قبل حدث غزّة الجلل، قضيتُ عقوداً في الصحافة محاولاً ارتداء "الحياد" في كتاباتي وتحقيقاتي كجزء من مهنية وموضوعية وإنسانية، مثلما يرتدي الصحافيون في غزة بزّةً يُفترض أنها تحيّدهم عن مرمى القنّاص الإسرائيلي "الصهيوني غالباً"، ويُفترض أيضاً أنها ستلقي عليهم غلالةً من الاحترام تمنع الطائرات والقذائف من الاقتراب منهم. وإذ أنجح في مخاتلة نفسي وعقلي بصواب ما أفعل حفاظاً على رأسي ورزقي، فإن صحافيي غزّة يفشلون في المحافظة على رؤوسهم: حتى الآن سقط أكثر من سبعين صحافياً ضحايا لتلك الخديعة المسمّاة حياداً.
حدث مثل هذا القلق "الحيادي" عند كتابتي عن شؤون سوريّة، فعملتُ فيها على مراقبة نفسي ببعض أنواع المراقبة الواعية، مخافة أن تتسبب كلمة تعاطف مع "سوريين آخرين" عاشوا أشدّ أنواع الويلات على مدار عقد كامل، في الأذى لهم ولي. حتى التعاطف يبدو أحياناً نوعاً من المعاقبة. نحن نتربّى تربيةً عاطفيةً في الغالب. لدينا مخزون هائل من الكلمات التي عندما تحتل موقعها على الصفحات تشير إلى نفسها بوضوح على أنها تعاطف مع آخر.
في جزئية الحيادية كتعبير عن الحقيقة، نحن السوريين لدينا مشكلة كبيرة مع المصطلحات وفهمها واستخدامها ورمزيتها، وليس فقط مع مصطلح الحيادية بل مع غيره من المصطلحات مثل الوطنية والمقاومة، وصولاً إلى فلسطين التي كانت يوماً ما قضية العرب المركزية، ليصبح حالياً مسار التطبيع مع الاحتلال هو المركز، وفعل حماس هو الشاذ، والمشكلة أننا في الأساس لم نتوافق على الهوية والقضية، ولم ننجح في التعبير عنها وعن رموزها داخل البلد وخارجه سوى بالشعارات.
جزئية الحيادية كتعبير عن الحقيقة أو عن تجاهل الرأي؟
بين "الانحياز" و"الحيادية" مسافات حقيقية تحيل إلى صراع مفاهيم في العقل، ففي المنطق الصحافي والأكاديمي يجب ألا يكون لديك رأي مسبق عن الأشياء التي تكتب عنها، أياً كان موضوعها، وأن تشارك في البحث عن الحقائق بدلاً من تقديم تفضيلات شخصية تُبنى على ذات متأثرة بالتربية والثقافة والمجتمع وغيرها من الأسباب بالضرورة. لا شك أنّ "الحيادية" مهارة تتطور تدريجياً، يزيدها شغفك بما تكتب، إلا أنها تتحوّل إلى "قيد" يحارب غضبك على هذا العالم الذي ابتكر مفاهيم خرافيةً كثيرةً، ويريد منك الالتزام بها بالضد من صيرورة الأشياء التي تحدث على امتداد العالم.
في جزئية الحيادية كتعبير عن الحقيقة، نحن السوريين لدينا مشكلة كبيرة مع المصطلحات وفهمها واستخدامها ورمزيتها، وليس فقط مع مصطلح الحيادية بل مع غيره من المصطلحات مثل الوطنية والمقاومة، وصولاً إلى فلسطين التي كانت يوماً ما قضية العرب المركزية
الأحداث ذات المنطق التي تحدث في هذا العالم قليلة، والكلّ-المسيطر يريد منك أن تكون حيادياً، وأن تكتم غضبك بطريقة حضارية، حيث يمكن مثلاً أن يحصرك عدوّك في سجن مفتوح مدة سبعة عشر عاماً، وعليك ألا تحتج لأن ذلك منافٍ لقيم العالم الحر، وعليك أن تقول إنّ هذا الفعل هو لحمايتك من نفسك، فأنت "أحمق أو مستهتر بقيمة الحياة"، أو يمكنك أيها الهمجي أن تموت من "فم ساكت"، فصراخك يزعج العالم المتحضر، وحتى سكّان محطة الفضاء الدولية.
