شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
بيان لعالم يتنقّل مبتسماً في ظلال المجزرة

بيان لعالم يتنقّل مبتسماً في ظلال المجزرة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والحقيقة

الأحد 22 أكتوبر 202301:56 م

فعلوها قبل ذلك، في قانا، في دير ياسين، في حولا، في صبرا وشاتيلا، في جنين، في الضفة، في غزة مرّات ومرّات، وحين استهدفوا شيرين أبو عاقلة، وحين استهدفوا الأسبوع المنصرم الإعلام في جنوب لبنان، ولاحقاً حين استهدفوا المستشفى المعمداني في غزة منذ ثلاثة أيام، حيث استشهد ما يتخطى 500 فلسطيني، جلّهم من الأطفال والنساء.

لقد قتلوا كل ما يمكنهم أن يقتلوه، أردوا كل ما يمكنهم أن يردوه، ونجحوا في التنصّل من كل جريمة ارتكبوها، وكل مرة كانت المجازر تتحوّل إلى مجرّد ذكرى، إلى مجرّد شاهد يشرف على تحوّل الأسماء والجثث والوجوه معها إلى مشهد تستحضره الشعوب في إثبات أو نفي وجهة نظر. لقد تحوّل كل شيء، كل ما يلي ذلك، إلى إثبات إضافي على أصالة الإجرام والإبادة والبرود. هناك حيث حافظ بقية العالم، في كل ما جرى وكل ما يجري، على سيلانه، إذ لم يتوقف أبداً عند أي حاجز، عند أي تخط أو أي مجزرة. كانت الأمور تمرّ برفق وصمت وذهول، دون إقلاق أي راحة.

كنا، وبإصرارنا المعتاد، نشارك في كل هذا، في كل ما يجري وما يحتمل أن يجري، بمعرفة أو من دون معرفة، بإدراك ومن دون إدراك. وما التذكير إلا فعل يشير إلى خيانة، وليست الذكرى إلا إطاراً نستحضره لكي نحاول تأطير ما يسيل من بين أصابعنا وأمام عيوننا بمحاذاة فنجان قهوة، على الشاشات وعلى صفحات المياه، نستحضره لنشهد اضمحلال بقايا بشرية.

قتلوا كل ما يمكنهم أن يقتلوه، أردوا كل ما يمكنهم أن يردوه، ونجحوا في التنصّل من كل جريمة ارتكبوها، وكل مرة كانت المجازر تتحوّل إلى مجرّد ذكرى، إلى مجرّد شاهد يشرف على تحوّل الأسماء والجثث والوجوه إلى مشهد تستحضره الشعوب

لقد مرّ كل شيء في السابق، وسيمرّ في المستقبل. كل شيء سيكون مجرّد ذكرى جديدة تضاف إلى صفحات بيضاء مختومة في عالم يمارس هوايته بالتنقل بين طرفين، بين السيلان من ناحية والتنصّل من ناحية أخرى. حتى المواقف، من أقصاها إلى أقصاها، أصبحت بعد كل هذه السياقات، كما كانت عليه في السابق، بمثابة نزيف يفرّغ الأجساد من شظايا آلات القتل، ويفرّغ الأرواح من لذّاتها، ويحنّط كل ما تبقى من بقايا عبق.

لم يعد من الممكن وصف هذا العالم إلا بمرادفات بسيطة تشير إلى التنصّل، ولاحقاً، أي في أسوأ الأحوال، إلى التبرير، وما كل حالات الغضب إلا سجن لما تبقى من إمكانية في ظل تدفق القبول ما بين الساحات والشوارع والمنازل والحارات.

كان كل شيء يشي بأن منظومة القيم الحداثية نفسها ما عادت قيمية، حيث فقدت كل ما في جعبتها من مخزون، وباتت واهية وفارغة، تماماً كما الروح الهائمة والمعلقة بين تلفاز من هنا وجهاز وحاسوب من هناك. مجرد لوح تخطّ الناس عليه كل ما يخرقها، وكل إمكانياتها المؤكدة على احتمال واحد، وهو إمكانية الخرق المضاعف.

كنا نشهد، ونغضب، ونشتم، في إطار المسموح والممكن، ليس في المكان والزمان فحسب، وليس في الأفق والحيّز فقط، بل في ما كان يقارب انعكاساً لروح متلاشية وتاريخ بآفاق مسدودة

لاحقاً، أي بعد أعوام ستأتي عاجلاً أم آجلاً بكل أشكال التدفق والجريمة، سواء أكنا أو لم نكن، سيمر التاريخ بمفرداته ومعانيه الباردة، بمعانيه منتهية الصلاحية، على بقايا وأشلاء، وعلى وقع أسلحة قتل استثنائية، ليروي قصة عايشناها، وعشنا فيها، وعاشت فينا، دون أن نمارس أية هواية إلا الوقوف على الهامش المسموح لنا الوقوف فيه.

حيث سيقول التاريخ إننا كنا بمثابة خط أحمر ممتد من أسفل الصفحة إلى أعلاها، نعزل الهامش عن المتن، مجرّد بقايا جهاز فصل واهٍ بين القنبلة والمبنى، بين الجثة والكفن. إذ كنا، كأفراد وجماعات، مجموعة نقاط، لا بل مجموعة حجارة تُستخدم لتزيد من حجم وكثافة الجدار العازل والفاصل بين وحشية من ناحية وانهزام من كل النواحي.

كنا نشهد، ونغضب، ونشتم، في إطار المسموح والممكن، ليس في المكان والزمان فحسب، وليس في الأفق والحيّز فقط، بل في ما كان يقارب انعكاساً لروح متلاشية وتاريخ بآفاق مسدودة. لكن هذا المسموح، وهذا الممكن، لم يتخطيا كل هشاشة يمكنها إيقاف ذلك السيلان. لعلها، ولعلنا، لسنا غير عوازل تحيل إلى نهايات متاهة واستحضار متاهة جديدة. لسنا إلا كثافة تتسلّل خلف كافة محاولات تبرئة الضمير بعد معاينة كل ما جرى.

غداً، عندما تأتي حقبة جديدة لتُبنى على أنقاضنا، وتلاشينا، وعلى فراغ أحدثه كل هذا الدمار، سيعاد بناء كل شي إلى مفاصل وأجساد وآمال أناس يشبهون من يعيشون الآن، وستكون إحباطاتهم ونكساتهم، كما إحباطاتنا ونكساتنا، مواد خاماً تحاول إعاقة الجريمة، إلا أن مفعولها لن يساهم إلا بتدفقها، ولاحقاً، التنصّل منها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ألم يحن الوقت لتأديب الخدائع الكبرى؟

لا مكان للكلل أو الملل في رصيف22، إذ لا نتوانى البتّة في إسقاط القناع عن الأقاويل التّي يروّج لها أهل السّلطة وأنصارهم. معاً، يمكننا دحض الأكاذيب من دون خشية وخلق مجتمعٍ يتطلّع إلى الشفافيّة والوضوح كركيزةٍ لمبادئه وأفكاره. 

Website by WhiteBeard
Popup Image