أصبحت أرض قطاع غزة الزراعية الملاذ الوحيد للنجاة من المجاعة التي يسببها الحصار الخانق. لكن ما شكل الزراعة في أرض ألقيت فيها ما لا يقل عن 57 ألف طن من المتفجرات؟
استجمع المزارع مرعب المسلمي (42 عاماً) من بلدة بيت لاهيا شمالي قطاع غزة قواه مجدداً، وعاد إلى عمله بعدما دمرت الحرب الإسرائيلية أراضيه ومحاصيله الزراعية.
عاد لينتج برفقة عدد من العاملين والمزارعين أصنافاً متعددة من الخضار، علّها تُسهم في سد احتياجات بعض سكان منطقة الشمال، مع استمرار حرمانهم من المواد الغذائية بقرار إسرائيلي.
خطوة المسلمي، الذي تقع أراضيه قرب المنطقة العازلة التي فرضها الاحتلال مع قطاع غزة، لا شك محفوفة بالمخاطر. فما بين الخوف من إطلاق النار والاستهداف الإسرائيلي وشح الموارد اللازمة لإنجاح عملية الزراعة، يقف الرجل كغيره من المزارعين الذين قرروا العودة إلى العمل في أراضيهم في بلدة بيت لاهيا الحدودية.
يقول مرعب لرصيف22، بينما كان يتفقد المحصول في أرضه: "حين عدت إلى أرضي بعد انسحاب قوات الاحتلال بداية العام الجاري، وجدت أنه تم تجريفها بالكامل وتدمير كل شيء فيها. بالإضافة إلى تسوية منزلي بالأرض".
ويردف: "كانت هذه صدمة العمر. لم أكن أتخيل في حياتي أن أشاهد أرضي على هذا الحال، وأنا الذي جعلتها جنةً على الأرض خلال السنوات السابقة".
تعمدت إسرائيل خلال حربها المستمرة على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، تدمير معظم المحاصيل الزراعية وتجريف الأراضي واستهداف كل من يحاول الوصول إلى مزرعته.
وفي وقت سابق، أعلنت الأمم المتحدة بعد تحليلها لصور التقطتها الأقمار الصناعية، أن الحرب الإسرائيلية دمرت أكثر من نصف مساحة الأراضي الزراعية في قطاع غزة.
وأشارت بيانات الأمم المتحدة إلى أن جودة المحاصيل تدهورت في أرجاء قطاع غزة بشكل ملحوظ في مايو/أيار 2024، مقارنة بمتوسط المواسم السبعة السابقة، جراء أعمال الهدم وسير المركبات الثقيلة والقصف.
إبادة للقطاع الزراعي
قرر مرعب العمل فوراً على استصلاح بعض الأراضي في البلدة مهما كلف الثمن. فبدأ هو وعدد من المزارعين، بتسوية الأراضي من جديد وجعلها صالحة للزراعة.
وقد استغرق ذلك منهم أسابيع مرهقة ومكلفة جداً، كما يقول مرعب.
بدأ المزارعون بجمع ما تبقى من أدواتهم ومعداتهم اللازمة غير المدمرة. وأجروا صيانة لبعض منها. ثم قاموا بعدة تجارب ليتمكنوا من التأكد من قدرتهم على استعمالها في زراعة الأرض مجدداً، وبالتالي إنجاح موسم الخضار التي سيتم غرسها.
"الهدف الرئيس من وراء إصرارنا على استصلاح الأراضي وزراعتها، هو محاولة المساهمة في تخفيف عبء المجاعة عن أهالينا في منطقة شمال قطاع غزة، الذين يتعرضون إلى حرب تجويع شرسة"، يؤكد مرعب.
تعمدت إسرائيل خلال حربها المستمرة على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، تدمير معظم المحاصيل الزراعية وتجريف الأراضي واستهداف كل من يحاول الوصول إلى مزرعته
ويتابع: "إنتاجنا الزراعي الذي بدأ يصل إلى السوق ليس كافياً لسد احتياجات أكثر من نصف مليون مواطن صمدوا في شمال قطاع غزة، بحسب الإحصائيات الرسمية".
لكنه يعتبر الأمر محاولة لإبقاء الناس على قيد الحياة، رغم كل المخاطر والتحديات التي يواجهها المزارعون في عملهم قرب المناطق الحدودية.
ساهم القطاع الزراعي في غزة، قبل الحرب، بنحو 11 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي.
كما أن عدد العاملين فيه يقدرون بنحو 55,000 عاملاً، وفقاً لدراسة صادرة عن ملتقى فلسطين بعنوان "السياسات الإسرائيلية في تدمير القطاع الزراعي في قطاع غزة بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر".
وعليه، "فإن الآلاف من الشبان كانوا يعتمدون على الأرض كمصدر دخل لهم. أما اليوم فبات عدد العمال محدود جداً بسبب شح الأراضي المزروعة ومخاطر الحرب"، كما يشير مرعب.
أصناف محاصيل خاصة بالحرب
نجح المزارعون في شمال قطاع غزة في زراعة عدد من المحاصيل الصيفية. أبرزها الكوسا والفلفل والملوخية والتوت الأرضي والباذنجان.
ويبين المزارع الأربعيني عامر المصري لرصيف22 أن اختيار تلك المحاصيل دون غيرها جاء لتوفر الأشتال الخاصة بها، إضافة لكونها تعد سريعة الإنتاج في فصل الصيف وتتحمل درجات الحرارة العالية.
ويؤكد أن توفير الأشتال يتم عبر استعمال البذور التي تناثرت فوق الأتربة خلال أيام الحرب، وجفت بسبب عدم وجود الماء.
كذلك، اعتمد المزارعون نظام الدورة الزراعية المعتمدة على الأخرى حيث تقوم فكرتها على الاحتفاظ ببعض الإنتاج النباتي من كل محصول وتحويله إلى أشتال واستعمال بذوره في الزارعة مرةً أخرى، وهو ما يمكن أن يضمن استمرار العملية الزراعية، بحسب تعبير المصري.
محاولات للتغلب على المجاعة
كان المهندس يوسف أبو ربيع (29 عاماً) من أول الأشخاص العائدين إلى بيت لاهيا بعد الانسحاب الإسرائيلي منها.
بادر أبو ربيع إلى تشجيع وتحفيز المزارعين لاستصلاح أراضيهم، فأطلق عدة مبادرات لتوفير الدعم المادي لهم وإمدادهم بما يحتاجون من بذور وإمكانات تعيد الحياة الزراعية، حتى لو كان العودة محدودة.
"كانت الحياة الزراعية قبل الحرب مفعمة بالنشاط. وكانت بلدة بيت لاهيا تسد جزءاً كبيراً من حاجة المواطنين، وتصدر بعض المحاصيل إلى الخارج. ثم جاءت الحرب وقضت على كل المظاهر الزراعية فيها"، يقول لرصيف22.
بعد عودته من رحلة النزوح إلى بيت لاهيا، قرر أبو ربيع فوراً البدء باستصلاح الأرض وزراعتها، سيما في ظل عدم توافر أنواع الخضروات والطعام في الأسواق.
ثمة من زرع في مساحة صغيرة أمام منزله بعض أصناف الخضراوات بهدف الاكتفاء الذاتي وسد الحاجة، بحسب أبو ربيع. وقد نجح الأمر في سد حاجة عدد من الأسر للطعام.
إنتاجنا الزراعي الذي بدأ يصل إلى السوق ليس كافياً لسد احتياجات أكثر من نصف مليون مواطن صمدوا في شمال قطاع غزة
"سمح الاحتلال بإدخال بعض أصناف المواد الغذائية في مارس/ آذار الماضي وتحسنت أوضاع التغذية في الشمال. لكن ذلك لم يستمر سوى أقل من شهر، ليعود الحصار مجدداً"، يوضح أبو ربيع ويضيف أن ملامح مجاعة جديدة بدأت تظهر في الأفق في الأسابيع الأخيرة. فلا يتوفر في السوق سوى ما تمكن المزارعون من إنتاجه خلال الفترة الماضية. ويقول:
"للأسف، يصل للناس بأسعار أعلى من الأسعار المعتادة، لأن التكلفة الإنتاجية ارتفعت بشكل كبير، فضلاً عن محدودية الثمار وقلتها".
ويختم المهندس الزراعي بالقول إن ما حدث خلال الأشهر الماضية من منع للاحتلال والحصار الخانق يؤكد أهمية إعادة إحياء العملية الزراعية والاعتماد على الذات، مشيراً إلى أن المزارعين يحتاجون باستمرار لدعم كبير، حتى يستمروا في عملهم ويواجهوا الاعتداءات الإسرائيلية.
إصرار تحت النار
يواجه مرعب المسلمي، على نحو يومي، عدداً كبيراً من التحديات. وأبرزها يتمثل في الخطر المحدق في وجود المزارعين في مناطق حدودية مكشوفة تمامًا أمام قوات الاحتلال، التي تتعمد استهدافهم بالقذائف والطائرات المسيرة والمدفعية، كما يقول.
ويوضح أن تدمير آبار المياه من قبل الجيش الإسرائيلي، أدى إلى صعوبة استخراج المياه واستعمالها في ري المزروعات.
"كذلك، منع الاحتلال إدخال الوقود الذي نعتمد عليه في ري المزروعات ورشها بالمبيدات الحشرية وتشغيل المركبات التي تحمل الخضار إلى السوق"، يضيف مرعب.
ويؤكد بنبرة متفائلة:
"نحن متمسكون حتى آخر نفس بالأرض وزراعتها وإنتاج المحاصيل التي اعتاد عليها أهلنا في قطاع غزة".
ورغم هامش الربح القليل الذي يتم تحقيقه مقابل المخاطر العالية، تظل المسألة بالنسبة له ولسائر المزارعين مسألة وطنية.
ويختم: "استمرار العمل هو بحد ذاته مقاومة للاحتلال ومخططاته التي تهدف لتهجير الناس من أراضيهم ودفعهم نحو المصير المجهول".
وبحسب تقارير الأمم المتحدة، يمتلك قطاع غزة ما يقدر بنحو 151 كيلومتراً مربعاً من الأراضي الزراعية، أي ما يشكل حوالى 41 بالمئة من أراضي القطاع.
لكن يظل السؤال الأهم عالقاً في الوقت الذي تحتاجه الأرض حتى تشفى من مخلفات الحرب، وفي الأفق الضبابي لنهاية الحرب، حتى تعود الحياة الزراعية إلى سابق عهدها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ يومtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ 3 اسابيعلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...