدم الأجندة الصهيونية أيضاً، لماذا؟ لأن الأمر أشبه بالفارق بين ما كتبه اللاعب المغربي أنور الغازي، على صفحته الشخصية بعد طوفان الأقصى، وبين ما قاله محمد صلاح في فيديو الشجب والإدانة الشهير
فلا أُقسم بمواقع الجنود
"رياضية وجندية في جيش الدفاع الإسرائيلي، والآن الحائزة على الميدالية الأولمبية، هل هناك أي شيء لا تستطيع فعله؟". رئيس أركان جيش الاحتلال مهنئاً سيمبرج عبر تويتر.
بالطبع لا؛ فمن يقتل الأطفال والنساء بتلك الصورة، ويرتكب تلك الأهوال بدمٍ بارد، يمكنه فعل أي شيء، والآن قل لنا: لماذا ينبغي للاعبين العرب أن يكونوا في نفس الغرفة مع شخص ملطخة يديه بالدماء الفلسطينية؟ هل هناك أي مكسب أو أي ميدالية قد تمسح الدماء عن يديه، بعد أن اعترف بإسرائيل وممثليها رسمياً، ثم اعترف بجنودها الإرهابيين كرياضيين أولمبيين، لهم الحق في المشاركة والفوز أو الخسارة؟
قد يقول قائل: سنلعب ونهزمهم شر هزيمة؛ أما أنا فأقول إن هذا يخدم الأجندة الصهيونية أيضاً، لماذا؟ لأن الأمر أشبه بالفارق بين ما كتبه اللاعب المغربي أنور الغازي، على صفحته الشخصية بعد طوفان الأقصى، وبين ما قاله محمد صلاح في فيديو الشجب والإدانة الشهير، حيث رفض أنور الاعتراف بحدود أقامها الاحتلال عنوة وبقوة السلاح، قائلاً: "من البحر إلى النهر، فلسطين ستكون حرة"، فليس هناك إلا دولة واحدة فقط تسمى فلسطين، وتمتد حدودها من النهر إلى البحر، لذلك جاء قرار ماينتس الألماني بفسخ تعاقده.
أما صلاح، فحتى وإن كان يقصد إسرائيل، فتصريحاته تخدم الحالة التي تعمل على ترتيبها وإدخالها في العقول منذ البداية، خلط الخير والشر في دائرة واحدة، كما في الأسطورة الصينية "يين ويانغ"، حيث هناك نقطة سوداء في كل دائرة بيضاء، ونقطة بيضاء في كل دائرة سوداء، والدائرتان تقعان في دائرة واحدة كبيرة تنقسم بين الأسود والأبيض، وهكذا تستمر الدوائر حتى تتوه الحقيقة النقية.
ولذلك؛ إن محاربة نظام فصل عنصري مختل وسيكوباتي، يقتضي أولاً رفض الاعتراف بوجود هذا النظام، فلا جلوس برفقته على طاولة واحدة، ولا سلام معه أو عليه، لأن في ذلك مشاركة في سرد روايته ونشر أكاذيبه، بأن هناك معركة حقيقية بين "دولتين" تتساويان في القوة والهوية، كما أن في ذلك اعتراف مبطن بوجوده كدولة لها حدود تاريخية معروفة ومتفق عليها، قد تكون دولة مارقة أو مجرمة، ولكنها مازالت دولةً تدافع عن حقها في البقاء، وهذا يكفيها مؤقتاً لاستكمال جرائمها بحجّة الدفاع عن النفس؛ نعم، فالاعتراف بالنسبة للاحتلال -كما الرفض- كلمة واحدة واضحة وصريحة، يفهمها ويردّدها الجميع، مجرد كلمة، ولكن... أتعرف ما معنى الكلمة؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...