بما إننا نتحدّث عن المستقبل، لا بد أن نذكر تلفزيون "المستقبل" اللبناني، الذي ظهر إبّان صعود الحريرية السياسية في لبنان، وانتعاشها بعد اتفاق الطائف، في تسعينيات القرن الماضي.
كان تلفزيوناً بائساً، محافظاً، كريهاً كتلفزيون حكومي، ضبابي الصورة، مسلسلاته وأفلامه عتيقة، قادمة من سبعينيات وثمانينيات التلفزيونات الأميركية، أخباره رسمية للغاية وخطابه مُملّ، (طبعاً قبل أن يحصل الزلزال بمقتل رفيق الحريري، وركوب موجة: "اعرف عدوّك. السوري عدوك" القديمة). باختصار، نسخة رديئة عن كل ما هو رديء في العالم الغربي، نسخة إسلامية عن برامج علمانية (هل تستطيع التخيّل؟) أو نسخة "هايد بارك" في سجن "صيدنايا"، لكنه كان الأقوى بثّاً، فيصل إلى بيوتنا في سوريا، نتيجة التمويل الضخم وانطباق حافر السياسة السعودية على حافر السياسة السورية، فيما يخص لبنان وقتها طبعاً، في ما عرف بمعادلة س‑س.
ثم حصل ما حصل، وأغلق تلفزيون "المستقبل" وصحيفة "المستقبل" ومستقبل "المستقبل". أغلق المستقبل بأكمله كدرفة خزانة في قبو عفن، حتى نسخة "المستقبل" الرديئة تلك لم تعد متاحة.
فيديو "تهاوشنا والصيدة فلتت" لم يستجلب سوى بعض الـ "هههههه" على السوشيال ميديا، بالرغم من أنه مخيف، وفي عالم مثالي، يعتبر اعترافاً صريحاً بجريمة حرب، يجب أن يقود صاحبه، ومن معه، ومن وردت أسماؤهم فيه جميعاً، إلى المحكمة الجنائية الدولية
مشهدان وضحكتان
أي متصفّح نصف مدمن لفيديوهات التيك توك، لا ريب أن المشهدين القادمين، مرّا معه عدة مرّات، وربما لفتا انتباهه أو لا، ربما أضحكاه أو لا، لكن من المفيد ذكرهما في السياق.
المشهد الأول، فيديو شهير لوزير خارجية قطر السابق، حمد بن جاسم، يتحدّث فيه عن دعم الثورة السورية، وكيف "تهاوشنا على سوريا والصيدة فلتت". الفيديو لم يستجلب سوى بعض الـ "هههههه" على السوشيال ميديا واستخداماً رخيصاً من أزلام النظام السوري للتدليل على "المؤامرة"، بالرغم من أنه مخيف، وفي عالم مثالي، يعتبر اعترافاً صريحاً بجريمة حرب، يجب أن يقود صاحبه، ومن معه، ومن وردت أسماؤهم فيه جميعاً، إلى المحكمة الجنائية الدولية.
لم يكن لدينا مستقبل أصلاً. كنّا نعيش في ماض يتكرّر يومياً كفيلم مشروخ في آلة عرض قديمة
فيديو رآه الجميع، من حمل السلاح ومن خرج في التظاهرات، من والى ومن عارض، ومن كتب في الثورة ومن غنّى لصمود "الأسد"، ومن دعا إلى حرب أهلية ومن تمنّى دخول دمشق على ظهر دبابة مهما كانت جنسيتها، من رحّب بالقصف الأميركي المنتظر ومن وزّع بقلاوة للقصف بالكيماوي ومن طالب بالسلاح "النوعي" ثلاثاً، من كتب في "العربي" و"الجمهورية" ومن بقي في "البعث"، ولم تغيّر مشاهدته قيد أنملة في خطاب أحد، كأن لم يروه أبداً. كأن لم تحصل مجزرة هائلة في سوريا، موّل حصولها بلدان عربيان "شقيقان" إضافة لـ "الحكم الوطني"، لأمر الربّ وحده يعلمه.
المشهد الثاني، فيديو قديم أكثر للرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر، وفي معرض حديثه عن قوة اللوبي الصهيوني في السياسة الأميركية، تسأله المذيعة الجميلة: "ولماذا لا تخبر الأميركيين بهذه المعلومات؟"، أجاب: "الأميركيون لا يريدون أن يعرفوا". هكذا ببساطة. لا يريدون أن يعرفوا، وفي الحقيقة لا أحد يريد أيضاً منهم أن يعرفوا. هذه المعرفة باهظة.
إذن، لدينا أمة أميركية كبيرة، 335 مليون، (العرب 470 مليون) متديّنة لحد كبير (العرب كذلك) تمتلك الكثير من القوة والمال (العرب كذلك)، لا تريد أن تعرف أي شيء عن أي شيء (العرب كذلك)، أنانية وعنصرية ومتآمرة، وتظن أنها بمفردها على الكوكب (العرب كذلك) وأن إلهها هو الإله الوحيد الجدير بالعبادة (العرب كذلك) ثم يقف واحد منها ويصرخ: لماذا العالم يكرهنا؟
لدينا أمتان فاسدتان تسيطران تقريباً على العالم، واحدة بقوّتها العسكرية ودولارها وغطرستها، والثانية بانسحاقها وكلبيّتها (الحيوانية وليست الفلسفية) ونفطها وغازها، ثم تخطر لك هذه المفردة المضحكة: المستقبل.
لدينا أمتان تسيطران تقريباً على العالم، واحدة بقوّتها العسكرية ودولارها وغطرستها، والثانية بانسحاقها وكلبيّتها (الحيوانية وليست الفلسفية) ونفطها وغازها، ثم تخطر لك هذه المفردة المضحكة: المستقبل
أين من عيني حبيب؟
لا أعلم أين تقع مفردة "مستقبل" في قاموس السوريين؟ تحت أي بند تصنّف؟ هل هي خيال أدبي أم تخرّصات دينية، واقع يتمّ التخطيط له أم جحيم يقع فيه الجميع؟ زمان أم مكان؟
لا يوجد مستقبل في سوريا، ولا في الدول التي تشبهها. بكل الإطلاق والمسؤولية عن الاستبصار الذي أدّعيه. لم يتواجد من خمسين سنة حتى يتواجد الآن. لم يكن لدينا مستقبل أصلاً. كنّا نعيش في ماض يتكرّر يومياً كفيلم مشروخ في آلة عرض قديمة. كان العالم يتقدّم وكنّا ملفوفين بصور السيد الرئيس وراياته رديئة الصنع. من كان يظنّ المستقبل هو "القليل" الذي كان ينعم به ويرضى بقلّته، فقده الآن. من كان يظنّه "الأمان" و"لا أحد يموت من الجوع" في سوريا، مات نفسه جوعاً أو قنصاً. من ظنّ أن الثورة واردة في الخمسين سنة التي تلت حكم البعث، تراجع عن ظنّه بعد تلزيم العالم بأكمله مشروع إسقاط النظام لثوّار القاعدة وجبهة النصرة وزعيق "العرعور". من ظنّ أن المستقبل "ثمرة تين" يقطفها عن شجرة زرعها أبوه، فقد أباه والشجرة والأرض نفسها. من ظنّ أن المستقبل زمن قادم أضاع ساعته وأزفت ساعة موته بسرعة.
من ظنّ أن المستقبل "ثمرة تين" يقطفها عن شجرة زرعها أبوه، فقد أباه والشجرة والأرض نفسها
من الواضح أن لا أمل بمستقبل أفضل مما عاشته (هذا إذا قُيّض لها العودة إلى ما كانت عليه رغم سوئه) بلدان مثل مصر وسوريا والعراق، وبالتأكيد دول أقل حجماً مثل لبنان والأردن وفلسطين واليمن، إلا بحلّ مشكلة إسرائيل المؤثرة بشكل مباشر على مصائر هذه البلدان، وتالياً مشكلة الديكتاتورية، ومن المؤسف الاعتراف أن السعودية، وممالك الخليج الأخرى، هي في طريقها لتكون أكثر ازدهاراً وثراء واستقراراً.
نقول من المؤسف، لأن هذه البلدان (أقلّه السعودية وقطر) بسياساتها المخطط لها بدقة، كانت مسؤولة بشكل مباشر عن أكثر من نصف الخراب الحالي الذي يحيق بالبلدان سالفة الذكر، فنحن إذ نرى اليوم بلداً مثل السعودية يتجه نحو الانفتاح الاجتماعي، ضمن الشروط الأميركية، ومنح المرأة بعضاً من حقوقها، مع الاستمرار بقمع الأقليات كالشيعة مثلاً وحرية التعبير للجميع، ضمن رؤية 2030 المعروفة، لا ننسى أن هذا البلد بالتحديد كان المسؤول المباشر عن أَسْلَمَة العالم العربي برمّته وتعميم الفساد والتخلّف فيه، عبر تلفزيوناته وفيض فتاويه وشيوخه المستأجرين و"مطاوعي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" وبركة "طويلي العمر"، بل ومسؤول عن الصورة البشعة (بالاشتراك مع المخابرات الأمريكية، وبريجنسكي، مستشار، للغرابة، جيمي كارتر نفسه) التي وُصم بها المسلمون والعرب في كل بقاع العالم، بل ووصم بها حتى اللاجئ الإفريقي الذي صدف أن اسمه "أبدولّا".
بمالها استمرّت الحرب العراقية الإيرانية، واستمرّت الحرب الأهلية في لبنان، وتدمّرت بلدان مثل العراق وسوريا وليبيا، وبمالها يقصف الحفاة والجياع اليوم في اليمن وتدمّر غزّة أيضاً، بمالها تمّت "سَلْفَنَة" المجتمع المصري وانتشر التكفير فيه كالطاعون، وبمالها تمّت صناعة "مقاتلي الحرية" في أفغانستان ونقلوا لاحقاً إلى سوريا وليبيا وحيثما يلزم، بمالها فسدت الصحافة العربية وفسد الصحفيون، فسد الفن برمّته، وأصبحت "هيئة ترفيه" آل الشيخ توزّع جوائز أدبية (ألا يوحي اسمها بالدعارة المنظّمة؟)، بمالها دُعمت أنظمة مشبوهة وقُتل ناس شرفاء (هل ننسى ناصر السعيد؟) وها هي اليوم، بعد أن تخلّصت من الدول التي يمكن أن تمتلك هوية مغايرة، ولو واهية، ضد سياساتها وأغرقتها في قيئها الخاص، تقود حملة للتحديث الوهمي ونزع هذه الصورة التي ساهمت في صنعها، بعد أن أصبح الجميع فقراء وجياع من حولها وهي الوحيدة التي تملك المال. ديك جربان على مزبلة فحسب.
تسيّدت البلدان الريعية، النفطية، "مدن الملح" بتعبير عبد الرحمن منيف، مدن "الشرّ المحض"، المدن التي تستأجر التاريخ أو تزوّره، تستأجر التحضّر وترسم عليه سيفاً شاهقاً، مدن العهر المعولم والبيع الآجل، مدن التسطيح والأعطيات والإقامات الذهبية، بينما يلوح المستقبل لأطفال سوريا الموزّعين على المخيمات، وأطفال مصر سيئي التغذية، وأطفال العراق الذين ينتظرون أن يكبروا ليلتحقوا بالميليشيات، قاتماً ولا أفق له.
لا جديد فيما سبق، والكل يعرفه حقاً، كما سيعلّق بعض "كبيري المعلاق"، لكن طالما أنتم على هذه الدرجة من الوعي والاستبصار، لماذا استمرّيتم، وتستمرون، في تدمير بلدانكم؟ لا أحد سيجيب.
بينما طفقت الفرنسية تلتقط الصور وتتحدّث عن جمال الشجرة ومقدار الظلّ الذي تصنعه، قال رفيقي السوري: "سبحان الله، يؤتي المُلك من يشاء. صنع فأبدع"
حكاية أخيرة
وبما أننا نحكي قصصاً مسلية (أو لا) ونشاهد فيديوهات قديمة، دعوني أحكي هذه القصة: كنت أمشي عصر يوم في هذه المدينة الفرنسية الصغير، برفقة شخص سوري أعرفه هنا وعجوز فرنسية، عندما صادفتنا شجرة هائلة، من تلك الأشجار التي تسحرك من أول نظرة: عملاقة وفروعها تمتدّ بحريّة في كل الاتجاهات، ألوانها متعدّدة ومتدرّجة من الأخضر إلى البني، مروراً بالأحمر والبرتقالي والأصفر، وتبدو الأشجار الأخرى قربها كأنها مجموعة من الأطفال الصغار بقرب والدتهم. شجرة هاربة من إحدى لوحات مونيه الخريفية. باختصار كان المشهد ساحراً.
وبينما طفقت الفرنسية تلتقط الصور وتتحدّث عن جمال الشجرة ومقدار الظلّ الذي تصنعه، عن اسمها الذي لم نستطع التعرّف عليه، عن اقترابها من رفيقاتها وتركها مساحة فيما بينهم، في ظاهرة تعرف باسم "Crown shyness" تبتعد فيها جذور وأوراق الأشجار المتجاورة، منعاً لانتقال اليرقات أو الحشرات أو "احتراماً للمساحة الآمنة"، قال رفيقي السوري: "سبحان الله، يؤتي المُلك من يشاء. صنع فأبدع".
فدُهشت أنا، والشجرة دُهشت، ودُهشت جموع المهندسين الزراعيين وعلماء البيئة ومربو الأبقار في الصين الشعبية وموظفو البلديات في الريف الفرنسي، والله أيضاً كما أظن، دُهش حيث يرقد في عليائه.
هل عرفتم أين تقع معضلة العقل العربي وأين يقع مستقبله؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...