شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
هل تخسر لغتك العربية عند التحدّث بلغات أجنبية؟

هل تخسر لغتك العربية عند التحدّث بلغات أجنبية؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والمهاجرون العرب

الأربعاء 28 أغسطس 202411:30 ص
Read in English:

Do we lose our Arabic when we speak in foreign languages?

تلامس أناملي لوحة مفاتيح الحاسوب وأنا أحاول نكش أماكن الحروف من ذاكرتي. فمنذ أن غيّر تقني المعلومات لوحة المفاتيح في حاسوبي واستبدلها بأخرى من دون أحرفٍ عربية، وأنا أحاول عبثاً البحث عن أحرفي الضائعة لاستردادها. لسنوات، ضاعت مني وما كنت أجدها. لم يدرك التقني آنذاك أهميّة هذه الأحرف لي، وأنا أيضاً لم أكن أدرك أهميّتها، إذ كانت دائماً موجودة بقربي وحيّةً من حولي. لم أشعر بالأحرف تتلاشى ولم ألمس فداحة خسارتها إلا في الغربة.

طفولة برعاية "قناة شباب المستقبل"

كبرت وأنا على علاقة وطيدة باللغة العربية الفصحى، الأمر الذي لم يكن مألوفاً آنذاك بين أقراني. ففي لبنان، من الشائع أن يتعلّم الأطفال الصغار المصطلحات الفرنسية أو الإنكليزية قبل العربية حتى، ظنّاً من الأهل أنهم يقدّمون معروفاً لأطفالهم.

أتقنت تشكيل الكلمات قبل أن أتعلّم قواعد إعرابها، فقد كبرت على البرامج الكرتونية لقناة "سبيستون" الناطقة باللغة العربية الفصحى. لم يكن على تلفازنا قنوات Disney الناطقة بالإنكليزية أو Tiji الفرنسية. كنت أترقّب مشاهدة "المحقق كونان" وهو يحلّ ألغاز الجرائم بلغة عربية مدبلجة، فكبرت وكبر معي الشغف بالألغاز والشغف بالعربية. "المحقق كونان" أو "هزيم الرعد" أو "القناص" أو "سابق ولاحق"، كلها برامج تلفزيونية كوّنت لغتي العربية، فبتّ أنجح دائماً في اختبار التشكيل حتى لو فشلت في اختبار الإعراب.

بدايةً، تعلّمت الفصحى عبر حاسة السمع، بمشاهدة البرامج الكرتونية وتالياً عندما كبرت بالاستماع إلى الأغاني العربية الفصيحة. لاحقاً، تمكّنت من اللغة عبر القراءة التي انكببت عليها، رواياتٍ بوليسية ودواوينَ شعرية. أذكر تمضية ليلة كاملة لم أنم فيها حتى السادسة صباحاً بعد أن أنهيت قراءة رواية بوليسية تحت غطاء السرير وعلى ضوء هاتف "نوكيا" القديم المعروف بـ"أبي لمبة".

كيف لا تكفينا لغة فيها من المفردات ما يكفي للتعبير عنا؟ هي ليست اللغة بقدر ما هو استسلامنا لهيمنة لغة أخرى على حيواتنا وذواتنا وأفكارنا

من رواية كنت ألتهمها كل أسبوع، فقدت تدريجيّاً القدرة على المطالعة. لم يساعد المناخ اللبناني في السنوات الأخيرة على الراحة النفسية أو ايجاد فسحة كافية وطاقة ذهنية للقراءة. كذلك، لم تسعفني انشغالاتي، وتفاقمت صعوبتي على التركيز الطويل الذي تتطلبه القراءة. ساهمت التكنولوجيا والاجتياح الفظّ لوسائل التواصل الاجتماعي لحياتنا في تشتيتي أكثر. فاقتصرت قراءاتي على المقالات والقصص القصيرة أونلاين، ولم يعد بإمكاني الجلوس لمطالعة كتابٍ كامل.

في تلك السنوات، كنت أكتب باللغة العربية بداعي عملي الصحفي، فبقيت على علاقة وطيدة مع العربية، وإن فترت نسبيّاً. ثم انتقلت للعمل، من الصحافة إلى جمعية غير حكومية، حال الكثير من خريجي الصحافة في لبنان، الذين انتقلوا للعمل في المنظمات غير الحكومية، حيث الوظائف أكثر وفرة من المجال الإعلامي وحيث توجد فسحة أكبر للعمل في المجال الحقوقي.

 هناك، تحوّلت لغة العمل جذريّاً إلى اللغة الإنكليزية، خاصّةً لناحية رسائل البريد المتبادَلة والتقارير المكتوبة. بدأت العمل على تمكين لغتي الإنكليزية، ومن غير قصد بدأت لغتي العربية تنحسر تدريجيّاً، حتى اقتصرت على بعض القراءات السريعة والكلام، وهو باللغة العربية الدارجة.

للعربية نكهةٌ أخرى في الغربة

سافرت منذ سنتين لمتابعة دراستي في ألمانيا، حيث تعرّفت على زملاء دراسة من كافة أنحاء العالم. وبالرغم من التجربة الساحرة التي أمضيتها، فإن علاقتي باللغة العربية تراجعت أكثر. فقد أصبحت الأولوية لتمتين لغتي الإنكليزية من أجل الدراسة وإجراء البحوث الأكاديمية. أضحت الإنكليزية وسيطاً، وإن لم يكن مرغوباً من أحد، للتواصل مع أصدقاء لا لغة مشتركة بيننا غيرها، بالرغم من أنها ليست لغتنا الأم.

أمضيت هاتين السنتين أعزّز لغتي الإنكليزية وأتمرّس بها، كما وأعمل على تحسين لغتي الألمانية التي بدأت بدراستها منذ بضعة سنوات، وذلك لأتمكن من التواصل مع الآخرين وقضاء الحاجات اليومية في ألمانيا.

لم أنتبه في هاتين السنتين إلى ما كنت أخسره. بعض المفردات باللغة العربية المحكية بدأت تتلاشى من ذاكرتي لتحل محلها مفردات باللغة الإنكليزية، حتى أنني في إحدى الليالي شاهدت مناماً وفيه صديقي غاضب مني لأنني لا أتمكن من إيجاد مفرداتي العربية، وكان هذا الحلم بالطبع إسقاطاً نفسيّاً بحتاً. كان شعوراً لاواعياً بتراكم الخسائر.

بدأت بالفعل بخسارة المفردات العربية قبل أن أسافر، مع ازدياد استهلاكي للمحتوى الأونلاين باللغة الإنكليزية، حيث وجدت فيه تعبيراً أوسع عن مكنوناتي وعن مشاعر كثيرة تختلجني لم تواكبها اللغة العربية.

كيف يستطيع أصدقائي اللبنانيون والعرب الحب والارتباط بأشخاص لا يتكلمون العربية؟ كيف يعبّرون عما إذا كانوا يشعرون بالحب، أم بالوله، أم بالعشق، أم بالهيام، أم بعشرين مفردة أخرى تصف درجات الحب في لغة الضاد؟ كيف يكونون ذواتهم في لغة أخرى؟

أتساءل كيف لا تكفينا لغة فيها من المفردات ما يكفي للتعبير عنا؟ وأرى أنها ليست اللغة، بقدر ما هو المحتوى المنتَج بالعربية والذي لم يستطع أن يواكب وجودنا في هذا العالم. هي ليست اللغة بقدر ما هو استسلامنا لهيمنة لغة أخرى على حيواتنا وذواتنا وأفكارنا.

في هاتين السنتين، شعرت بالوحدة كثيراً. شعور الوحدة لم يكن غريباً عني، فقد كان شعوراً رافقني واعتدته في كل مكان. لكن وحدة جديدة وغريبة طرأت عليّ، وهي اغترابي عن اللغة العربية ووحدتي فيها. بعد قضاء نهار طويل في الجامعة، كنت أعود متعبةً إلى السكن المشترك مساءً، وحين أريد الطهي مع زميلي البنغلادشي، أبادر للكلام معه باللغة العربية قبل أن أتنبه وأعود للإنكليزية.

حين أخرج للمشي وصديقتي التركية لنتبادل أطراف حديثٍ حميم، أشعر باللغة العربية تتدفّق لحلقي وتقف هناك منتظرةً إذناً بالخروج. وحين التقيت في البندقية بصديقتي الإيطالية التي تعيش في بيروت، شعرت بأنني أستطيع أخيراً التعبير بالعربية. مرة أخرى، اندفقت اللغة العربية إلى حلقي وتوقفت هناك، لتفسح المجال أمام اللغة الإنكليزية وهي الوسيطة بيننا.

لم يقتصر هذا الأمر على الأصدقاء غير الناطقين بالعربية. فحتى حين كنت ألتقي مع أصدقاء من البلدان الـ 22، كانت الإنكليزية أو الفرنسية الأرض المحايدة التي نقف عليها لنلتقي. فنستسهل التكلم بلغة أجنبية بدل بذل مجهود لتقريب لكنتينا.

أما حين أتكلم مكالمة حميمة عبر الهاتف، أريد فيها التعبير عن نفسي ومكنوناتي، فأشعر بالإحباط والخذلان ثم الغضب من ذاتي، حين تخونني المفردات العربية فألجأ للغة الإنكليزية للتعبير بها عن وجودي ومشاعري.