دعونا نصيغ السؤال بلغة صحافية: هل يكتب الآخرون عن فلسطين بـ"حيادية"؟ لا شك في أنّ هناك كثيرين ممن يكتبون بنوع من الحيادية عنها، ولكن متابعةً بسيطةً في عوالم اليوم الافتراضية من منصات تواصل ومحطات تلفزة رئيسية عالمية ستقول عكس ذلك، وستشير بوضوح إلى أنّ الذين مع فلسطين ينتمون بغالبيتهم إلى "الهوامش". بالنسبة لي فإنّ انتماء هذه الانحيازات إلى الهوامش لا المتون، ليس نقيصةً بل هو إقرار بماهية الصراع الحقيقي، مستخدمين عبارةً أقلّ حياديةً: "من يمتلك ناصية الحق"، والحق دائماً مضطهد.
ليست المسألة أقليةً مضطهدةً مهمّشةً مقابل أكثرية فاجرة بالمعنى المعرفي أو الإنساني فقط، بل هي مسألة قدرة "الحقيقي" (برغم تعدد وجوه الحقيقة على حد قول ميشيل فوكو)، على الصمود في وجه كميات هائلة من التزييف والخداع والكذب الصراح، في زمن يحاصَر فيه كل صوت مغاير ما عدا بعض الاختراقات التي تُترك لإثبات أنّ هناك ما يسمّى "ديمقراطية" في تلك العوالم. السيطرة الناعمة تؤكّد على وجود هذه "الواخزات"، لكن لكي تبقى ضمن حدود فعلها الضعيف وتُمنَع من أن تنتشر لتطغى على الرواية الرسمية.
لن نذهب كثيراً صوب "صناعة الهولوكوست"، مخافة أن نُتّهم بمعاداة السامية، ويكفي أن ننقل هنا عبارةً ذكرها نورمان فينكلشتاين ومعه وورث بيتينا بيرن، في كتابهما "شعب في مرحلة اختبار" (نيويورك، 1998)، في حديثهما عن "إيلي ويزل" مبتكر فكرة "صناعة الهولوكوست"، والمترجم الرسمي لها، من أنّ "ويزل" صمتَ عن معاناة الفلسطينيين، وأنه "رغم الضغط الشديد، رفض اتخاذ موقف علني في الصراع العربي الإسرائيلي".
"الحب" مرادف للانحياز غالباً، "فعين المحب عن كل عيبٍ كليلةٌ/ وعين السخط تبدي المساوئا". ولكن كيف يمكن الهروب من الحب والانحياز في الكتابة عن "فلسطين"؟ الانحياز مرادف بشكل ما للحب الذي استنكره علينا ذات كارثة الشاعر الفلسطيني "محمود درويش" حين قال: "ارحمونا من حبّكم القاسي".
الصراع مع من؟
حاولتُ كثيراً أن أقف محايداً تحت سماء تلك القطعة الأرضية المسمّاة في كتب الرب "فلسطين"، مستخدماً Google Earth للتفتيش عن أسماء الشوارع والصور وآرمات الأطباء والمحال، ومحاولاً قراءة الكلمات المعلّقة عليها، لأعرف بأي لغة يفكر أناسها وهم يخترقون سور الحكاية ويهدمون المعبد المعولم فوق رؤوس صانعيه من عرب ومن عجم، كأنني ملاك قلبه من حجر يتابع ويسجّل شؤون "قوم" يتصارعون مع "قوم" آخرين في ما بينهم على موارد ونفط وغاز وربما كرامة وأحلام ومستقبل، فأفشل.
حين كتبت عبارتيّ "قوم" و"قوم آخرون"، حسبت نفسي "روبوت" أو "تشات ذكاء صناعي"، يتحدّث عما يجري في بيت غرباء لا يمتّ إليهم بصلة في كوكب آخر، أو قارة أرضية أخرى. صحيح أنهم بشر يتصارعون، وهذه ليست المرة الأولى ولا الأخيرة التي يتصارع فيها بشر على الأرض، ولكن الحيادية في هذه الجملة "تافهة"، مثل الحيادية التي تتحدث عن "حمساويين" بدل "فلسطينيين"، أو "إسرائيليين" بدل "مستوطنين" أو "محتلّين" أو المفردة التي عمل ذاك الكيان لرفعها عن نفسه من سجلات العالم عقوداً طويلةً، ونجح في ذلك. هل أذكرها لكم أم تشغّلون ذاكرتكم لتنقّبوا عنها؟
الأسوأ مما سبق، حديث متكرر في وسائل الإعلام وفي التحليلات العابرة للإستراتيجيات عن "صراع بين غزّة وإسرائيل"، أو "حماس وإسرائيل"، وفي السياق يمررون على الهامش كلمة "الفلسطينيين"، وكأنهم فطريات سامة تنمو على أشجار غزّة وفلسطين غصباً عن أصحابها "اليهود"، ليظهر هذا "النزاع" وكأنّه بين "دولة" حقيقية Is-not-real و"عصابات مارقة" على تلك الدولة. لا تذهبوا بعيداً في أفكاركم، هي المفردات نفسها التي استخدمتها بعض الأنظمة العربية في سياق ثورات الربيع العربي مع التحفظ على هذا الربيع.
متابعة سريعة لتاريخ مفردة "الصراع العربي" مع الكيان، توضح كيف تغيّرت هندسة العقل العربي والعالمي من الرفض والرفض القاطع واعتبار الصراع صراعاً وجودياً، إلى عدّه صراعاً لا يعني سوى أصحابه المتورطين في إقلاق راحة العالم ومشاريع السلام فيه.
في خمسينيات القرن الماضي، ومع انطلاق الإذاعة الإسرائيلية، كانت المفردة المتداولة لوصف العرب، أنهم "مخرّبون" لبناء دولة على النمط الغربي في جغرافيا همجية. في تلك الأوقات كان صوت "ابن الرافدين" و"أمين الناطور" من الإذاعة الإسرائيلية (صوت إسرائيل من أورشليم القدس)، يصف أي عمل احتجاجي يقوم به أي عربي بالعمل التخريبي، إذ لم تكن موضة "الإرهابي" قد انتشرت بعد.
في وقت لاحق، انتشرت كلمة "الإرهابي" في بدايات غزو لبنان، وفي التسعينيات أصبحت الكلمة دلالةً على كل فعل مقاوم ضد الهيمنة الغربية على العالم. في المقابل، خفتت فكرة أن "إسرائيل" دولة عنصرية، وخفّت أيضاً مقارنتها بنظام الأبارتايد في جنوب إفريقيا، وبالطبع استُخدمت الأمم المتحدة لكثير من هذه الأغراض اللغوية التي بدت غير ذات أهمية، لكنها مع الوقت تسببت في نشوء أجيال عربية تسأل فعلياً الآن عن هذه المفردات ومنها "الصهيونية".
العبارة التوصيفية للصراع تغيّرت من "الصراع العربي-الصهيوني" إلى "الصراع العربي-الإسرائيلي" بعد السبعينيات، ثم صارت "الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي" ثم غيّرت الإذاعات والتلفزيونات تلك العبارة إلى عبارة أضيق غابت فيها فلسطين عن التداول الإعلامي، فبات الصراع "صراع إسرائيل مع الضفة الغربية"، ثم "مع غزّة"، ثمّ مع "حماس"، واختفت فلسطين واسمها من الإعلام العربي
العبارة التوصيفية للصراع تغيّرت من "الصراع العربي-الصهيوني" إلى "الصراع العربي-الإسرائيلي" بعد السبعينيات، ثم صارت "الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي" ثم غيّرت الإذاعات والتلفزيونات تلك العبارة إلى عبارة أضيق غابت فيها فلسطين عن التداول الإعلامي، فبات الصراع "صراع إسرائيل مع الضفة الغربية"، ثم "مع غزّة"، ثمّ مع "حماس"، واختفت فلسطين واسمها من الإعلام العربي، برغم أنّ "ياسر عرفات" وخليفته المؤمن "محمود عباس"، صارت لهما "سلطة فلسطينية" ولسوء حظه لم يتمتع عرفات بهذه السلطة وورثه عبّاس.
في كل هذه السردية، كان الحياد غائباً وكان مطلوباً أن تصادر كل قناعاتك بشأن الصراع نفسه وتفريغه من محتواه الحقيقي وسحب السردية، إلى جانب أنّ "إسرائيل" باتت واقعاً ودولةً وعلينا أن نتعاطى معها تطبيعاً وكنموذج يحتذى في الديمقراطية وغير ذلك من عطايا ومنح قدّمها لنا الغرب، وعلينا أن نشكره ونحن ممتنّون له، أعجبنا ذلك أم لم يعجبنا.
إذا قفزنا ناحية الإعلام العربي والسوري والمواقع الإلكترونية مختلفة الأهواء والتوجهات، سنجد خلافات صريحةً في طريقة تعاطيها مع حدث غزة، واختلافاً في المصطلحات والتوصيف للأماكن والحدود والضحايا، وحين ننتقل إلى جهة الإعلام العبري سوف لن نجد أي اختلاف ولو بسيط. إذاً أي حيادية نطلب من الآخرين؟
عن الحياد في الشمال
من يتابع المشهد الراهن في غزة عبر عدسات مختلف مناطق العالم، سيرى بوضوح أنّ أمريكا اللاتينية وإفريقيا والقارة الصينية والهنود وشعوب جنوب شرق آسيا وحتى بطاريق القطب الجنوبي والأسكيمو، يقفون كلهم مع الفلسطينيين. وحدها الدول الاستعمارية تقف في الصف الآخر، وهذه المرة بصفاقة لا تغطي على "عقلانية" مخادعة في ادّعاءات "العدالة وحقوق الأسنان البيضاء". نحن هكذا ونحن من أنشأ دولكم، وعيّن حكامكم، ونحن من نغيّرهم وقتما نشعر بالملل.
لن نذهب هنا في تبرير أسباب الغرام الأوروبي والأمريكي بإسرائيل، إلى اتهام "الهوموسابينس" الأبيض بالعنصرية، فقد تجاوزت أوروبا وجوارها هذا "التفصيل"، وكمية الأنوار التي تفيض منها في الإعلام وفي سياسات الحكومات والأحزاب تشهد على ذلك، أفلا تتدبرون أنّ "سوناك ريتشي" المهاجر الهندي قد بات رئيساً لوزراء الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، وهو يناصر إسرائيل أكثر من نتنياهو؟
من يتابع المشهد الراهن في غزة عبر عدسات مختلف مناطق العالم، سيرى بوضوح أنّ أمريكا اللاتينية وإفريقيا والقارة الصينية والهنود وشعوب جنوب شرق آسيا وحتى بطاريق القطب الجنوبي والأسكيمو، يقفون كلهم مع الفلسطينيين. وحدها الدول الاستعمارية تقف في الصف الآخر.
وحدها بقية نقابات عمالية مستقلة، مثل نقابات عمال الشحن في الموانئ البلجيكية والأسترالية والإسبانية، تقترف الخطايا وتقف مع منع نقل السلاح إلى الكيان، في وقت تُنقل فيه أسلحة من موانئ عربية وتُنشر منظومات صواريخ في بلدان مجاورة لفلسطين ضدّها، وتغنّي دولة مجاورة استجابةً لرغبة حاكمها بالتعويض عن فائض النقص في الرقص على الجراح الفلسطينية.
خلفية حماس الدينية وحيادنا المفخخ
يثير الجدل الديني الدائر حول حماس، الشكوك حول أن تحركاتها مدفوعة بمعتقدات دينية. يقول المنتقدون إن حماس تخدم السياسات الإقليمية وتسبب الدمار في قطاع غزة. وتتساءل هذه الفقرة عما إذا كان دعم حماس انتصاراً للمثل الدينية أو رداً على جهود تشويه صورة الإسلام والعالم العربي، وتالياً عن منطق الانحياز ضدّ هذه المسألة تحديداً. بالضرورة سيكون هناك خطاب يستخدم مختلف الأدوات المتاحة أو المرغوبة لتبرير سياسات اقتصادية أو سياسية. هذا منطق العلاقات البشرية. ولكن أن تفرض على الآخر "إلغاء أحد أبعاد هويته" كي تقبله في عالمك الممتلئ بالهويات وأشكالها، فهذه مغالطة فجّة وتستدعي الضحك فعلياً من هذا المنطق.
إن الحجة ضد وجوب عدم امتلاك حماس لعقيدة دينية، هي وليدة مغالطة منطقية تفترض أن جميع حركات المقاومة السياسية أو الوطنية يجب أن تكون بلا أسس دينية، وهذا مردّه إلى نزعة غربية عولمية ملبرلة، تذهب إلى أن "الدين شرّ باعتباره يلغي الآخر الإنساني". ومع ذلك، فإن الأمثلة التاريخية، مثل عصابات الهاغانا وشتيرن ولوي، فضلاً عن الدعم الديني لإقامة "دولة إسرائيل"، تتحدى هذا الافتراض.
حتى اليوم ليس هناك في "إسرائيل دستور"، وعدم وجود دستور "يعفي" من مسألة تحديد نظام الدولة، وهل هو علماني أم ديني؟ وهذه الفقرة موجهة إلى العلمانيين العرب، وإلى أولئك الذين يتوجسّون من حماس ولا يرون فيها سوى حركة دينية لا حركة مقاومة. ولمحبّي النوع، "معلييش" نتجاهل عبارة نتنياهو أنّ "الحرب في غزّة هي حرب بين أبناء النور وأبناء الظلام"، فهذه الجملة مقتبسة من توراة "هاري بوتر"!
هل محاولات بناء "هيكل" لم يكن يوماً سوى في المتخيل التوراتي فوق أنقاض المسجد الأقصى، ليست عقيدةً دينيةً؟ في الحقيقة وبكل ثقة، إنّ أحد نجاحات السياسة الأمريكية والغربية، بعد مرحلة انتهاء الصراع مع الاتحاد السوفياتي، من خلال مفكريها، من صموئيل هنتنغتون إلى برنارد ليفي وهنري لويس، كان عبر تحويل الصراع من صراع بين مستغِلّين ومستغَلّين، إلى صراع ديني كسبت فيه إسرائيل كثيراً كونها "دولةً دينيةً".
حتى اليوم، لا توجد علمانية في إسرائيل إلا في مظاهر الثياب، وما يوجد من مؤسسات تطغى عليه الرموز الدينية والأساطير التوراتية. وليس فقط عدم وجود دستور والاعتماد على ما يسمى "القوانين الأساس"، لحكم الدولة الصهيونية، هما ما ينمّان عن لا دولتية ذاك الكيان الذي يدّعي الديمقراطية، فتعريف من هو اليهودي أخذ أبعاداً كثيرةً من النزاع والخلاف داخل الكيان نفسه، كما أن "المجتمع الصهيوني" يبحث عن الأكثر تطرفاً ليكون الشخص المناسب في الحكم" (من رسالة ماجستير خريج العلوم السياسية "باسم نعمان"، وهو يجّهز الآن رسالة الدكتوراه).
الرأسمالية الغربية، التي ترتبط بالعلمانية وقيم الليبرالية والاقتصاد الحر، تحمل أيضاً مضامينها الدينية الخفية في تعاطيها مع العالم. "أمريكا تثق بالله" (العبارة مكتوبة على العملة الأمريكية)، وبالقنابل النووية وبالطواطم الحديثة كافة (مثل الإعلام)، التي تدفعها لإرسال بوارجها النووية عبر المحيطات لدعم "الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط" (التي فيها قانون يمنع مناقشة تاريخ التأسيس لدولة العبرانيين)، ضد قطاع جغرافي لا تتجاوز مساحته مساحة مانهاتن. هذا إن لم ننعطف شرقاً ونتحدث عن أرثوذكسية روسيا وشيعيّة طهران وسيخيّة الهند وغيرها.
في الممارسة العملية، عاشت حماس ما تعيشه كل حركات التحرر الوطني العالمية الأخرى من مشكلات في علاقتها مع الإقليم والمحيط، في التمويل، والتسليح، وفي الدفاع عن فكرتها، وحتى في أخطائها وبوصلتها الفلسطينية
إطار حماس الديني في نقاش عامّ
من سوء حظ حماس أو قدرها، أنّه جرى تظهير الصراع في المنطقة العربية من صراع وطني ضد الاستعمار إلى صراع ديني-إسلامي-مسيحي-يهودي، أو كما أراد له منظّر "صراع الحضارات"، هو صراع بين حضارة غربية وهمجية (إسلامية أو عربية أو صينية)، بين "ميتّا حضارة" و"برابرة يقفون على الأبواب".
في الإطار النظري لأيديولوجيا حماس وفكرها، هناك ستة أبعاد في تعاطيها مع المشروع الوطني الفلسطيني الذي شبع انقسامات وأزمات، يهمّنا منها عدّها قضية فلسطين "قضيةً إسلاميةً ووطنيةً وعربيةً وإنسانيةً، تتكامل فيها هذه الدوائر وتنسجم وتتفاعل في مشروع التحرير والعودة دونما تعارض"، وتؤكد حماس: "نحن في مرحلة تحرر وطني، ولسنا في مرحلة دولة أو بناء دولة ولا حتى بناء سلطة، فالشعب الفلسطيني ما زال في مرحلة التحرر من الاحتلال، وعليه، فإنّ تناقضنا الرئيس، كشعب فلسطيني، هو مع الاحتلال الصهيوني".
في الممارسة العملية، عاشت حماس ما تعيشه كل حركات التحرر الوطني العالمية الأخرى من مشكلات في علاقتها مع الإقليم والمحيط، في التمويل، والتسليح، وفي الدفاع عن فكرتها، وحتى في أخطائها وبوصلتها الفلسطينية، ومثالها الأشهر مشاركتها في الصراع السوري-السوري، وهو الخيار المرّ الذي حاول خالد مشعل تفاديه دون جدوى.
في الوقت الراهن، ومع خصاء النظام العربي الرسمي وعجزه الفاضح عن الإتيان بأي فعل مقاوم للغطرسة والإبادة الجماعية والقتل والتهجير، فإنّ البوصلة هي في الجماهير العربية التي لم تتذكر هوية حماس الدينية وخطابها الدعوي، بل تذكرت فيها "تخريبها" الانبطاح العربي أمام العالم بحجة السلام والسكوت عما يزعج العالم المتمدّن في تصرفاته الحضارية، ومنها قمع التظاهرات لأجل فلسطين.
لا شك أنّ فشل الأحزاب والأنظمة القومية في التعاطي الصحيح مع قضية فلسطين وتحويلها إلى مطية لتحقيق أهداف خاصة بهذه الأنظمة، مما لم يعد خافياً. وحتى حركة فتح، لم تكن أحسن حالاً منذ ما قبل أوسلو وحتى اليوم، وباتت شبيهةً بغيرها من الأنظمة العربية، وهذا دفع بالكثير من الفلسطينيين إلى حضن حماس، يضاف إلى ذلك، غياب التنظيمات الفلسطينية الفاعلة على الساحة الفلسطينية نفسها، وبالطبع السياسات الصهيونية العنصرية المستمرة حتى اليوم.
أخيراً، والموضوع يستحق نقاشاً منفصلاً، فإنّ انتصار "حماس" في غزّة هو انتصار لمفهوم القوة في العلاقات الدولية، وله أبعاده الوطنية في فلسطين، خاصةً مع انكفاء "الرموز الإسلامية" في خطاب حماس الإعلامي، وهذا سيعني نوعاً من "الشفاء" العربي من الذل والانبطاح أمام مشاريع الهيمنة المستمرة والتسلط على القرار الوطني والعربي، ولا شك أنّ انتصار حماس ليس أبداً انتصاراً لـ"الإخوان المسلمين" البريطانيين ولو تحالفت حماس معهم في بعض مشاريعهم، وكانت منبوذةً في حينها، فإنها في فلسطين تمثّل مشروع تحرر وطني تحوّل على يد فلسطينيين آخرين إلى مشروع استلام، وقد نتحفّظ على أنواع تحالفات حماس الراهنة لأسباب كثيرة، ولكن من لديه بديل عن هذه التحالفات فليتحفنا بها.
تاريخ 7 تشرين الأول/ أكتوبر، إعادة إحياء للقضية الفلسطينية في وقت كنا فيه قاب قوسين أو أدنى من دفنها، وقد أعطى صعقةً كهربائيةً لمن مات عنده الأمل، لكن على ما يبدو فإنّ فعل الخذلان أخذ منا ما أخذ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع