شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
هذا العالم ليس مكاناً صالحاً للحياة

هذا العالم ليس مكاناً صالحاً للحياة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء نحن والطفولة

الثلاثاء 27 أغسطس 202412:15 م

 أحاول أن أتخيل الشعور بالفرح دون وخز بالقلب، والإحساس بالحب دون رغبة بالبكاء. أفكر يومياً بمصدر الألم الذي يعيش داخلي، وأفكر كثيراً بشكل حياتي دونه، ثم أخاف. أخاف أن أعيش بدونه، وأصير امرأة ربما سعيدة أو على الأقل راضية، لا تتأمّل الجدران ولا تحدّق بالسقف ولا ترسم النوافذ، ولا تستخدم النوم لتتلاعب بعقرب الوقت، لتثبت حجّة العدم في وجه الحياة التي تمضي بلا اكتراث.

هل كان خطأي أني لم أستخدم دفتر المذكرات كما يجب؟ هل أفسدت التعويذة بنفسي، بهوسي بتدوين الخيبات وآلام الآخرين بدلاً من تدوين مغامرات المراهقات المجنونات؟ وهل لي، وأنا أمتلك دفتراً من الآلام، أن أكون سعيدة يوماً؟

كبرت، وأنا أستشعر الحزن في كلّ شيء، ومن كلّ شيء، ورغم يقيني بالنهاية، كنت أمشي دائماً مغمضة العينين نحو الحياة التي تغويني بالحيل ذاتها، فتنتهي القصص دائماً كما بدأت.

"المرأة التي قرأت كل الحكايات من نهايتها،

ودفنت صوتها في دفتر صغير

واخترعت ألف حياة لنفسها

صارت في النهاية

وحيدة

بائسة

وخائبة

تتلمس جدران أي حفرة كما تتلمّس جلدها"

عندما أشعر بالحب، أي حب، تتملكني رغبة بالبكاء، ربما يتعلق الأمر بالرحيل بالنهايات وبماض بعيد، بفكرتي عن الانتظار التي أحملها كمسدس مصوّبٍ نحو جمجمتي في كلّ لحظة، بعد انتظار طويل لحبيب وحيد رتبت كل شيء من أجل موعدي الأول معه، لكنه لم يأت

الحب

عندما أشعر بالحب، أي حب، تتملكني رغبة بالبكاء، ربما يتعلق الأمر بالرحيل بالنهايات وبماض بعيد، بفكرتي عن الانتظار التي أحملها كمسدس مصوّبٍ نحو جمجمتي في كلّ لحظة، بعد انتظار طويل لحبيب وحيد رتبت كل شيء من أجل موعدي الأول معه، لكنه لم يأت.

فاسمه لم يكن أكثر من اختصار لماض من البؤس والحاجة، و تلخيص موجز لقصة طويلة ومبتذلة ومليئة بالتفاصيل، عن كيف يتحول القلب بفعل الزمن لسلة قمامة. هو لم يرد من وجودي شيئاً أكثر من الغياب، وأنا لم أرد شيئاً من الحب إلا الحضور.

أفكّر يومياً، بمئات الجمل عن الحب، عن الرغبة، عن الشهوة والعبث، عن الشوق والوقت الضائع، وعن الكذب. لا أكتب أياً منها طبعاً. لأني قد اكتشفت متأخرة أن كلمة "حب" هي المرادف الأكثر لطفاً لكلمة "موت"، وأن حياتي التي أردتها هي الجزء الناقص من حكايتي، وليس كل حكايتي.

من قلبي إلى العالم

 لم أجب على أي سؤال يوماً إلا بنصف الحقيقة، فالحقيقة الكاملة وهم، ولذلك لم أرغب يوماً أن أشرح لأحد أنّ الثقوب في ملاءات سريري ترتبط مباشرة بعيني شاب سأل بائع الفلافل عن سعر السندويشة ثم ذهب، وبعيني طفل خجلتين بدأ اليوم درسه الأول في الشحادة، ودرسه الأول بنسيان حقه بالخجل. قالت له أخته الكبرى (هكذا) وهي تمد يدها للمارة. وبحديث شَغل رجلين وقفا بجانبي اليوم، تكلما طويلاً عن هذا الجيل الذي خرّبه إلغاء النظام العسكري من المدارس لكنهما لم يذكرا الفقر، ولم يتحدثا عن جدران السجون، حيث ترقد الأمنيات الضائعة مثلي، بائسة ووحيدة وخائبة، لم يعرجا على الأحلام المكدسة تحت الوسائد كمسامير لأن الوقت المستقطع القليل المتاح هنا لن يكفي حكماً لتحقيق الأحلام، ولم ينتبها أصلاً أن هذين اللسانين اللذين لم يتوقفا عن الثرثرة ليسا لهما.

هل يمتلك أحد جرأة أن يمد يده داخل اللعبة، ويعدّل مراحل "صنع مومس"، ويسقط هذه المهنة من قائمة الأعمال التي تورّث؟

"أفقد كل يوم جزءاً مني، وأنا أحاول أن أخرج نفسي من علبة فارغة أسقط بها كل صباح..

تخترقني الأشياء دون أن أشعر

فيترك العالم من حولي أثراً واضحاً فوق ملامحي"

لذلك، لا أجد صعوبة في الانتقال من قلبي إلى العالم، في إيجاد طريقة للربط بين نقمتي على نفسي ونقمتي على الحياة، للربط بين ما يحدث في الداخل وبين ما يحدث في الخارج، في هذا العالم الذي لا يصلح للعيش.

لكني أحاول الآن أن أخترع ارتباطا مفهوماً بين باقة ورد مرمية خلف مقعد خشبي في حديقة عامة، وبين وجه امرأة أكله الحزن وبين فتاة صغيرة، أصغير بكثير من أن يمرّ كل هذا أمامها دون أن تبصق طفولتها في وجوهنا على شكل تذمّر دائم من رفاق لا يريدونها أن تلعب معهم. وبعد أقل من دقيقة من التفكير، تأكدت أن لا حاجة لي لمزيد من البحث، فالارتباط الذي أحاول خلقه بين نفسي والعالم وكلّ شيء ولا شيء، هو فعلاً موجود وليس عليّ اختراعه.

لا أجد صعوبة في الانتقال من قلبي إلى العالم، في إيجاد طريقة للربط بين نقمتي على نفسي ونقمتي على الحياة، للربط بين ما يحدث في الداخل وبين ما يحدث في الخارج، في هذا العالم الذي لا يصلح للعيش

 القصة

في باحة مدرسة ما، في الغرب أو في الشرق، أو ربما في باحة مدرستي، طفلة بائسة، بائسة بالقدر الذي جعلها تعرف بالتفاصيل كيف تصير الفتيات نساءً وهي مازالت في التاسعة من عمرها، بائسة بالقدر الذي جعلها تتعرّف على المعنى قبل الكلمة، فتغرق في الفقر قبل أن تسميه، وتغرق في العزلة قبل أن تقدر على لفظها وإيجاد مرادفات لها تصلح لدرس لغة عربية لن يضيف لها إلا المزيد من البؤس.

 بين الأطفال النظيفين، والبنات بربطات الشعر الملونة، بين العيون البريئة وقاموس كلمات الأطفال اللطيف، بين أحاديث أعياد الميلاد، وملابس العيد وقبلات قبل النوم وحكايات الجدات وأحلام المستقبل، تبدو تلك الفتاة قذرة. "قذرة" كلمة ربما حتى الآن لم تسمعها بشكل مباشر وصريح، لكنها اكتشفتها في عيون الجميع، فبدأت بتدوين قاموسها الخاص، الذي لا يحتاج لورقة أو قلم، قاموسها الذي ستلخصه يوماً ما بجملة وحيدة، سترميها في عيني أحدهم على السرير في لحظة شعور بالخبرة "الحياة أكبر مدرسة"، ثم سترفع شعرها المصبوغ بالأحمر وتحدق بالفراغ.

اكتشفت متأخرة أن كلمة "حب" هي المرادف الأكثر لطفاً لكلمة "موت"، وأن حياتي التي أردتها هي الجزء الناقص من حكايتي، وليس كل حكايتي

ستشعر كثيراً بالعار، وتبكي. العار الذي اكتشفت معناه قبل أن تقدر على تهجئة حروفه، لكنه عرفته جيداً في غرفتها الحقيرة، حيث كانت منسية دون عائلة، دون أصدقاء، ودون حلوى العيد ودون عيدية، فقط مع أم يضربها كل يوم (عمّو) مختلف، وتضطر للعمل في الليل والغياب ووسم ابنتها بالعار.

ومع عبارات "ما بدي بنتي تلعب معها" التي تتساقط كل يوم فوق رأسي، صار كل شيء أكثر قذارة، وصار مجرّد النظر قذارة، والسمع قذارة، والعجز قذارة، ومحاولة النجاة بقلبي الذي صار سلة قمامة لأن رجلاً انشغل بقلب آخر ولم يأت، قذارة.

هي وحيدة، مسكينة وطفلة، لا ذنب لها. لكن هل يمتلك أحد جرأة أن يمد يده داخل اللعبة، ويعدّل مراحل "صنع مومس"، ويسقط هذه المهنة من قائمة الأعمال التي تورّث؟ بالطبع لا أحد يستطيع، فحيث نحن لا يمتلك أحد جرأة الاقتراب من أي شيء يورّث، فالاختباء والجبن عادات وتقاليد، والانصياع للراوي نجاة، والحفاظ على الكرسي، أي كرسي، طقس.

ولما كان العالم متصلاً بطريقة مذهلة، مذهلة بشكل عجيب، فهمت العلاقة التي تربط بين الأشياء هنا. العلاقة التي تربط بين كراسي المناصب وبين قلبي. بين كراسي المناصب وبين طفلة لو عاشت في مكان آخر، لربما نجت من ماض ثقيل ستحمله كفكرة قذرة في رأسها إلى الأبد.

هل كان خطأي أني لم أستخدم دفتر المذكرات كما يجب؟ هل أفسدت التعويذة بنفسي، بهوسي بتدوين الخيبات وآلام الآخرين بدلاً من تدوين مغامرات المراهقات المجنونات؟ وهل لي، وأنا أمتلك دفتراً من الآلام، أن أكون سعيدة يوماً؟ 

العودة من النهاية لبداية الحكاية

... وبعدها انهار كل شيء داخلي، واكتشفت هول أن تعرف أن لا حقيقة لك وأنك لست من اعتقدته، وأن هذا الشخص الذي يشاركك اسمك، هويتك، عائلتك، سريرك، حتى أنه يظهر في مرآتك، ويوهمك بأن أحلامه هي أحلامك، ليس أنت.

لست بالشجاعة التي اعتقدتها، ولذلك، بدأتُ فقرة جديدة بكلمة "وبعدها". نسفت بذلك حياة كاملة لم أجد أي مغزى لها، إلا أنها كانت سبباً لهذه النتيجة البائسة، التي لن توصلني إلا لمكان واحد فقط، لست بحاجة بعد الآن لمعرفة أي شيء، فأنا اكتفيت من العالم، واكتفيت من نفسي.

في الباحة، وبلحظة شجاعة اقتربت منها، رفعت وجهي ونظرت في عينيها، وسألتها: "ماذا تريدين أن تصبحي عندما تكبرين؟"، فقالت: "دكتورة"، ثمّ ابتسمت، وكان هذا كافياً لتسقط قابلية هذا العالم للاحتمال.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image