شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
ليه يا زمان ماسبتناش

ليه يا زمان ماسبتناش "أغبياء"؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الثلاثاء 27 أغسطس 202412:21 م

كنت في فترة الطفولة طيباً، بل أكثر طيبة من الفنان حسين رياض، امتلك قلباً أصفى من سماء قريتنا وقت الغروب، ولم يكن هذا خياراً لي، لكنه جاء مع طيبة العالم الذي يحيط بي، العالم الذي شكّل ذاكرتي وكرياتي. الحياة بسيطة كـ "صباح الخير" لكل شيء، والسعادة تتدفّق من أبسط الأشياء، من أول شعاع شمس يأتي على هيئة رغيف خبز يخرج من الفرن، وأتلقفه ساخناً من يد أمي، أو "آيس كريم" اشتريه من العم "علي" الذي يقف أمام بيتنا عصر كل جمعة، وتدغدغ قلبي نسمة هواء لطيفة وأنا أجلس على السطح، أشرب الشاي بالنعناع، بينما في الخلفية يأتي صوت الشيخ إمام من كاسيت جارنا، وهو يقول "أنا توب عن حبك".

أذهب في الظهيرة إلى بيت الجدة "بهجة"، أطبع على خدها قبلة بطعم الجوافة التي أمسك نصفها في يدي كالقابض على لصّ عتيد الإجرام. تضحك عندما تراني ألاحق دجاجة كبيرة تصعد درجات السلم كي أعرف المكان الذي تضع فيه البيض. يضربني هواء شجرة الصفصاف وأغوص في النوم على حجر الجدة، حيث لا قلق ولا مهدئات، وهي تمشّي أصابعها بين خصلات شعري، فأشعر بأن لا خطر يمكن أن يطالني.

اليوم، باتت أعلى طموحاتي أن يمر اليوم بخير، أي أن يكون يوماً فحسب، لا يوم الزلزال مثلاً أو يوم الإبادة، يوم الخمسين قتيلاً أو يوم المجاعة. أن يمرّ بـ 24 ساعة، وليس بذكريات تصنع بؤساً يمتد لسنوات. لم يكن العالم ليخسر شيئاً لو تركنا أغبياء

لا شيء فوضوي في بيت "بهجة". كان بيتها بهجة خالصة من اسمها. كانت تمتلك سريراً نحاسياً وكرسياً فقد لوحاً من مسنده الخلفي، وستارة فوق الشباك تحجب ضوء الشمس، ومروحة تصدر أنيناً كشكوى من كثرة الدوران. تفوح رائحة البهارات من مطبخها، ورائحة الحنان من ملاءاتها الناصعة، بينما خارج البيت تعلّق ملابسها على أحبال الغسيل المربوطة في فروع شجرة العنب، وتثبّتها بالمشابك. ثمة سعادة تنتابني عندما تطلب مني جمع أعواد السمسم، كي تعدّ لي فطيرة ثم تغرقها في الحليب. كان مذاق طعام "بهجة" جميلاً وكأنها تسكب السعادة المحلّاة بالحب في طبق.

كنت أشعر بالذنب عندما تقع قطعة خبز على الأرض، فألتقطها بسرعة وأرسل قبلة إلى الله على هيئة اعتذار: كنت أعتذر من سهوي وكان يسامحني من حنانه. كانت الأحلام بسيطة وما يفسده العالم تصلحه "صينية بطاطس باللحمة"، وكل الطرق تؤدى إلى "التلاجة" أو إلى قلب "بهجة".

ذات يوم، سألت مدرسة "العلوم" الطلبة سؤالاً: "نفسك تطلع إيه لما تكبر؟". تطابقت إجابات زملائي ما بين "دكتور" و"ضابط" و"سفير" و"مهندس"، بل تجرّأ أحدهم، كما تجرأ ناي سيد سالم، على نوتة أم كلثوم في أغنية "بعيد عنك"، وقال: "ح ابقى رئيس جمهورية".

لم أتمالك نفسي من الضحك حينها، فقالت لي المدرسة غاضبة: "لا تقلّل من أحلام غيرك فربما تصبح يوماً حقيقة"، واعتقدت حينها أنني سوف أخبرها بأنني سوف أحكم العالم في مزايدة على أحلام زميلي، ولكنها تفاجأت عندما عرفت أن حلمي "أشتغل بائعاً في محل ورد".

سمعت مونولوج لـ "إسماعيل ياسين" عن السعادة، يقول فيه متسائلاً: "كلنا عاوزين سعادة.. بس إيه هي السعادة؟ ولا إيه معنى السعادة؟!"، ويظل يبحث في "مونولوجه" عن أسباب السعادة.

