شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
أنا لست غازياً أو جاسوساً، بل مكتئب… مشاهدات رحّالة سويسري في الحجاز

أنا لست غازياً أو جاسوساً، بل مكتئب… مشاهدات رحّالة سويسري في الحجاز

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب نحن والتاريخ

الأحد 1 سبتمبر 202412:37 م

في أوائل النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كانت الأوضاع السياسية العالمية توصف بأنها مُلتهبة، فقد كانت تركيا، بدعم فرنسي، تخوض حرباً شرسةً مع روسيا، وبريطانيا تُوسّع رقعتها في العالم تحت راية الملكة فيكتوريا الأولى، وتبسط سلطانها على الهند والكثير من دول الشرق والغرب.

أما العالم العربي، الواقع تحت الاحتلال، فقد أنهكته مؤامراته الداخلية؛ في مصر قُتِلَ عباس باشا طوسون بن محمد علي، والخلاف كان على أشدّه في أرض الحجاز بين شريف مكة عبد المطلب بن غالب وبين العثمانيين الذين منعوه من تجارة الرقيق؛ لذلك كان من الصعب التعامل مع أي رحّالة أوروبي يدخل البلاد إلا بريبة واستباقٍ لسوء النيّة!

لكن الوضع كان مختلفاً مع شارل ديدييه!

شارل ديدييه، أديب وشاعر وصحافي سويسري من أصل فرنسي، وُلد في جنيف عام 1805، وكانت أسرته البروتستانتية قد هربت إليها طلباً للحرية الدينية. درس في جنيف القانون وعلم النباتات والرياضيات، ثم عاد إلى باريس واستقرّ فيها، وتقلّد مناصب إداريةً عدة، حين أوفدته فرنسا سنة 1848، في مهمات رسمية إلى بولندا وألمانيا وإيطاليا، فاكتسب خبرةً ودرايةً بأحوال البلدان.

أول مدينة نزل فيها شارل ديدييه في الحجاز كانت جدّة التي فاجأته، فيقول: "أخبروني في القاهرة أن جدّة ليست إلا حيّاً صغيراً (....) وكم كانت دهشتي كبيرةً عندما وجدتها على العكس"

اكتشف شارل ديدييه ميله إلى الرحلات، فزار عدداً من البلاد العربية والآسيوية والإفريقية، فنزل المغرب ومصر والسودان وشبه الجزيرة العربية، وترك رصيداً من المؤلفات والكتابات، منها: "سنة في إسبانيا"، و"حملة على روما"، و"جولة في المغرب"، و"خسمون يوماً في الصحراء"، و"ليالي القاهرة"، وفقاً لما ذكره المترجم السعودي الدكتور محمد خير البقاعي، في مقدمة كتاب "رحلة إلى الحجاز في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي".

يختلف عنوان الكتاب الخاص برحلة ديدييه إلى شبه الجزيرة العربية من مترجم إلى آخر، ففي موضع آخر نراه باسم "رحلة إلى رحاب الشريف الأكبر شريف مكة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي 1854م"، لكن المضمون واحد، والغاية واحدة: شارل ديدييه زار الحجاز في هذا العام، ودوّن مشاهداته بالغة الأهمية والدلالة.

صُدفة حوّلت وجهة ديدييه "المُكتَئب" من أثينا إلى الحجاز!

مطلع كانون الثاني/يناير عام 1854، كان شارل ديدييه يعدّ عُدّته للعودة من مصر إلى أثينا، ومنها إلى فرنسا، لكن صديقه البريطاني القس هاملتون، اقترح عليه أن يصحبه في رحلته إلى الحجاز.

يقول ديدييه في مقدمة كتابه، إنه طلب من صديقه مهلة أربع وعشرين ساعةً للتفكير، لكن ميوله إلى الترحال دفعته إلى اتخاذ قرار عاجل، فلم تمضِ ساعة حتى كان موافقاً على ما عرضه البريطاني عليه، لسبب مهم، هو كما قاله بنفسه: البحث عن الطمأنينة والنسيان، بعد أن كره باريس، وفرنسا، وأوروبا كلها!

بيد أن ديدييه كان يعاني من آثار اكتئاب حاد، وحاول في تلك الرحلة أن يزيله عن نفسه، وهو ما يتضح في مقدمته التي يقول فيها إنه يأمل من تلك الرحلة أن "تجد بعض الاهتمام، إذا كان هناك عدا المال شيء يهتم به الناس اليوم".

شارل ديدييه

يضيف في موضعٍ آخر: "إن الهدف من نشر هذه الرحلة يتحقق إذا استطاعت الأحداث التي تتضمنها أن تجعل بعض الأذكياء يطّلعون على المهزلة التي تقوم بها أوروبا لصالح تركيا".

الغريب في مقدمة ديدييه، أنه لم يُشِر إلى نفسه ولا مرة بضمير المتكلم، ودائماً ما تحدث بضمير الغائب، واصفاً نفسه على الدوام بـ"المؤلف"، فيقول مثلاً: "لا يدّعي المؤلف أن يقدّم لوحةً تاريخيةً، ولا لوحةً صغيرةً، وإنما يقدّم مجرد رسم بسيط لأحداث الرحلة، ويعلن بصراحة، مخلصاً بذلك لما اعتاده في ما سبق، أنه لم يسمح لنفسه، وهو يرسم الأشخاص والأشياء، باستخدام أي تجميل، ولا تعديل، إن لم يكن متوافقاً مع الواقع. لقد استطاع بذلك أن يبتعد عن كل ما يغري الجهلة أو المنحرفين، وعزاؤه في ذلك أنه يعتقد اعتقاداً راسخاً أن الرحلة المتخيلة أسوأ الروايات كلها"!

لستُ غازياً يا أهل الحجاز!

يُكرر ديدييه، في أكثر من موضع، أنه لم يأتِ لأداء مهمة رسمية، وليس له أي هدف سياسي من زيارته الحجاز، فيقول: "إن وجود بريطانيّ وفرنسي (يقصد نفسه وصديقه)، يجوبان الحجاز في هذه الفترة السياسية السائدة فيه، مدعاة للشك، مما يجعل الناس يظنون أن حكومة كل منهما أرسلت مواطنها لدراسة الأوضاع في الحجاز، واستطلاع مدى ارتباطه بالباب العالي وموقفه منه. وعلى الرغم من أن ذلك غير صحيح، ولكنه غير مستبعد، وغير مبالغ فيه، وإنّ شك الشريف الأكبر في ذلك، جعله يعاملنا تلك المعاملة اللائقة"!

ربما لتأكيد هذه الفكرة، حفلَ كتاب ديدييه، بمواضع كثيرة فيها رصد لصور حيّة للمجتمع الحجازي، بدءاً بينبع، ثم جدّة، وانتهاءً بالطائف، التي كانت هدف رحلته وصديقه حيث يستقر فيها شريف مكة عبد المطلب، لذلك أفرد الرحالة مساحات هائلةً في الكتاب لوصف ما رآه عند أهل الحجاز من عادات وتقاليد وأصناف للأطعمة والأشربة.

أول مدينة نزل فيها شارل ديدييه في الحجاز كانت جدّة التي فاجأته، فيقول: "أخبروني في القاهرة أن جدّة ليست إلا حيّاً صغيراً (....) وكم كانت دهشتي كبيرةً عندما وجدتها على العكس، مدينةً جميلةً، مكينة البناء، جيدة التأسيس، تعجّ بالسكان، نابضةً بالحياة، ومزدحمةً (...) وليست بأقل جدارة لحمل اسمها الذي يعني بالعربية الغنية".

صورة من رحلة شارل ديدييه إلى الحجاز

لاحظ ديدييه أن كل الذكور المولودين في أحضان جدّة "يحملون على وجوههم وشماً يُسمّى المشالي، وهو عبارة عن جروح عميقة تُحدث في وجوه الأطفال عندما يبلغون أربعين يوماً، وهي ثلاثة على كل وجنة، واثنان على كل صدغ (...) وإن هذه الندوب المقدسة في العادات الإسلامية تجعل أولئك الذين يحملونها يحوزون بحملها قمة الشرف".

أما عن نساء جدّة، فيقول: "لا أستطيع أن أقول شيئاً عنهنّ، لأنني لم أرَ أيّاً منهنّ: كل ما أعرفه أن بشرتهنّ أقل سمرة من بشرات الرجال، وأنهن يقصصن شعورهنّ كالرجال باختلاف بسيط هو أنهن يزَيّنّ شعورهنّ بسلسال من الذهب".

قبر أمّنا حواء في جدّة!

فوجئ شارل ديدييه، وهو في جدّة، بمقبرة محاطة بالأسوار، لها باب محكم الإغلاق، وهي فريدة من نوعها لم يُرَ مثلها في الشرق، إذ إن المتعارف أن تُترك المقابر بلا سياج ولا حارس.

تساءل شارل مستنكراً: "توقّعوا مَن المدفون في هذه المقبرة؟"، ثم يجيب من فوره: "إنها حواء، أم الجنس البشري، وتنتشر بخصوصها لدى علماء البلد أسطورة لا تليق بأبوينا الأوَلين. فهم يحكون أن آدم الذي ملّ من زوجته، مع أنهما كان سعيدين إبّان ما يقارب مئة سنة، اتجه حباً في التغيير إلى بناته؛ لأنه لم يكن لديه خيار آخر، لأنه لم يكن هناك على الأرض نساء أخريات، وعندما علمت الزوجة المتروكة بهذه الخيانة، أقسمت أن تنتقم، فاتجهت بدورها إلى أبنائها، لأنه لم يكن هناك على وجه الأرض رجال غيرهم، ولكن هؤلاء أجابوها ببعض القسوة بأنها عجوز، وأنهم لا يرغبون فيها".

صورة من رحلة شارل ديدييه إلى الحجاز

ويستطرد ديدييه حول الأسطورة التي سمعها في جدّة، بقوله: "إن أمّنا جميعاً، التي حُكم عليها أن تظل محتشمةً، رغماً عنها، لقيت نتائج ما قامت به عندما امتهنت نفسها، فكظمت غيظها. ولكن آدم عاد بعد خطئه إلى زوجته الشرعية، وبعد المصالحة قاما معاً برحلة عبر الجزيرة العربية، فماتت حواء في هذا المكان عينه، ودفنها زوجها، وأجرى لها كل التشريفات التي تفرضها فضائلها الكثيرة. أما آدم الذي أصبح أرمل فقد تابع رحلته، وذهب ليموت بدوره في جزيرة سيلان، ودُفن هناك".

يعلق ديدييه مندهشاً على انتشار تلك الأسطورة بكلمات مهمة، فيقول: "إن انتهاك المحارم المزدوج الذي قام به أحد الطرفين حقاً، والآخر كان ينويه، فتح بطريقة لا أخلاقية سجلّ الحياة الأسرية للإنسانية. إن المسلمين، وهم ممن يدافعون بحزم عن الأسرة، لا يرون في القصة شاهداً على تعدد الزوجات، وإنما يرونها دليلاً قاطعاً على أنه ليس من قوانين الكون أن تكون للمرء امرأة واحدة"!

لقاء الشريف الأكبر في الطائف

مما يسترعي الانتباه في رحلة ديدييه، أنه كان قويّ الملاحظة، فنراه يخبرنا عن شريف مكة عبد المطلب أنه ليس له "إلا امرأة واحدة شرعية، كما هي العادة بين المسلمين، ولكن حرمه يعجّ بما يقارب ستين جاريةً من السود أو البيض، وبعدد لا يقلّ عن ذلك من الخدم الذكور، ناهيك عما يقارب مئةً من الخصيان".

يخبرنا بشكل مفصل عن عبد المطلب، وكيف أنه يمتلك ثروةً ضخمةً "لأنه استردّ ثروة أبيه غالب كلها، ويزعم الناس أن في خزانته مئة مليون فرنك، ناهيك عن أنه يتلقى منحةً سنويةً من إستانبول تتجاوز 400 ألف فرنك، ويزعمون أيضاً أنه، وهو يعيد بناء قصر والده الذي دمّره محمد علي، وجد بئراً مليئة بالذهب الذي أخفاه فيها جدّه الشريف مساعد"!

مما يسترعي الانتباه في رحلة ديدييه، أنه كان قويّ الملاحظة، فنراه يخبرنا عن شريف مكة عبد المطلب أنه ليس له "إلا امرأة واحدة شرعية، كما هي العادة بين المسلمين"

لقاء ديدييه بشريف مكة كان يعجّ بالحديث السياسي، وهو ما جعل شارل يعرف ميول عبد المطلب في الحرب الدائرة آنذاك، وأنه كان يريد انتصار الغرب على الأتراك، فيقول عنه: "كان يأمل اندحار غزاة وطنه، وكان أميل إلى الروس منه إلى البريطانيين أو الفرنسيين".

قوة ملاحظة ديدييه جعلته يرى شريف مكة "مدنياً أكثر مما ينبغي، ومتأورباً (نسبة إلى أوروبا) أكثر من اللزوم. ولعل سبب ذلك أنه قضى أربعةً وعشرين عاماً من حياته في إستانبول قبل أن يسمح له الباب العالي بالعودة إلى الجزيرة العربية، ويعيد إليه لقب أبيه غالب، وعلى الأقل قسماً من ثروة أبيه وسلطته".

كانت رحلة ما قبل الانتحار!

تميل الباحثة الدكتورة نهلة بنت شحات عمر، إلى أن كتاب شارل ديدييه لم يكتبه بنفسه، بل أملاه على غيره، إذ إنّه كان يعاني في الحجاز من مرض في عينه في أثناء مغادرته الطائف، وهو ما يؤكده بنفسه، حين يقول: "إنّ نظري الذي أكاد أفقده تماماً لحظة إملاء حكاية آخر رحلاتي كان حينئذٍ في أسوأ حال".

الحال السيئة التي كان عليها ديدييه في الحجاز لاحظها جميع من رافقوه ومن شاهدوه في الرحلة، حتى أن شريف مكة عبد المطلب بن غالب، أشفق عليه، أو كما قال الرحّالة الفرنسي: "وقد أظهر لي الأمير بأصدق العبارات تمنياتِه لي بصحة أفضل، وأعرب عن تعاطفه معي".

ساءت حالة ديدييه في أعقاب رحلته إلى الحجاز، وأصيب بالعمى، مما أوقعه في دوامة الاكتئاب، وانتحر بعد 10 سنوات من عودته إلى بلاده، وتحديداً في 7 آذار/ مارس عام 1864.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard
Popup Image