شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
كيف تعاطفتُ مع راغب علامة وجمهوره وأنا تحت الإبادة

كيف تعاطفتُ مع راغب علامة وجمهوره وأنا تحت الإبادة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الجمعة 5 يوليو 202412:15 م

يراسلني الكثير من الأصدقاء وغيرهم، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، متخطين سؤال "كيفك؟"، الذي درج بداية حرب الإبادة. مبادرين بالقول: "نتمنى أن أكون بينكم في غزة، وأعيش ما تعيشونه".

لا استغرب قسوة العبارة، ولا مخيلة جلد الذات التي يتحدث بها أولئك. لكني أستغرب اجتماع عدد كبير منهم على نفس الشعور، وهو تجريب مأساة السكن في غزة خلال الحرب.

ترى ما الدافع لذلك؟ ما الأسباب التي تدفع أحدهم إلى الميل إلى تجريب فاجعة يمر بها الآخر؟

حقيقة يا أصدقائي، ويا غير أصدقائي، أود أن أخبركم بأنني مللت هذه النبرة أيضاً. ولم أعد أحتمل هذه الشفقة المبالغ فيها تجاهي وتجاه سكان غزة.

مللت محاولات المشاركة من بعيد والالتحام المعنوي بالمأساة. فكلما رأيت هذه الكلمات، اعتبرتها لكنة جديدة للغطس في الألم، دون أدنى مقدار من البلل.

يمكن اعتبار هذه الرغبة السوشلجية بمثابة تعبير عن أقسى درجات العجز في تحريك الساكن، ومنع الإبادة ضد سكان غزة.

وأنا أتأمل هذه الحالة بنوع من الحيرة، فلست متهماً أحداً بالمشاركة في حرب الإبادة ضدنا.

أنا هنا، منتهك بكل معنى الكلمة، وأعيش ضروباً من الألم والمشقة لا يمكن الوصول لشكلهما عبر اللغة. لكن أرفض أن يذكرني أحد بأنني مثير للشفقة، أو ضعيف، وأحتاج للتضامن المعنوي.

غزة ليست بحاجة لهذا النوع من التعاطف أيها العربي. فتلك نبرة لا تُشعر أهل غزة بالأمان الذي فقدوه منذ بداية الحرب، ولا تعيد أياً منا من خيمته إلى منزله. كما أنها لا تعيد الذين ماتوا خلال الحرب. ولا تسترجع أي لحظة معهم.

هذا التعاطف الذي يدعو للسخرية، ليس إلا مثل أن يقوم أحدهم بتعطير الجثة. فكل شيء هنا في غزة جاهز للدفن. حتى نحن، من نتحرك، جاهزون للدفن.

جوكر غزة

كان من الممكن أن تكون لحظة التعاطف هذه أكثر جدوى، لو تحولت إلى اعتراض على الأرض، يصنع التغيير.

صحيح أنني كائن سوشلجي لبعض الوقت. لكنني كائن يعيش في عمق الإبادة أيضاً. أواجه أقسى أصناف العنف والتعذيب والقهر، على مدار أكثر من تسعة أشهر.

لم ينفعني تعاطف أحدهم، ولم أشعر للحظة بأنني معكم وفي عالمكم طيلة أيام الحرب.

فنحن داخل أسطوانة مصيدة الفئران، تهزنا القذائف، وتهز قلوبنا أصوات الصواريخ، وتلاحقنا الكواد كابتر بين منازلنا كما الذباب، لدرجة أنني، وفي لحظة ما، تمنيت الصمم.

كانت طائرات الزنانات والكواد كابتر والـ F16، جميعها، تحلق في سمائي. كم كرهت سمائي وأرضي ووجودي لحظتئذ.

رحت وكتبت منشوراً. قرأت تعليق أحد المتعاطفين عليه. ولا أخفي أنني شتمته في سري، لأنني شعرت للحظة بأنني المهرج الجديد، "جوكر غزة". أمشي حافياً على الزجاج، يضحك لي المارون، لكنهم بالطبع لا يعيشون ألمي.

"خدوني على غزة" هي بمثابة صرخة من الممكن أن تكون أمنية صادقة في لحظتها. لكنها مشاعر مؤقتة غير قابلة للتجريب.

والحقيقة أنه ليس ثمة إنسان عاقل يحتمل أن يعيش داخل غزة خلال هذه الحرب.

غزة ليست بحاجة لهذا النوع من التعاطف أيها العربي. فتلك نبرة لا تُشعر أهل غزة بالأمان الذي فقدوه منذ بداية الحرب، ولا تعيد أياً منا من خيمته إلى منزله

غزة لزيادة عدد المتابعين

المعبر مغلق بوجه القادمين إلى غزة منذ بداية الحرب. يسألني أحدهم: "شوف لي طريق آجي دخيلك". ماذا ستفعل يا عزيزي؟ ما هو شكل التضامن الذي تريد أن تجربه؟ هل تجريب المعاناة معي وتعريض حياتك للخطر، سيساهم في تخفيف الكارثة عني؟

هنالك مخيلة غريبة يمكن أن أحدثكم عنها هنا بشأن من زاروا غزة خلال الحرب، ولست أدري كيف تم تنسيق الزيارة لهم، وما الهدف من هذا المجيء؟ كأن بعض المشاهير الذين زاروا غزة خلال الحرب، مغامرين يعشقون المتعة، كمن يحمل بعض الأمتعة والمقبلات والمشهيات والرغبة في الاكتشاف، ويذهب نحو منطقة خطر في أطراف الغابة.

يذهب إلى هناك، وتكون الطريق بالنسبة له حافلة بالأفكار الملتهبة والمشاعر المتأججة من أجل الوصول. يستعرض أفكاره ويخطط كيف من الممكن أن تظهر رحلته، فيما بعد، بأفضل شكل أمام الجمهور، أو بأكثر طريقة مؤثرة ومشوقة وملفتة وقابلة للمشاركة مع أكبر عدد ممكن من المتابعين.

هذا ما حدث فعلاً، بعض المشاهير خرجوا من غزة، بعد أن قضوا هنا عدة أيام. صوّروا فيديوهات لهم داخل غزة مع المصابين والموتى وأبناء الشهداء. ترى ما الذي يُجبرهم على تحمل ذلك؟ هل هو المزيد من الشهرة، المزيد من المال؟

أحدهم، وبعد انتهاء مغامرته ووصوله إلى دياره، بدأ بالتباهي بحصوله على مليون متابع جديد من قطاع غزة. ولعل هذا ما سيكون أيضاً طريقاً لترويج صفحته بين المواطنين العرب.

هكذا، تحقق الهدف من الرحلة القصيرة المثيرة، وازداد عدد المتابعين، وازدادت فرص العمل المستقبلية. هنيئاً لك.

ترند

لقد تحولت غزة إلى ترند، يتهافت إليه السوشلجية. ويحاولون قدر المستطاع أن يحققوا، من خلال الانغماس به بأي شكل، مشاهدات وأرباحاً وإعلانات.

قد ينتقدني أحدهم ويقول إني أشوّه أي محاولة للتضامن مع غزة. قد يجد هذا من يوافقه الرأي للحظة، لكن هنالك فعلاً من وقف مع غزة دون هذه البهرجة. دون أن يصوّر نفسه مع مشاهد المعاناة.

هناك من جاء وخرج في الظل دون احتفال بعدد المتابعين، ودون الترويج ليده، وهي تمتد لتساعد الناس. فمنهم من كانت يده أكبر من حجم وجه طفل وهو يمدها في الكادر التسويقي.

كل شيء هنا في غزة جاهز للدفن. حتى نحن، من نتحرك، جاهزون للدفن

كلب يداهم مسرح قرطاج

قبل أيام شاهدنا جميلات تونس اللواتي أحترمهن جميعاً، يصعدن خشبة المسرح، يغنين ويرقصن مع الفنان اللبناني راغب علامة.

أنا من معجبي راغب علامة، وقد شاهدت هذا العرض ضمن تسجيلات مهرجان قرطاج الفني.

ولم أنقم على أحد، ولم اعترض على أيّ فعل. بل كنت أفرح لفرحة هؤلاء. لكنني دون أي مقاومة مني، كنت أتخيل جماجم موتى حرب غزة بدلاً من وجوه الجمهور.

كنت أتخيل الكلب الذي أطلقه جنود العدو في بيت الحاجة الفلسطينية في جباليا شمال القطاع. يصعد هذا الكلب المسرح ويهاجم الفنان اللبناني وهو يغني، ويطارد جميع العازفين.

وأنا شديد التعاطف مع ما يحدث على المسرح. قمت بتحريك إصبعي فوق شاشة هاتفي النقال، لأشاهد فيديو آخر. ما أقذرني!

يعلم العدو تماماً بأن ما يملكه العرب تجاه غزة هو التعاطف فقط. لا شيء غير التعاطف. ولو عرف أن مليون عربي يمكن أن يقدموا خُطى عملية باتجاه وقف الإبادة الجماعية بحق الأبرياء، لما أقدم عليها من الأصل.

يتراءى لي خروج 1% من الشعب المصري وحده، بطريقة منظمة ومدنية على الحدود بين مصر وفلسطين. يقيمون هناك لعدة ليالي، فتنتهي الإبادة. ويتوقف المحتل عن التهام أجسادنا في غزة.

يتراءى لي العرب وهم يخرجون نحو سفارات العدو كي يوقفوا الحرب. صحيح، كيف أبقت حكوماتهم دبلوماسيي العدو في أرض عربية بعد كل ما حدث لغزة؟

لكن الشعوب لا تملك سوى التعاطف الممل. وكأن كل هؤلاء يربتون على كتفي ويقولون لي: "مُت وأنا أصنع الضجيج باسمك. فلا يُعقل أن تموت دون جلبة".

إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image