تبخّرت أحلامنا في الهواء الفاسد، ولم يتحقق حلم زميلي في أن يصبح رئيساً للبلاد، أو حلمي في أن أعمل في محل ورود

لم أفهم حينها بعض الكلمات التي كتبها أبو السعود الإبياري، والتي كانت أكبر من أن يستوعبها عقل طفل تأتيه السعادة من أبسط الأشياء: هدف في الوقت بدل الضائع ينقذ فريقه من الهزيمة، أو ركض خلف فراشات النعناع، أو عنقود عنب تقطفه له "بهجة" بيدها التي تنبت في عروقها الياسمين. حتى الأشياء التي كانت تعكّر صفو سعادتي هي الأخرى بسيطة، منها أن يصرّ والدي على سماع نشرة الأخبار ويتجاهل فيلمي المفضل، مع أن أخبارها لا تتغير: "الرئيس يضع حجر الأساس لمشروع كذا"، أو "الرئيس يستقبل ولي العهد" ثم "النونات الثلاثة" التي تستخدمها الحكومات العربية مع كل انتهاكات تحدث للشعب الفلسطيني، وهي "ندين، نشجب، نستنكر". كنت أتابعها بضيق وتوتر، وأعلم أن أصدق ما في النشرة هي أخبار الطقس، لكن ليس دائماً.

كبرنا وكبرت معنا همومنا، وبات العالم قاسياً، أشبه بحلبة مصارعة البقاء فيها للأقوى والأشرس، لا مكان للضعفاء وقليلي الحيلة داخل الحلبة. تعرفهم من اللون الأزرق تحت عيونهم لكثرة اللكمات، من الدموع التي تترك أثراً صافياً على وجناتهم، من العيون الساهمة والأيدي المرهقة.

الحياة قاسية على من يحمل في قلبه مثقال ذرة من نقاء، ولم يتبق لنا من السعادة شيء، لا يفرق معي الهدف الذي سوف ينقذ فريقي من الهزيمة، ولا تسعدني نسمة هواء باردة في الصيف هاربة من برد يناير. بات الأكل ماسخاً بطعم المبيدات، وكأس الشاي بالنعناع بطعم الضجر. تبخّرت أحلامنا في الهواء الفاسد، ولم يتحقق حلم زميلي في أن يصبح رئيساً للبلاد، أو حلمي في أن أعمل في محل ورود،  وتطاردني الأخبار في كل مكان، حروب ودمار وتهديدات ومناوشات وقتل للأبرياء في كل مكان، ولم يعد شيء من الماضي حاضراً وجاهزاً في كل حدث، إلا النونات الثلاثة إيّاها: "ندين، نشجب، نستنكر".

كنت أشعر بالذنب عندما تقع قطعة خبز على الأرض، فألتقطها بسرعة وأرسل قبلة إلى الله على هيئة اعتذار: كنت أعتذر من سهوي وكان يسامحني من حنانه

لم نكن أغبياء عندما كانت تخرج من قلوبنا ضحكة بسبب  مسرحية شاهدناها عشرات المرات أو ابتسامة تصنعها ريحة "طشة ملوخية" قادمة من المطبخ، أو عندما تتسلل الشمس من بين "شيش موارب" لتنشّف بلاط بيت رائحته برائحة الصباحات الندية، أو نرتدي ملابسنا المنشورة بفنّ على حبل غسيل ويحركها الهواء لتفوح منها رائحة "السافو".

الآن ابتلع "التكييف" الأوكسجين، ونكاد نختنق بعبراتنا، وضاقت علينا الأرض بما رحبت، حتى ألقت بنا في شقة داخل "كمباوند" سعرها بالملايين. نتزاحم في الشوارع وفي المواصلات، نرتصّ في طوابير العيش والمترو وكأننا نقوم ببروفة ليوم الحشر، متسائلين: لماذا لا يجلس كل منا في ركن هادئ ونبكي جميعاً بحرقة؟

اليوم، باتت أعلى طموحاتي أن يمر اليوم بخير، أي أن يكون يوماً فحسب، لا يوم الزلزال مثلاً أو يوم الإبادة، يوم الخمسين قتيلاً أو يوم المجاعة. أن يمرّ بـ 24 ساعة، وليس بذكريات تصنع بؤساً يمتد لسنوات. لم يكن العالم ليخسر شيئاً لو تركنا أغبياء، تسعدنا أبسط الأشياء وترسم على وجوهنا ضحكات بريئة كزهرة في مرج، لم يكن العالم ليضيع بدون هذا النضج البائس وهذه المعرفة الكريهة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image