عادة ما تسيطر فكرة ما على عقلي لفترة، ثم تتخذ مسارين، إما أن تخفت تدريجياً وهو الغالب، وإما أن تبنى لنفسها بيتاً في رأسي، يصبح مزاراً لزائر أوحد هو أنا، بين الحين والآخر في أحلام اليقظة، ومؤخراً سيطرت فكرة على عقلي، والفكرة هي تجمّع من الشجر والورود، وكل ما يخص تنويعات هذه الفكرة، تكعيبة ياسمين على مدخل قهوة بلدي كقشتمر محفوظ، أزهار خوخ وردية تتفتح على الأشجار في اليابان، أشجار الصفصاف الطيبة الشجية تنحني بحنان على رأس ترعة ما، أشجار البونسيانا واللهب على رؤوسها، تلك الأشجار الحبيبة التي أصبحت أراها في أفلام السبعينيات أكثر من الشوارع...
ذات يوم أحضر والدى لنا حزمة ورود بلدية من حديقة مدرسته التي يعمل بها ووزعها علينا.
ظللت مهووسة بها يوماً كاملاً، هو عمر تلك الورود المقدر لها، مستندة على شرفتي في زجاجة مياه غازية، قبل أن يقرّر قطي أنها قد حظيت من الاهتمام بما فيه الكفاية، وأنه قد آن الأوان لتسقط من شرفة الدور الخامس، حتى ينفرد لنفسه بالمكان على النافذة...
ذلك القط هو عدو للكائنات الحية عموماً، سواء أكانت بشراً أم طيوراً أم نباتات، وقد توصل مؤخراً لفكرة هامة، وهو أنه لن يستطيع أن يقتلنا بالعضّ والخدش مهما حاول ‑وقد حاول مثابراً‑ ولكن معنوياته لم تنخفض تجاه العصفور في البلكونة، حيث يبدأ صباحه، بعد التمطع والتثاؤب وزيارة صندوق الفضلات، بمحاولات دؤوبة مستمرة لفتح قفص العصفور عن طريق عضّ هيكله الحديدي، وعندما تؤلمه عضلات فكيه جراء كثرة العض، يقفز على القفص فجأة متعلقا بمخالبه، فارداً كلتا يديه، ويترك القفص عندما أنهره، ولسان حاله يقول للعصفور: "مؤكد سأنجح المرة القادمة"، فلا يمكن لأى قط محترم على أي حال أن يفشل للمرة الخمسمائة بعد الألف على التوالي.
ظللت مهووسة بها يوماً كاملاً، هو عمر تلك الورود المقدر لها، مستندة على شرفتي في زجاجة مياه غازية، قبل أن يقرّر قطي أنها قد حظيت من الاهتمام بما فيه الكفاية، وأنه قد آن الأوان لتسقط من شرفة الدور الخامس... مجاز
ذات مرة بكيت عندما رأيت، من نافذة الميكروباص، عربة نقل تمرّ حذاءه، تحمل جذوعاً عملاقة للأشجار. تداركت دموعي سريعاً والتي لا أظن أن أحداً رآها، حيث كان وجهي باتجاه الطريق الفارغ تقريباً إلا من عربة النقل. مرت بذهني صورة طفل عاش في قرية صغيرة على أطراف المحلة، تفتّح سمعه على أخبار نشاط سعد زغلول ورفاقه، والحديث الذى كان يسمعه من أخيه الذى يذهب للمدرسة الثانوية في المدينة. هو لا يفهم من حديث أخيه شيئاً، ولكنه يستمتع بمشاهدة حماسه وهو يتكلم، حيث يشعر بمتعة تضاهي متعته وهو يتأرجح متدلياً من الشجرة التي يمسكها بيد واحدة.
هو يحب هذه الشجرة، حيث يعتقد أنها تشرف على الطريق الرئيسي منذ أبد الآبدين، فقد وعى على وجودها، تلك الشجرة التي عمرها أكبر من عمر أخيه، بل وربما أبيه، كما ينبئ جذعها الضخم الذى شاهدته محمولاً على عربة النقل ماراً بمحاذاة نافذة الميكروباص التي أطل منها قبل أن تفلت منى دمعتين.
مؤخراً، صارت تعودني لمحات من ذكريات طفولتي في الحديقة العامة والتي صارت الآن مهجورة. منذ سنوات اعتادت فيها القطط والكلاب على الاستلقاء تحت أشجارها في سكينة ووداعة. كنت أحب الذهاب إلى هناك، حيث اعتدت مراقبة صور الحياة المختلفة بها، الحلزون على التربة الندية تحت الزهور التي تسقى باستمرار، الخنافس تتمشى على طرف الممر الحجري، تحت الأراجيح، حيث النمل يتخلل حبات الرمال التي أهيلها على جزء من السرب، فيغيب لحظة ثم يعاود الظهور، والهدهد بشكله الظريف يقف ساهماً ثم بحركة مفاجئة يلتقط خشاشاً من الأرض بين منقاريه ويطير. الفراشات بألوانها المثيرة تتقافز مرحة من زهرة لأخرى، جموع أبو قردان على قمم الأشجار العالية، وجموع العصافير التي تنتقل مع كل هبة رياح من نخلة لأخرى. كنت أعشق كوني قطعة من تلك الحيوات المختلفة، تلك الحيوات الخالية، السعيدة، والتي تنعم كلها بسلام تحت ظلال مظلة خضراء تتخللها أشعة الشمس النقية.
في الأسابيع الحارة الأخيرة، أصبحت أولي اهتماماً مضاعفاً لنباتاتي، حيث أستيقظ باكراً وأروى أصصها المتناثرة على السلم وسور البلكونة، أفحص أوراقها للوقاية من الآفات التي تنشط في الحرارة، أو لأرى إن كانت هناك نباتات بحاجة إلى ريّ زائد لتخفيف الحرارة. وجدت في الفحص أن أوراق نبات العنكبوت بعضها محترق، على الأرجح بسبب هبات الهواء الساخن المشبع بالرطوبة، أو بسبب الري الزائد، فقصصت منها الأوراق المصابة ووضعتها داخل المنزل حماية لها من حرارة اليوم، وفي منتصف اليوم، فوجئت بالقط وهو يستمتع بعضّ أوراق النبات وبصقها، أو الأدق فرك لسانه بيده لإزالتها، حيث اختفت جرّاء هذه العملية معظم أوراق نبات العنكبوت التي كانت تشبه شعراً كثيفاً للأصيص وأصبح الأصيص أصلعاً بلا شعر، وعندما أبعدت القط عن الأصيص بسرعة، وقف مدهوشاً لثانية واحدة، ثم أخذ يلعق يده بدلال، تماماً مثلما يفعل بعد تناول وجبة دسمة.
قط صغير يخاف من صوت المكنسة ويحب أكل بسكويت النشادر ويكره النباتات والطيور والبشر... مجاز
داومت بانتظام على سقي نبات العنكبوت الذى استحال بفعل هجمات القط الممنهجة إلى قمة نامية متآكلة، أو مأكولة بالأحرى، وبعد عدة أيام في ميعاد السقي الصباحي كل أسبوع، وجدت النبات يقاوم آثار الافتراس ويظهر إنباتاً جديداً صغيراً، فرحت وسقيتها ممنية نفسي ومتفائلة بالمستقبل القريب.
في العصر جلست على سلم شقتنا في الدور الأخير الذى لا يفصله عن السماء سقف إسمنتي. جلست طالبة بعض النسيم، لأتفاجأ بما تبقى من نبات العنكبوت مخلوعاً من جذوره بسهولة نظراً لرطوبة تربته حديثة السقي، وتربته تلك متناثرة حوله في بربرية، كأنه فعل تم بيد مرتزقة جاؤوا من بلاد بعيدة تحكمها قوانين العصابات، خصيصاً لقتل نبتة العنكبوت المسكينة، ولكنى أعلم أن من فعلها ليسوا مرتزقة، بل قط صغير، قط صغير يعانى غالبا من التقزم، حيث أن حجمه لم يزدد جراماً واحداً بعد عمر السبعة شهور، قط صغير يخاف من صوت المكنسة ويحب أكل بسكويت النشادر ويكره النباتات والطيور والبشر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...