شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
الرحالة المنسيّ الذي جلب الشاي وعجائب الصين والهند إلى المسلمين… سليمان التاجر

الرحالة المنسيّ الذي جلب الشاي وعجائب الصين والهند إلى المسلمين… سليمان التاجر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب نحن والتاريخ

السبت 28 أكتوبر 202311:31 ص

في عالم الرحالة العجب العجاب، فقد نجد رجالاً مغامرين أفذّاذاً يجتازون السهول والوديان، ويصلون إلى بلدان لم يصل إليها الأوّلون -إلا في ما ندر- وبرغم ذلك تضنّ علينا كتب التاريخ والسير بأي معلومات عنهم. ومن هؤلاء، رحالة تاجر يُدعى سليمان السيرافي. سافر سليمان إلى الهند والصين في زمن كان الانتقال فيه إليهما من الصعوبة بمكان، بحيث عُدّ من القلائل الذين فعلوها حينذاك!

كيف عرف الرحالة المسلمون الطريق إلى الصين؟

يقول زكي محمد حسن في كتابه "الرحَّالة المسلمون في العصور الوسطى": "تشير المصادر التاريخية في اللغتين العربية والصينية إلى وجود جموع من المسلمين في الصين في عهد أسرة تنج التي حكمت الصين بين عامي 618 و906 م، وكان معظمهم من التجار الذين نزلوا الثغور".

منذ اللحظة الأولى وسليمان التاجر يؤكد لقارئه أنه بصدد بلدين عجيبين، فيقول في أول سطوره: "هذا كتاب فيه سلسلة التواريخ والبلاد والبحور، وأنواع الأسماك، وفيه علم الفلك وعجائب الدنيا، وقياس البلدان والمعمور منها، والوحش وعجائب غير ذلك"

وفي كتاب "المسالك والممالك" لابن خرداذبة، ما يُفيد بأن بعض تجار المسلمين قد وصلوا إلى شبه جزيرة كوريا. إذاً، فالأمر ليس بغريب؛ التجار المسلمون المنصرفون إلى الشرق الأقصى كانوا يُبحرون من البصرة، ومن سيراف على الخليج الفارسي أو "الخليج الصيني"، كما كانوا يسمونه أحياناً في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي). "وكانت السفن الصينية الكبيرة تصل إلى ثغر سيراف، وتُشحَن بالبضائع الواردة من البصرة؛ ثم تتجه إلى ساحل عمان وتعبر المحيط الهندي مارةً بسرنديب وجزائر البحار الجنوبية، حتى تصل إلى مدينة خانفو، حيث كانت تعيش جالية إسلامية وافرة العدد عظيمة الشأن"، وفقاً لما ورد في كتاب "الرحَّالة المسلمون في العصور الوسطى".

لولا المستشرقون لطوى النسيان رحلة سليمان التاجر!

في مكتبة باريس الأهلية، وُجِدَت نسخة وحيدة وفريدة لمخطوطة لرحلة التاجر سليمان، التي كادت أن تندثر لولا أن تلقفها وهذّبها ونقّحها أبو زيد الحسن بن يزيد بن عمر السيرافي، الذي غادر سيراف واستقر في البصرة: "وكان من أهل التحصيل والتمييز، فلم يكن تاجراً ولا بحّاراً، بل كان عالماً من علماء زمنه، وكلّفته السلطة العليا بنقد الجزء الأول من أخبار الصين والهند، رحلة التاجر سليمان، والتعليق عليه والإضافة إليه، وبالتالي فقد صدر الكتاب بقلمه السلس السيّال"، وفقاً لما أورده الدكتور أورنك زيب الأعظمي في بحثه "الهند كما يصفها كتاب أخبار الصين والهند".

ظلت تلك النسخة الفريدة داخل مكتبة باريس الأهلية، حتى اهتم بها المستشرقون في القرن الثامن عشر، فظهرت مُترجمةً إلى الفرنسية عام 1718 م؛ لكن "كانت هذه الترجمة مدعاةً إلى اختلاسها وإضافة أشياء من قِبَل بعض المغامرين ونسبتها إلى أنفسهم (...)، لكن يعود الفضل في دراسة هذه الرحلة والتحقق من نصوصها إلى المستشرق الفرنسي رينو، ثم جاء بعده المستشرق الفرنسي أيضاً فيرن، وأعاد تحقيقها وترجمها بمنهجية"، حسب ما أورد الكاتب عبد الله الحبشي، في مقدمته التي وضعها لكتاب "رحلة السيرافي" في الطبعة الصادرة من المجمع الثقافي في الإمارات سنة 1999.

التاجر سليمان... الرحالة المنسيّ!

يقول الحبشي في مقدمته للكتاب: "المذكور (يقصد سليمان التاجر) من قدامى الرحالة الذين عُرِفوا برحلاتهم الغريبة ورواياتهم الطريفة عن البلدان التي زاروها، ونحن لا نعرف شيئاً عن حياته، وهي ترجع في الغالب إلى حوالي سنة 237 هـ، وقد سافر مراراً بغرض التجارة إلى الهند والصين".

النتيجة نفسها وصل إليها زكي محمد حسن، في كتابه "الرحَّالة المسلمون في العصور الوسطى"، حين قال: "لا نكاد نعرف شيئاً عن ترجمة حياته، ولكن وصف سياحته في الهند والصين انتهى إلينا. فقد كتبه سنة 237 ﻫ/851 م، ولهذا الوصف ذيلٌ وضعه في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) مؤلف من سيراف اسمه أبو زيد حسن"!

ومثلما عجزَ زكي والحبشي عن ترجمة سيرة التاجر سليمان السيرافي، عجز كثيرون؛ لكن ذلك العجز لم يقف حائلاً أمام تناول رحلته بالتحقيق والبحث، بل الإعجاب بدقتها وسلاسة معلوماتها.

عندما تكون الرحلة أشهر من صاحبها!

قوبلت رحلة سليمان السيرافي بالكثير من الثناء، حتى وصفها الدكتور حسين فوزي في كتابه "حديث السندباد القديم" بأنها "تُعدُّ من أهم الآثار العربية عن الرحلات البحرية في المحيط الهندي وبحر الصين في القرن التاسع. وربما كانت الأثر العربي الوحيد الذي يتحدث عن سواحل البحر الشرقي الكبير والطريق الملاحي إليها على أساس الخبرة الشخصية مع التزام الموضوع، وعدم الخروج عنه إلى أحاديث تاريخية وغيرها مما عوّدنا الجغرافيون والمؤرخون العرب".

 سافر سليمان إلى الهند والصين في زمن كان الانتقال فيه إليهما من الصعوبة بمكان، بحيث عُدّ من القلائل الذين فعلوها حينذاك.

أما الأعظمي في بحثه فقال عن السيرافي: "يتصف بالبساطة والرصانة والرزانة، ووضوح الفكر ودقة التعبير، والابتعاد عن التنميق والمبالغة والخيال الجامح، والامتناع عن سرد الغرائب والعجائب إلا في القليل النادر جداً".

هناك إجماع على أن رحلة سليمان التاجر والذيل الذي وضعه أبو زيد، فيهما وصف صادق للطرق التجارية، ولبعض العادات والنظم الاجتماعية والاقتصادية، ولأهم المنتجات في الهند وسرنديب وجاوه والصين، مع قلة الخرافات والأساطير التي تكثر في أحاديث البحارة. وتمتازان أيضاً بالأخبار الوافية عن علاقة المسلمين بالصين في القرنين الثالث والرابع بعد الهجرة، بحسب كتاب "الرحَّالة المسلمون في العصور الوسطى".

الهند والصين بعيون التاجر سليمان

منذ اللحظة الأولى وسليمان التاجر يؤكد لقارئه أنه بصدد بلدين عجيبين، فيقول في أول سطوره: "هذا كتاب فيه سلسلة التواريخ والبلاد والبحور، وأنواع الأسماك، وفيه علم الفلك وعجائب الدنيا، وقياس البلدان والمعمور منها، والوحش وعجائب غير ذلك".

تنوعت روايات سليمان التاجر في رصد جوانب الحياة الاجتماعية في الهند، سواء في المأكل والملبس، وطقوس الزواج، والعقوبات وطريقة تنفيذها، وأيضاً عادات الدفن. يروي أن الهنود "غذاؤهم السمك والموز والنارجيل وقصب السكر (...) كما أنهم يأكلون الإنسان، إذا وجدوا الإنسان من غير بلادهم علّقوه مُنكّساً وقطّعوه وأكلوه نيئاً". وعن لغتهم يقول: "لا يفهمون لغة العرب من التجار، إنما يتبايعون بالإشارة يداً بيد، إذ كانوا لا يفهمون اللغة"!

وعن تقاليد الموت في الهند، يقول التاجر: "يُجمعون للموتى الصندل والكافور والزعفران والخشب، ثم يحرقونهم بالنار، ولا يدفنونهم وربما ترافق المرأة زوجها في التحريق فتموت معه، ولكن ليس إجبارياً، بل تفعله الزوجة عن رضا".

أما عن العقوبات، فبحسب ما رآه التاجر سليمان في الهند آنذاك، كانوا "يقبضون على الجاني فيحبسوه لسبعة أيام ويحرموه من الطعام والشراب ثم يُقدَّم أمام القاضي، ويتم تحديد العقوبة"، وأشار صاحب الرحلة إلى أن عقوبة الزنا والسرقة، القتل في الحال!

ومن أغرب عادات الزواج، ما رآه التاجر في بعض جُزُر المحيط الهندي، فبحسب قوله: "إذا أراد واحد منهم أن يتزوج، لم يزوَّج إلا بقحف رأس رجل من أعدائهم، فإذا قتل اثنين زوِّج اثنتين، وكذلك إن قتل خمسين زُوّج خمسين امرأةً بخمسين قحفاً، وسبب ذلك أن أعداءهم كثر، فمن أقدم على القتل أكثر كانت رغبتهم فيه أوفر"!

ربما يكون التاجر سليمان السيرافي، أول مؤلِّف غير صيني يشير إلى الشاي، وذلك حين ذكر نوعاً من العشب، يشربه الصينيون في الماء الساخن ويباع منه الشيء الكثير في جميع مدنهم ويسمونه "ساخ"

ومن طرائف رحلة سليمان عقد المقارنات أحياناً بين الهند والصين، فيقول: "وأهل الصين أهل ملاهٍ، وأهل الهند يعيبون الملاهي، ولا يتخذونها، ولا يشربون الشراب ولا يأكلون الخلّ، لأنه من الشراب، وليس ذلك ديناً، ولكن أنفة، ويقولون: أي ملك شرب الشراب فليس بملك".

وروى أيضاً عن أكل أهل الصين لملوكهم، فقال: "فربما جار الملك الذي من تحت يد الملك الأكبر فيذبحوه ويأكلوه، وكل من قُتِل بالسيف أكَلَ الصينيون لحمه"!

وربما يكون التاجر سليمان السيرافي، أول مؤلِّف غير صيني يشير إلى الشاي، وذلك حين ذكر نوعاً من العشب، يشربه الصينيون في الماء الساخن ويباع منه الشيء الكثير في جميع مدنهم ويسمونه "ساخ".

وترى الدكتورة هدى حسن محمد عبد الرحمن في رسالتها "الملامح الحضارية لرحلة سليمان السيرافي"، أنه قصد بلفظة "الساخ" مشروب الشاي، فتقول: "وهذه المعلومات لم تُذكر عبثاً، وإنما القصد منها التنبيه عن كل ما هو جديد وغير مألوف عند المسلمين، وربما تكون هذه الرحلة هي من نقلت الشاي إلى الأوساط العربية الإسلامية، وأصبح الشاي منذ ذلك الوقت من المشروبات المتداولة عند العرب المسلمين، ولا سيما أن هذه العشبة لا تنمو في البيئة العربية سواء في شبه الجزيرة أو شمال إفريقيا".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ماضينا كما يُقدَّم لنا ليس أحداثاً وَقَعَت في زمنٍ انقضى، بل هو مجموعة عناصر تجمّعت من أزمنة فائتة ولا تزال حيّةًً وتتحكم بحاضرنا وتعيقنا أحياناً عن التطلّع إلى مستقبل مختلف. نسعى باستمرار، كأكبر مؤسسة إعلامية مستقلة في المنطقة، إلى كسر حلقة هيمنة الأسلاف وتقديم تاريخنا وتراثنا بعين لا تخاف من نقد ما اختُلِق من روايات و"وقائع". لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. ساعدونا. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image