إنها الثالثة والنصف فجراً، اقترب موعد استيقاظي، لكنني لم أستطع النوم حتى الآن. ألزم الفراش منذ ما يقارب الأربع ساعات. كنتُ قد وعدت نفسي اليوم بالخلود باكراً للنوم، لكنني عبثاً أفلح في ذلك. أتقلب ذات اليمين وذات اليسار، علِّي أفرغ عن كاهلي عبء كل ما يحصل. ولكن مجدداً، عبثاً أستطيع!
قرّرت اللجوء للكتابة، يقول معالجون نفسيون إن تفريغ المشاعر من خلال التدوين هو بمثابة تذكرة عبور سريع، تقربك من نفسك، وتأخذ بيدك إلى السكينة. طيب، فليَكن.
حسناً، ماذا الآن؟ كيف أفرغ كل هذه الحمولة؟ وكيف أحتملها أصلاً في داخلي؟ كيف لكل هذا أن يحصل داخل كيان هشّ مثلي، دون أن أملك حتى رفاهية الانهيار؟
سأبدأ بالمشهد السريالي الذي حصل اليوم، قرّرت ألا أؤجِّل جلسة تحرير المشاعر والتشافي العميق التي كنت قد حجزتها سلفاً مع معالجتي، برغم كل ما يحدث من حولي. نعم، أخذت إجازة ساعة من فعاليات الحرب المتأججة، واعتزلت الناس لساعتين، تواصلت خلالها مع طفلتي الداخلية! وبالمناسبة، كان لقاءً لطيفاً.
بمنطق الأمور، هذا فعل منفصل عن الواقع. فعوضاً عن تخصيص هذا الوقت لتدبر أمر النزوح المحتمل، وإنقاذ المستقبل، قرّرت العودة للماضي واخترت التشافي. إذاً، إنه فعل منفصل عن الواقع المأزوم. أشعر وكأن طفلتي الداخلية - والتي بالمناسبة أسميها "توما"، هي من استدعتني للجلسة لتطبطب عليّ، وليس العكس.
المهم، ما أود أن أقوله هنا هو: هذا الكيان بكل ما فيه يحتاج إلى الراحة. نحن خلقنا لنواجه الحياة ونخوضها بجسارة، ولكن ما هو سقف إمكاناتنا؟ أو بالأحرى سقف "الرحمة" الذي يجب الوقوف عنده، رأفةً بكياننا كبشر؟
بطش إسرائيل؟ الخذلان العالمي؟ آلام الناس؟ تفاقم الأزمة الاقتصادية؟ مصير ودائعنا المصرفية؟ الفتنة المستشرية في مجتمعاتنا؟ نفقاتنا الشهرية؟ فاتورة المولِّد؟ صحتي الجسدية؟ النزوح المحتمل؟ قلق أمي؟ بكاء صديقتي المغتربة؟ منشورات مواقع التواصل الاجتماعي الغريبة؟ تقدمي المهني؟ مشكلات العمل اليومية؟ طعام أنيس - هرُّنا الجميل؟… العشرات من الأفكار الطائرة التي تحط في رأسي، تنخر به قليلاً، ثم تغادر
إن العقل والنفس والجسد، معاً، تحتاج إلى التوازن. العلاقة فيما بينها تفاعلية ومعقّدة، وينتج عنها ماهية كياننا في اللحظة الراهنة.
بدوره، يشير الجسد إلى البنية الفيزيائية والوظائف البيولوجية التي تشمل الأعضاء والأنظمة الحيوية. صحة الجسد تؤثر بشكل كبير على الحالة النفسية والعقلية. على سبيل المثال، التعب الجسدي قد يؤدي إلى مشاعر سلبية.
أما العقل، فيتضمن التفكير، والوعي، والوظائف الإدراكية. العقل يؤثر على كيفية إدراكنا للعالم وكيفية استجابتنا للضغوط والتحديات. الأفكار والمعتقدات العقلية يمكن أن تؤثر على الحالة الجسدية من خلال التأثير على مستوى التوتر أو حتى على صحة الجسم العامة.
وأخيراً، تُعتبر الروح جانباً غير مادي يشمل العواطف والقيم والمعنى الشخصي للحياة. الروح يمكن أن تؤثر على العقل والجسد من خلال تحقيق التوازن الداخلي والسلام النفسي، مما قد ينعكس على الصحة الجسدية والعقلية.
تفاعل هذه الأبعاد الثلاثة يعني أن حالة كل منها تؤثر على الأخرى. على سبيل المثال، الشعور بالقلق (العقل) يمكن أن يؤثر على الصحة الجسدية (الجسد)، بينما ممارسة التأمل (الروح) قد تساعد في تحسين التركيز والتوازن العقلي والجسدي.
ما علاقة كل ذلك بقلقي؟ يكاد رأسي أن ينفجر من هول ما يحدث داخله. كيف لعضو بهذا الحجم أن يحتمل كل تلك الأحداث؟ أبيت على خبر استهداف ضاحية بيروت الجنوبية، وأصحو على خبر اغتيال إسماعيل هنية في طهران، واحتمال توسع رقعة الحرب، ثم تلي ذلك أخبار استهداف الصحافي إسماعيل الغول في غزة، وما بين ذلك من مشاهد قتل ودمار وهلع، وتشييع شهداء، واستعداداتٍ للنزوح المفترض. طبعاً دون أن ننسى دوري خلال اليوم ككاتبة محتوى إبداعي. كان عليَّ أن أمارس مهامي كالمعتاد، وبكل حماس واجتهاد، بمعزل عن فوهة البركان التي أشاهدها تغلي أمامي.
إليكم مشهداً سريالياً آخر، يسمح لي نظام "العمل من المنزل" أن أمارس شيئاً يشبه الانفصام الحاد، وبشكل يومي. كاتبة إبداعية وإنسانة تعيش في منطقة الشرق الأوسط. لك عزيزي القارئ أن تتخيل ذلك. أتموضع منذ أشهر طويلة بشكل إستراتيجي - حاسوبي مع منظر بديع أمامي - شاشات التلفزة التي تحتار أي خبر موتٍ تنقل أولاً. أنجح في عملي، وأفشل في الحفاظ على اتزاني.
يكاد رأسي أن ينفجر من هول ما يحدث داخله.
أتساءل عن حدود قدراتي، أتعاطف مع عقلي المنهك، أحزن على جسدي التعب وأتألَّم على روحي التي يملؤها القيح. هل أطلب الكثير؟ أريد الهدوء لا أكثر، والنوم الهنيء. نحن لم نخلق لنُخزِّن كل هذا الخراب في أنفسنا، نحن خلقنا لنحيا ونحب ونـُـزهر!
بطش إسرائيل؟ الخذلان العالمي؟ النفاق الدولي؟ زيف كل ما صدقناه؟ آلام الناس؟ تفاقم الأزمة الاقتصادية؟ مصير ودائعنا المصرفية؟ انقسام الوطن العمودي؟ الفتنة المستشرية في مجتمعاتنا؟ نفقاتنا الشهرية؟ فاتورة المولِّد؟ صحتي الجسدية؟ النزوح المحتمل؟ قلق أمي؟ بكاء صديقتي المغتربة؟ منشورات مواقع التواصل الاجتماعي الغريبة؟ تقدمي المهني؟ مشكلات العمل اليومية؟ طعام أنيس - هرُّنا الجميل؟ الغداء لليوم؟ وغيرها العشرات من الأفكار الطائرة التي تحط في رأسي، تنخر به قليلاً، ثم تغادر.
أتساءل عن حدود قدراتي، أتعاطف مع عقلي المنهك، أحزن على جسدي التعب وأتألَّم على روحي التي يملؤها القيح. هل أطلب الكثير؟ أريد الهدوء لا أكثر، والنوم الهنيء. نحن لم نخلق لنخزن كل هذا الخراب في أنفسنا، نحن خلقنا لنحيا ونحب ونـُـزهر!
وللمناسبة، تباً للاحتلال، اليوم وغداً وحتى الأبد!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.