ولكن متى وكيف أصبحنا نستسهل التواصل بلغة أجنبية أكثر من التواصل باللغة بالفصحى، وهو أمرٌ يبدو للوهلة الأولى مجنوناً؟ ولماذا استسلمنا للوجود والتواصل بلغة المستعمر حصراً؟

لخسارة اللغة العربية طعمٌ أمرّ حين يمتزج بنكهة الغربة. فعمّي الذي هاجر لبنان إلى سويسرا ثم فرنسا في أواخر مراهقته وبداية الحرب الأهلية اللبنانية، لم تُتَح له وسائل التواصل وسهولة الاتصالات ولا الجالية العربية المتوفرة اليوم. عبر العقود، نسي عمي بعض الأحرف والمفردات العامية. وقبل أن يتاح له السفر والتواصل المستمر مع العائلة في لبنان ومع مهاجرين لبنانيين في فرنسا، كانت الأغاني الطربية الخيط المتبقي الذي يربطه بهذه اللغة.

في ستينياته، قد يحتاج عمي إلى برهةٍ ليميّز بين حرفين متشابهين كالعين والغين، ولكنه لا يحتاج المجهود نفسه لغناء "رباعيات الخيام" مع تسجيلٍ لأم كلثوم. أما أنا، فقد شعرت بأنه لا يكفي أن أستمع للأغاني وأن تحيا اللغة العربية في داخلي مختبئةً وخائفة. فهي لن تحيا مطوّلاً إن لم تخرج مني إلى العالم، لن ترى النور إن بقيت عالقة في حلقي.

سجينة تنتظر حريّتها للتحليق

أدركت في الآونة الأخيرة أن مكتسباتي في اللغات الأخرى وخاصةً الإنكليزية أتت على حساب لغتي العربية، وأقول لغتي لأنها اللغة الخاصة بي. بالطبع، لم أخسر إلمامي باللغة خلال السنتين أو حتى السبع سنوات التي مضت، ولكنني خسرت بعضاً من علاقتي الوطيدة بها والحميمية التي كانت تجمعنا. أصبحت أكتب باللغة العربية كترجمةٍ لأفكارٍ تأتي أولاً بالإنكليزية، ولم تعد تنساب بحريّة باللغة العربية كما كانت تفعل من قبل.

لا أريد أن تبقى في داخلي فُتات اللغة العربية، بل أريدها لغةً تتنفس وتعيش وتشعر معي. أريد أن تكون اللغة العربية حيّةً في كافة حواسي، أسمعها، أقرأها، أنطقها وأكتبها

شاركت مؤخّراً في تدريب في مصر حول الهجرة، وكان تدريباً مرتكزاً على العالم العربي، ناطقاً باللغة العربية، مواداً ومشاركين. أدركت حينها مدى تعطّشي للتعبير في لغتي الأم، ليس فقط عن نفسي إنما أيضاً عن المعرفة، ووجدت في الحاضرين أيضاً، لغة سجينة تنتظر إذناً بالخروج.

واجهت صعوبةً في ترجمة المعرفة التي اكتسبتها باللغة الإنكليزية خلال دراستي للماجستير في الهجرة إلى اللغة العربية، وتنبّهت كذلك إلى تهميش الإنتاج المعرفي باللغة العربية في لبنان. وهذا ما صادفته لدى إعدادي رسالة الماجستير، حين وجدت ندرةً في الأبحاث التي ننتجها بلغتنا.

بالرغم من أن علم الهجرة مثلاً يعنينا بشكل أولي في دول الجنوب العالمي، حيث تستقبل هذه الدول النسبة الأعلى من اللاجئين عالميّاً، وبالرغم من أننا في العالم العربي ننتج المعرفة العلمية والأوراق البحثية حول الهجرة وغيرها من المسائل الاجتماعية، إلّا أن غالبية هذه الأبحاث هي في اللغة الإنكليزية أو الفرنسية، في مقابل شحّ في الأبحاث التي تصدر بلغتنا الأم.

في المعرفة كما في المشاعر، لطالما تساءلت كيف يستطيع أصدقائي اللبنانيون والعرب الحب والارتباط بأشخاص لا يتكلمون العربية؟ كيف يكونون أنفسهم ويتواجدون كاملين مع شركائهم بغياب لغتهم العربية؟ كيف يعبّرون عما إذا كانوا يشعرون بالحب، أم بالوله، أم بالعشق، أم بالهيام، أم بعشرين مفردة أخرى تصف درجات الحب في لغة الضاد؟ كيف يكونون ذواتهم في لغة أخرى؟

أفكّر في اللغة والطعام كواحدة من الأمور التي تربط المهاجرين ببلدانهم الأصلية ولو بعد أجيال من الهجرة والانقطاع عن الوطن، وأفكّر أيضاً أنني لا أريد أن تبقى في داخلي فُتات اللغة العربية، بل أريدها لغةً تتنفس وتعيش وتشعر معي. أريد أن تكون اللغة العربية حيّةً في كافة حواسي، أسمعها، أقرأها، أنطقها وأكتبها.

أشعر بالنشوة حين تلتقي أصابعي بالأحرف العربيّة بعد هجران، حين سمحت لكلماتها أن تنساب من حلقي، وأن تطير محلّقةً بحريّة بعد أن كانت سجينة للخوف.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard