رحلتنا التي بين أيادينا، تُصنَّف ضمن الرحلات الدبلوماسية، إذ قام بها مؤلفها خارجاً من الأستانة متجهاً نحو بلاد الحبشة، في ربيع سنة 1896 وصيفها، حين أوفده السلطان عبد الحميد، حاملاً رسالةً، إلى النجاشي منليك الثاني، إمبراطور الحبشة. رحلة مدتها ثلاثة أشهر فقط، لكنها كفيلة بأن تعرفنا على الحبشة في زمان ندرت فيه الكتابة بشأنها، وقرّبتنا إلى شخصٍ مهم في التاريخ، هو صاحب الرحلة صادق باشا المؤيد العظم.
العظم الأكبر... عرفنا الحفيد، فمن يكون الجدّ؟
في كانون الأول/ديسمبر 2016، توفي المفكر السوري الشهير صادق جلال العظم، وحينها رصدت العديد من المواقع الإلكترونية والصحف السيرة الذاتية لهذا الكاتب المهم في أدبنا العربي؛ لكن التعريف به لم يتناول سوى النذر اليسير من تاريخ عائلته، خاصةً والده جلال العظم، المعروف بأنه أحد التنويريين السوريين الذين درسوا في باريس، وأنه أيضاً "من الذين نظروا بإعجاب كبير إلى تجربة مصطفى كمال في تركيا (...). أما والدته نزيهة العظم، فقد كانت إحدى الناشطات في مجال تحرر المرأة في سوريا".
تُصنَّف هذه الرحلة ضمن الرحلات الدبلوماسية، إذ قام بها مؤلفها خارجاً من الأستانة متجهاً نحو بلاد الحبشة، في ربيع سنة 1896 وصيفها، حين أوفده السلطان عبد الحميد، حاملاً رسالةً، إلى النجاشي منليك الثاني، إمبراطور الحبشة
هذا عن الحفيد والأب، أما الجد، فهو بطل رحلتنا المُميزة التي بين أيدينا الآن، وهو صادق باشا المؤيد العظم، الذي كان قائداً عسكرياً كبيراً في الجيش العثماني برتبة "فريق أول"، ومندوب الدولة العلية في بلغاريا.
يقول نوري الجراح، في تحقيقه لـكتاب: "رحلة الحبشة من الأستانة إلى أديس أبابا"، الذي نشرته دار "السويدي للنشر والتوزيع" عام 2001: "اضطلع صادق باشا المؤيد العظم بمهمات عديدة على الأصعدة العسكرية والدبلوماسية، منها الإشراف على مد الأسلاك البرقية من دمشق إلى الحجاز، وهو سوري ينتمي إلى أحد أعرق البيوت الدمشقية".
ويشير الجراح إلى أن العظم وُلِدَ ونشأ في دمشق، وتلقى دروسه الأولى في مدارسها، وانتقل إلى مدارس بيروت، أما علومه العالية فتابعها في الأستانة وبرلين، وتخرج من كلياتها الحربية، وقام بزيارات عديدة إلى أوروبا، وقضى أيامه الأخيرة في دمشق، وتوفي ودُفن فيها سنة 1911.
رحلة تكشف مكنوناتِها سطورُها الأولى
منذ الوهلة الأولى يضع العظم قراءَه أمام الهدف الرئيسي من الرحلة، فيقول: "امتثالاً للأمر السلطاني بانتدابي لإيصال كتابه إلى جلالة منليك الثاني نجاشي الحبشة، سافرت من الأستانة في الخامس عشر من شهر نيسان/أبريل على الباخرة 'أوره نوف' من شركة مساجري ماريتيم الإفرنسية، قاصداً مرسيليا لأركب منها أول باخرة تسافر إلى جيبوتي، وكان في صحبتي البكباشي طالب بك من ضباط الفرقة الثانية ومن ياوران الحضرة السلطانية، وياسين أفندي، أحد جواش بلوك المعية".
وبمجرد ركوبه الباخرة، دوّن العظم وقائع رحلته وما حفلت به من أحداث ومشاهدات يوماً بيوم، وهي تشبه في ترتيبها المذكرات اليومية، وللحقيقة، فالعظم يفصح لنا عن كاتب رحلة محترف تميزت رحلته بالدقة في التعبير والأمانة في النقل، والرهافة في وصف المشاهد، والذكاء في قراءة الظواهر وبساطة اللغة، والطرافة في التعليق أحياناً.
ولعل العمل العسكري ساهم كثيراً في دِقّة العظم خلال سرده ما يراه، فتراه مثلاً يقول: "نحن الآن على ارتفاع 1،500 قدم عن سطح البحر"، أما على الجانب الدبلوماسي فقد جعله حيادياً بشكل لافت، أو كما يقول نوري الجراح في تقديمه للكتاب: "تكشف تعليقاته عن نزعة إنسانية لا يتناهى إليها تعصب لجنس أو دين أو ثقافة، فنراه لا يكتفي بأن تلفت انتباهه الظواهر والمواقف والحالات الغريبة المفاجئة، بل وحتى الأشياء البسيطة والجميلة المؤثرة".
ربما أهم ملاحظة قد تتبادر إلى ذهن قارئ رحلة صادق العظم، أن دبلوماسيته/ مهنيته كانت طاغيةً عليه، فلن تلاحظ في خطابه أي إفصاح عن موقف خاص من الظاهرة الاستعمارية الغربية في إفريقيا، برغم إيراده معلومات جمّةً عن أوضاع الإنكليز والفرنسيين والطليان وتحركاتهم في المنطقة إبان زيارته للحبشة.
إثيوبيا بعيون صادق العظم
"لما دخلنا أديس أبابا، وجدنا الشوارع والساحات وسطوح المنازل ملأى وغاصّةً بالناس وقد خرجوا ليتفرجوا على دخول الوفد السلطاني، وكان الناس من كل صوب يرحبون بنا، واستمر هذ الموكب هكذا حتى وصلنا إلى المنزل الخاص بنزولنا"؛ هكذا وصف العظم لحظة نزوله برفقة الوفد إلى أرض أديس أبابا.
يخبرنا صاحب الرحلة بأن النجاشي في وقت نزوله برفقة الوفد لم يكن موجوداً في عاصمته، بل كان في مصيفه في محلة تُسمّى "أديس علم"، وسيأتي بعد بضعة أيام، لذلك استغل العظم تلك الفرصة وشرع في سرد تاريخ إثيوبيا، وعاد بالزمن إلى عهد "السلالة الثانية عشرة من الفراعنة، الذين جعلوا الأراضي الكائنة بين الشلال الأول والثانية ولايةً تابعةً للحكومة المصرية (...) حين تغلغلت الجنود المصرية إلى أن وصلوا إلى ملتقى نرتاكازا بنهر النيل، وبذلك جعلوا الحبشة شبه تابعة لمصر، وانتشر الدين واللغة المصرية".
ثم أخبرنا العظم أن إثيوبيا استقلت عن مصر في سنة 930 قبل الميلاد، وبعدها غاص في رصد التاريخ والجغرافيا والشكل الاجتماعي لإثيوبيا بشكل غاية في التفصيل!
لكنه في النهاية يعود إلى الرحلة ورصد مشاهداته العميقة، فيعرّفنا إلى النجاشي منليك الثاني، إمبراطور الحبشة، بقلم رشيق، فيقول عنه: "إن جلالة منليك رجل طويل القامة مهيب الطلعة جميل المنظر ربعه متواضع وقور، وهو الآن في الستين من عمره، نشيط يميل إلى أن يعلم كل شيء، وبواسطة هذا الميل وقف على أمور شتى وعلم صناعات كثيرة، مثل فك آلة الساعات وتركيبها ثانياً، وكشف عدد البنادق والمدافع حتى أضحت لديه من أسهل الأمور، وهو على جانب عظيم من الذكاء والدهاء، ويعامل جميع رعاياه بالمساواة، ويحكم بينهم بالعدل، ويحب الخير لهم، ولذلك تجد رعاياه من مسلمين ومسيحيين أجمعوا على حبه وإظهار امتنانهم له".
شعب إثيوبيا بعيون صادق العظم
في حال تركنا إسهابَ العظم في رصد أمور تاريخية شتى، وأمورٍ أخرى قد تبدو هامشيةً، مثل ذكر الأطعمة والصيد، والتي يصفها نوري الجراح بأنها "بلا كبير قيمة وبلا طرافة"، فإننا سنجد جوانب أخرى في الرحلة ومشاهدات في غاية الجمال والروعة الأدبية.
إحدى تلك المشاهدات رصده لشكل العقوبات في إثيوبيا، والتي يصفها العظم بأنها "شديدة كشدة طعم الفلفل الأحمر عندهم"، فالمخالفات عقوبتها بالسوط "فيربطون يدي ورجلي المحكوم عليه بسيور من الجلد أو بالحبال، ويُكب على وجهه، ثم يأتي أربعة من الرجال ويشد كل واحد منهم الحبل أو السير شداً متيناً حتى يُخيل للناظر أن أعضاء المحكوم عليه سينفصل بعضها عن بعض، ويعلو جسمه عن الأرض من شد الحبال، وبعد ذلك يأخذ الجلاد بجَلده بسوط طويل على أفخاذه وظهره وسائر جسمه العاري عن اللباس".
يخبرنا العظم بأن عقوبة السرقات هنا هي قطع الأيدي والأرجل، أما القتل فعقوبته القتل، فإذا لم يرضَ ورثة المقتول بالدية فيسلَّم القاتل إما إلى الجلاد مباشرةً وإما إلى الورثة، فإذا سُلّم إلى الورثة يقتلونه بمثل ما قتل، أي إذا كان قد قتل بالرصاص يقتلونه بالرصاص، وإن كان قتل بالسيف فبالسيف، وكثيراً ما يتجاوز الورثة في تنفيذ هذه الأحكام حدود الإنسانية فيمثلون به تمثيلاً شنيعاً، على حد وصفه.
ومن طرائف ما ذكره العظم في هذا السياق، طريقة البحث عن السارق، إذ يقول: "يبحثون هنا عن السارق بنوع من طرق التنويم في أوروبا (سبيريتزم) و(هيبونتزم)، ويسمونه في بعض الجهات من الأقطار العربية بالمندل بدلاً من التحقيق والتحري (...) فيأتي الشوم (العمدة) المتخصص بالبحث بقليل من مسحوق نبات يشبه مسحوق الملوخية المجففة، ويلقي بها في لبن الحليب، ثم يجرع اللبن لصبي لم يبلغ بعد، فيأخذ الصبي حال شربه اللبن بالارتعاش، وعندئذ يقدمون للولد نارجيلةً (شيشة) يدخن فيها فتنقلب حالة الصبي من الارتعاش لحالة الغثيان فيأخذ بالمشي كمن يمشون في النوم ويشرع يصف محل السرقة والسارق بالرموز والإشارات، ويمسك العمدة بيده حزاماً مربوطاً بوسط الصبي ويسير وراء (له باشا) وهو اسم الصبي المنوّم أينما سار، وكل من يصادف (له باشا) في طريقه يسجد في الحال، ولهذا الصبي النائم أن يدخل أي منزل شاء، وإذا كان موصد الباب يُفتح حالاً، وإذا لم يكن صاحبه موجوداً يكسرون الباب، وبالجملة يجب أن تكون كل الطرق أمام (له باشا) مفتوحةً وربما كان (له باشا) لا يعرف محل السرقة والسارق بالرموز والإشارات فحينئذ ينتظرون حتى يضطجع في محل ويقيء هناك فيحكمون حينئذ أن المال المسروق في هذا المحل"!
الزواج في الحبشة
يخبرنا العظم أن هناك ثلاثة أنواع من الزواج في الحبشة: الأول يسمونه "روموز"، وذلك إذا رغب الرجل في أن يتزوج امرأةً على هذه الطريقة، فيطلب إليها أن ترضى به بعلاً لها، فإذا وافقته تكون زوجةً له بغير أفراح أو شروط على ورق أو احتفالات دينية، والرجل مكلف بمعيشة زوجته وبتقديم كل ما يلزم لها من النفقة، ويُطلب من المرأة القيام بالشؤون المنزلية وأن تذهب مع زوجها أينما ذهب، ويمكن الانفصال حسب رغبة أحد الطرفين.
"لما دخلنا أديس أبابا، وجدنا الشوارع والساحات وسطوح المنازل ملأى وغاصّةً بالناس وقد خرجوا ليتفرجوا على دخول الوفد السلطاني، وكان الناس من كل صوب يرحبون بنا، واستمر هذ الموكب هكذا حتى وصلنا إلى المنزل الخاص بنزولنا"؛ هكذا وصف العظم لحظة نزوله برفقة الوفد إلى أرض أديس أبابا
أما النوع الثاني (المدني)، فيتم بتراضي الطرفين وشهادة الشهود وبمواجهة عمدة البلد وتُسجّل ثروة الطرفين وما يمتلكانه من الأمول، فإذا حصل الطلاق حسب اتفاق الطرفين تُقسم أموالهما بينهما بالمساواة، وإذا كان الطلاق برغبة أحدهما فقط فليس له الحق في أخذ شيء من الأموال المشتركة.
أما النوع الثالث (الديني)، فيكون على يد القسيس في الكنائس، وليس لهذ الزواج طلاق، وإذا توفي أحد الزوجين عقب الاقتران يُحظر الزواج على الآخر، فلذلك كان الإقبال على هذا النوع من الزواج قليلاً جداً، بحسب ما ذكره صادق العظم.
فن الحبشيين... مبارزة بالرقص للوصول إلى قلب امرأة!
يقول العظم: "الأحباش مغرمون بالرقص جداً، وفي الحرب يضربون بطبل كبير والأغاني عندهم تدور على ذكر الحروب وأبطالها والصيد والشجاعة في الغالب، ولهم أغانٍ غرامية أيضاً، ورقصهم كالارتعاش ويقمزون قمزاً خفيفاً، وفي ولائم الأفراح يتحلقون حلقةً وتدخل فتاة إلى وسط الحلقة، ويقف أمامها شاب فيبدأ بالغناء الغرامي ويرقص شارحاً لها ما في قلبه من الغرام والهيام".
يضيف صاحب رحلتنا أنه بعد قليل يبرز منافس آخر: "فيأخذ بالغناء والرقص ويبذل وسعه للتفوق على الأول، ثم يبرز ثالث ورابع حتى يترجح عند الفتاة أغاني الواحد منهم، وفي الحقيقة ترجح من كان قد جذب قلبها قبل الرقص، فتأخذ هي بالغناء وتصف ميلها له بالغناء وبالرموز والإشارات، وكثيراً ما تحدث المشاحنات بين هؤلاء المتزاحمين وتؤدي إلى مضاربات والناس من حول المتضاربين ينظرون ويتراهنون على معرفة من سيغلب كأنهم في مناقرة ديوك"!
بعد كل هذا الثراء المعرفي الذي دوّنه صادق باشا المؤيد العظم، في رحلته داخل الحبشة، عاد إلى الأستانة على ظهر باخرة روسية يوم 16 تموز/يوليو من العام نفسه (1896)، لكنه لم ينسَ أن يضع في نهاية كتابه ملحقاً مهماً، أورد فيه من أسماهم "مشاهير الأحباش" وذكر خلاله عشرات الصحابة والتابعين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 5 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ اسبوعينخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين