تحت وابل القصف وأطنان الصواريخ الإسرائيلية التي تلقيها طائرات الاحتلال الإسرائيلي فوق رؤوسهم، لا يحاول الغزيون النفاد بجلدهم من الموت فحسب، بل يحاولون إدارة حيواتهم اليومية بمقومات لا تنسجم مع الاحتياجات البشرية في هذا العصر.
ومن هذه الاحتياجات أن يجدوا قطعة ملابس سليمة تغطي أجسادهم بعد أن اهترأت ملابسهم التي أخذوا ما أخذوا منها، وتركوا منها ما تركوا، في رحلة النزوح التي اعتقدوا بأنها رحلة قصيرة قبل أن يعودوا إلى ديارهم.
مع تكرار النزوح فوق العربات التي تجرها الحيوانات تحت الشمس اللاهبة، اهترأت ملابس الغزيين. ومن مشى منهم من مكان إلى آخر ليبحث عن أمان ما، ذاب حذاؤه في الطرقات الطويلة الشاقة.
تصليح الملابس للمرة الخامسة
في تمام الساعة الثانية عشرة في ليلة من ليالي شباط/ فبراير 2024، تحولت حياة وائل ياسر ( 44 عاماً) وأسرته إلى جحيم مطلقة.
اتصل به جندي إسرائيلي وأمره بإخلاء منزله خلال 5 دقائق حتى يتمكن الجيش من قصفه. أغلق وائل المكالمة وأصيب بحالة هستيرية. على الفور، أيقظ زوجته وأولاده من النوم وهربوا بملابسهم التي كانوا نياماً فيها دون أن يعلموا إلى أين الوجهة.
"خرجت من المنزل دون أن آخذ معي شيئاً. لم أفكر سوى بحمل أطفالي وزوجتي وإنقاذ أرواحهم"، يقول وائل لرصيف22.
ويردف: "اضطرنا للنزوح سيراً على الأقدام دون أحذية. توجهنا إلى منزل أحد الأقارب ومكثنا فيه، ولا زلنا نازحين هناك حتى هذه اللحظة".
كان يتكلم وائل وهو يقف في محل للخياطة في زقاق من أزقة غزة القديمة المدمرة التي لم يبق فيها سوى بعض المحال لتصليح الأحذية والملابس.
وبملامح منهكة، كان يحمل قطع ملابس مهترئة جاء لإصلاحها للمرة الخامسة. "بقصف منزلنا، فقدنا جميع مقتنياتنا تحت الركام. لا شيء صالح للاستخدام"، يؤكد.
وقد استعار من شقيقه الذي نزح لديه بعض أدوات المطبخ، وبعض قطع الملابس لأطفاله وزوجته.
"ومع طول فترة الاستخدام، تعرضت الملابس للعطب. في كل مرة أعطيها للخياط لإصلاحها. لأني لا أملك مالاً كافياً لشراء قطع جديدة صيفية، وقد يكلفني كلّ طفل من أطفالي الأربعة 70 دولاراً حتى أتمكن من شراء ملابس جديدة له"، يضيف وائل.
أشعر بحزن كبير عندما أشاهد أطفالي يرتدون ملابس مرقعة، بينما كنت أتباهى أنا ووالدتهم، بأناقتهم، قبل الحرب
تقوم زوجته، منذ أن نزحت العائلة قبل خمسة أشهر، بغسل الملابس أثناء الاستحمام. فيبقى الأطفال بملابسهم الداخلية حتى تجف الملابس المغسولة، قبل أن يعيدوا ارتداءها.
"أشعر بحزن كبير عندما أشاهد أطفالي يرتدون ملابس مرقعة، بينما كنت أتباهى أنا ووالدتهم، بأناقتهم، قبل الحرب".
لا يختلف حال وائل عن حال مئات النازحين الذين طالت بهم الحرب، بعد أن أغلقت المحلات التجارية أبوابها، وفرغت الأسواق من البضائع وجيوب الغزيين من الأموال لشرائها.
فيجد البعض في تصليح وترقيع ملابس الناس، بوسائل بدائية، فرصة جيدة مقابل مبالغ زهيدة، سيما بعد أن تعمد الجيش الإسرائيلي تدمير المصانع والورش في قطاع غزة، الذي كان يُنتج بشكل متفرد القماش والأنسجة.
يضيّقوم ملابسهم بعد أن فقدوا وزنهم في المجاعة
بينما كان ينتظر وائل دوره، كان يعمل الخياط وصاحب المحل الستيني ماهر عكيلة خلف ماكينة خياطة عبارة عن دراجة هوائية، كان قد حوّل محركها لماكنة خياطة، نظراً لعدم وجود وقود لتشغيل ماكنة الخياطة القديمة.
ويشير ماهر إلى أنه منذ بداية الحرب واشتداد الحصار، قرر إعادة فتح محله الصغير بعد إغلاق دام سنوات، بسبب حاجة الناس لهذه المهنة. بالإضافة إلى أنها تشكل مصدر رزق له.
"أقوم بإصلاح الملابس الممزقة والمهترئة، مقابل مبالغ قليلة. وجد الناس في ترقيعها حلاً جيداً، لأنهم لا يملكون الأموال لشراء جديدة. وبعض الأشخاص يأتون لتضييق ملابسهم بعد أن فقدوا وزنهم بسبب المجاعة"، يقول ماهر لرصيف22.
ويتابع: "عشرات العائلات فقدوا أموالهم وممتلكاتهم، فاستعاروا الملابس من أقربائهم. وبسبب اختلاف الأحجام، أقوم بتضييقها أو توسيعها من خلال إضافة قطع قماش مستخدمة". مشيراً إلى أن الناس باتوا لا يهتمون بشكل ملابسهم أو تصميمها. المهم أن تحمي أجسادهم.
ويقوم ماهر باستثمار قطع القماش الصغيرة التي تزيد عن حاجة ملابس الكبار، وحياكتها للأطفال والمواليد الجدد. فالسوق لا يوفر ملابس للأطفال على حد قوله.
مصنع من تحت الركام
وأشارت هيئة تشجيع الاستثمار والمدن الصناعية في فلسطين، في بيان إلى أن الحرب الإسرائيلي على القطاع دمرت عشرات المصانع في مدينة غزة الصناعية، بشكل كلي أو جزئي.
وبينت خلال بيانها أن مدينة غزة الصناعية تعد من أكبر المدن الصناعية التي تنفذها الحكومة عبر هيئة تشجيع الاستثمار والمدن الصناعية الفلسطينية، حيث تضم 72 مصنعاً في قطاعات صناعية متنوعة، بما في ذلك الخياطة والنسيج والصناعات الغذائي والبلاستيكية والخشبية والصناعات الدوائية والمنظفات، إلى جانب الشركات التجارية والدولية.
ورغم أن إسرائيل أحدثت في حربها المستمرة دماراً لا يوصف، نجح غزيون من أصحاب المصانع المدمرة في إعادة تشغيل مصانعهم بأقل الإمكانات. فنهضوا من تحت الركام لسد حاجة السوق الغزية، وحاجة النازحين الذين فقدوا كل ما يملكون. سيما أن الحصار جعل البحث عن قطعة قماش في غزة كالبحث عن إبرة في كومة قش.
ومن المصانع التي أعادت الحياة للحياكة المحلية، مصنع الخمسيني أسامة شعت. أخرج أسامة ما تبقى من ماكينات الحياكة وقطع قماش وخيوط وأدوات من تحت الأنقاض بعد أن قصف الاحتلال مصنعه في مدينة خانيونس في الجنوب.
استعاد أسامة عمله وشغّل أيادي عاملة كي يسهم في مساعدة النازحين في توفير الملابس.
"أعدت تشغيل المصنع من تحت الأنقاض بصعوبة بالغة. وعملت على استصلاح ما تبقى من آلات وأدوات حياكة وقماش قد يسد حاجة الناس، سيّما النساء والأطفال لأنهم الفئة الأكثر تأثراً من نقص الملابس"، يقول أسامة لرصيف22.
ويضيف:" أعتمد في تشغيل الآلات على ألواح الشمس والطاقة البديلة. فهي مصدر تشغيل الآلات الوحيد منذ انقطاع التيار الكهربائي عن غزة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين أول 2023".
وجد الناس في ترقيعها حلاً جيداً، لأنهم لا يملكون الأموال لشراء جديدة. وبعض الأشخاص يأتون لتضييق ملابسهم بعد أن فقدوا وزنهم بسبب المجاعة
يشير أسامة إلى أن العاملين بالمصنع لا يتوقفون على العمل من أجل توفير الملابس، سيما في مواصي خانيونس المكتظة بالنازحين من كافة مناطق القطاع.
نازحون حفاة
حال الملابس تتطابق وحال الأحذية. فلا يجد النازحون أحذية ينتعلونها، بعد أن اهترأت أحذية معظمهم من السير الطويل في رحلات النزوح المتكررة، وفي ظل عدم وجود وقود لوسائل النقل.
ولا يخفى على أحد أن من يمتلك حذاءً جيداً في هذه الحرب، سيعتبر نفسه محظوظاً لأنه لن يضظر أن يمشي حافي القدمين أو يقوم بتصليح الحذاء أكثر من مرة، كما يفعل الكثير من الغزيين.
وينتشر الأساكفة ومحلات تصليح الأحذية على الأرصفة والطرقات في القطاع. يتجمع حولهم النازحون الذين يلجأون لتصليح نعالهم.
مقابل مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح، وساحاته المكتظة بالنازحين، يجلس الإسكافي الثلاثيني أحمد فروانة خلف صندوق خشبي، مستخدماً مخرزاً وخيوطاً متينة تعينه على تصليح الأحذية المعطوبة.
"يجلب الناس أحذيتهم المتهالكة التي لا تصلح للاستخدام، لكني أبذل جهدي لتصليحها. فأنا أعلم بأنهم لا يملكون غيرها"، يقول أحمد.
ويردف: "بعض الزبائن يأتون لتصليح أحذيتهم أكثر من 7 مرات. يستمرون باستخدامه حتى يذوب النعل. فيظل صاحبه حافياً حتى أنتهي من تصليحه. فالطرق المدمرة والنزوج المتكرر يعطب الأحذية بسرعة".
يشير أحمد إلى أن بعض الزبائن صنعوا أحذية من الخشب، أو ما نسميه بالـ"قبقاب"، حتى تصمد لفترة أطول.
كما انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي صور لنازحين ابتكروا بدائل، فقاموا بصناعة أحذيتهم بأنفسهم. منهن سيدة قامت باستخدام جلد حقيبتها لصنع حذاء لأطفالها الحفاة، كي يتمكنوا من السير في مخيمات النزوح وفوق الرمال الحارّة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...