شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"اعزموهم عالمتة، وخدوهم عالاجتماع"... عن أول اجتماع حزبيّ حضرته

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن وحرية التعبير

الخميس 1 أغسطس 202411:01 ص

أنتمي بالاسم فقط لحزب البعث العربي الاشتراكي. لم أكن أعرف قط ماذا تعني هذه الكلمات، مع أنني كنتُ أشعر بالوجل عند سماع هذه الصفات الثقيلة دون معرفة السبب. كنت أظنّه "شغلة مهمّة"، وربما كانت هذه وظيفة الاسم المُنمّق؛ تغطية الأفعال بالكلام، إذ لفظ الحزب في النهاية العربَ والعروبةَ علناً، وتخلّى عن الاشتراكية حتى بالاسم في الدستور الأخير، ولكثرة ما كانوا يمدحونه في كل المجالس، وخاصةً أيام الطفولة والمدرسة: "حزب البعث بنى المعامل والمصانع والمدارس والجامعات، وعمل التعليم والطبابة مجانية"، اعتبرته شيئاً عظيماً.

أنتمي كنصيرٍ للحزب، لكن لم أحضر في حياتي اجتماعاً حزبياً إلا مرةً في عمر العشرين، ولولا منعنا من لعب الكرة في باحة المدرسة -بعد انتهاء الدوام- بحجة وجود اجتماعٍ للحزب، لما علمنا أنّ الحزب يجتمع أصلاً.

هل أنا حزبيّ؟

كان هذا في المدرسة، أمّا عندما دخلنا الجامعة، فأصبحت "العين علينا"، وبدأ أمين سر الفرقة الحزبية في قريتنا "تسميع الحكي"، مُبدياً تذمّره من غيابنا الدائم عن الاجتماعات، و"يضربنا بمنية" لأنه يُسجّلنا "حضور" لإبقائنا على سجلات الحزب، ولا يريد فصلنا حرصاً على مصلحتنا الشخصية، وأذكر أنني كنتُ أملأ استمارة التسجيل في الجامعة، وكان عليّ كتابة إن كنتُ حزبياً أم لا، وفي الحقيقة سألتُ نفسي: "هل أنا حزبيّ؟". كان جوابي الحقيقي: "لا أعلم"، ثم كتبتُ بعدها أنني حزبيّ من مبدأ "صيت غنى ولا صيت فقر". كنتُ أُدعى للاجتماعات بدون أن أحضر.

أنتمي كنصيرٍ للحزب، لكن لم أحضر في حياتي اجتماعاً حزبياً إلا مرة في عمر العشرين، ولولا منعنا من لعب الكرة في باحة المدرسة -بعد انتهاء الدوام- بحجّة وجود اجتماعٍ للحزب، لما علمنا أنّ الحزب يجتمع أصلاً

أذكر ذلك اليوم الذي كنا نلعب فيه كرة القدم في الساحة المُلاصقة للمدرسة، وكان أمين السرّ "عامر" -شابٌ في مقتبل العمر- قد دعانا للاجتماع بعد نصف ساعة، وكان جوابنا مع ابتسامة صفراء عريضة: "انشالله"، وبعد أن فرغنا من اللعب، قرّرت وصديقي كميت الذهاب إلى المدرسة حيث الاجتماع، مع أننا كنا متأكدَين أنّه انتهى بعد مرور ساعتين من دعوتنا، وكان هدفنا أن "نضرب أمين السر منّية، يعني إجينا بس ما لقيناكم"، وقد كان ذلك حيث نظرنا إلى غرفة الاجتماع (قاعة الصف السادس)، فرأينا عامر وحيداً على المقعد، مُنكبّاً على دفترٍ عريض، يُسجّل ويكتب.

"ها قد انتهى الاجتماع لذا يمكننا الدخول": قلنا ذلك ودخلنا بسرعة، حيث أصبحنا خلال لحظات في منتصف القاعة، ويبدو أنّ رؤيتنا النفقية قد خدعتنا، حيث لم نرَ من الباب سوى عامر، وفي الداخل تفاجأنا بوجود مُحاضرٍ على كرسي الأستاذ، هو "أمين الفرقة"، وعلى مقاعد الطلاب ينتشر الأعضاء العاملون والنصراء، ينظر الجميع إلينا باستغرابٍ: شابان في عمر العشرين يرتديان "شورتات" رياضية يسيل من جسديهما العرق ويُبقّع ثيابهما، ويحضن أحدهما (أنا) كرةً بين ساعده وخاصرته، ويرتديان "بواط رياضة" مهترئة (ماركة رين Rein) وجوارب طويلة، يتنهّدان بسرعة، ما يدلّ على  إنهائهما المباراة منذ دقائق قليلة.

حزبيان لا يعرفان شعار الحزب

كان أمين الفرقة لطيفاً رغم أنه لا يعرفنا، قطع ارتباكنا بترحيبه وشجّعنا على الدخول بعد أن تراجعنا إلى الوراء قليلاً: "أهلاً وسهلاً، تفضلوا ادخلوا ما في مشكلة"، وما إن هممنا بالدخول ومشينا خطوتين داخل القاعة حتى استوقفنا الأخير بصوتٍ عالٍ: "وين؟". وقفنا حائرَين، لا ندري هل ندخل أم نخرج. نظرنا إليه بحيرةٍ، فردّ: "بتفوتو بلا ما تردّدوا شعار الحزب؟!"، أمّا المصيبة أنّ كُميت سأله سؤالاً بريئاً جعلنا نبدو أبلهَين تماماً: "ليش شو هوي شعار الحزب؟"، فأجاب بامتعاضٍ يطغى عليه الاستغراب وقلة الحيلة: "عال والله جايين تحضروا اجتماع حزبي وما بتعرفو شو هوي شعار الحزب؟"، يُشبه الأمر زيارة عائلةٍ في منزلها دون معرفة أيٍّ من أفرادها.

صحوتُ من ارتباكي وقلت لا شكّ في أنّ الشعار هو: "أمةٌ عربيةٌ واحدة، ذات رسالة خالدة"، فأتانا الإذن بالدخول.

كان كُميت معروفاً بأسئلته الغريبة التي لا تجد لها مبرّراً. أعتقد أنه كان يعرف الجواب في بعض الحالات، رغم تأكيده بعد ذلك أنه لم يكن يعرف شعار الحزب، وخمّنتُ أنه يسأل تعبيراً عن ارتباكٍ داخلي وحاجةٍ للإجابات. إنّ الأسئلة تزيد من قلقنا، تتكاثر عليه ويتكاثر عليها، ونحن، كبشر، بحاجةٍ لإجابات بغض النظر عن صحتها، نحتاج أي جواب ولو كان "أمة عربية واحدة...".

سأل صديقي كُميت سؤالاً بريئاً جعلنا نبدو أبلهَين تماماً: "ليش شو هوي شعار الحزب؟"، فأجاب الرفيق بامتعاضٍ يطغى عليه الاستغراب وقلّة الحيلة: "جايين تحضروا اجتماع حزبي وما بتعرفو شو هوي شعار الحزب؟"

وقد كان كل خارجٍ من قاعة الاجتماع يطلب الإذن من أمين الفرقة، وعند الدخول يتلو شعار الحزب باستعداد، ثم يدخل ولو كان قد خرج منذ دقيقة واحدة. بدا لي الأمر أشبه بدخول المزارات والأماكن المقدسة، وقد لجأ البعث، كإخوته من الأحزاب الشمولية، إلى إعطاء صفة القداسة لنفسه، فالقداسة تعني تحريم النقد وإضفاء المعنى والفائدة على كل التصرّفات والقرارات ولو كانت مؤذية بشكل واضح، والتبرير بأنها تحمل الكثير من الفوائد على المدى البعيد، فوائد خفية لا يمكننا إدراكها "يلي فوق قاشعين الأفق أكثر".

أساليب استدراج إلى اجتماع الحزب

اتضح لي بعد الجلوس والاستماع أننا لم نكن نختلف كثيراً عن أولئك الحاضرين في القاعة، إذ بدا عليهم البرود والملل، وكانوا يطرحون أسئلةً لها علاقة بانقطاع خدمة الإنترنت مع انقطاع الكهرباء عن القرية، وتأخّر مازوت التدفئة، ولربما يعرفون شعار الحزب لكن أستطيع القول إنّ أغلبهم لا يعرف معاني الشعار ومصطلحاته، وكان أمين الفرقة يمتعض بلطفٍ من عدم حضور الكثير من أعضاء الحزب لاجتماعاته، ودعا الموجودين لتشجيع إخوتهم وأخواتهم وأصدقائهم وأقاربهم على الحضور، والأغرب من ذلك دعا لاستدراجهم صراحةً إلى قاعة الاجتماع: "مثلاً فيك تعزم رفيقك على كاسة متة لعندك عالبيت الساعة خمسة الضهر على موعد الاجتماع، ولما يجي لعندك عالبيت قلو أنا حطيت إبريق المتة عالغاز، منروح منحضر الاجتماع ربع ساعة بيكون غلي الإبريق". هذا هو المنطق الذي كان يتحدث فيه السيد "أمين الفرقة"، إذ أمام تراجع شعبية الحزب لم يجد سوى "المتة" ليعيد ربط الحزب بقاعدته، أو ربما لم تُسعفه مؤهلاته في اقتراح حلولٍ أخرى أكثر واقعية.

استمرّ في قيادة الاجتماع، ليرفع عن الطاولة كتاباً متوسط الحجم، يبدو عليه القِدم وبعض الاهتراء، يحمل اسم "الرفيق النصير" إن لم تخنّي الذاكرة، وهو كتابٌ يبدأ منه أي منتسبٍ جديد للحزب، إذ يحمل اسم أصغر رتبة حزبية "النصير"، مُتابعاً: "نستطيع في كل اجتماع أن نطلب من كل رفيق قراءة خمس دقائق من الكتاب، ونحن نستمع إليه"، ثم أضاف بحماسة: "خمس دقائق من كل رفيق، يُمكننا إنهاء الكتاب في اجتماعٍ واحد!، وهو أفضل من احتساء المتة أو الألعاب أو النميمة التي تصرفون عليها ساعات طويلة، فيما نحن لا نطالبكم سوى بنصف ساعة في الأسبوع"، وعلى هذه الشاكلة كان منطق الكلام، مُحاولاتٌ ضعيفة لجذب اهتمام الشباب إلى الحزب، هذا وقد كان الحزب الوحيد الذي لا شريك له، فكيف سيكون الحال، لو كانت هنالك تعددية حقيقية ومنافسة شريفة بين مجموعة من الأحزاب؟

الدين والحزب، تشارك بالأفكار والأساليب

في الصف العاشر (15 عاماً)، دخل أمين فرقة آخر في مدرستي الثانوية إلى الصف، رفقة "أمين الوحدة"، ليُحاضر بنا قبيل تنسيبنا إلى الحزب، وقد كان قانون الأحزاب قد صدر منذ وقتٍ قصير، فعمد أمين الفرقة إلى إعلاء شأن البعث، كما هي العادة: "الحزب بنى المعامل والمصانع والمدارس وشق الطرق وبنى الجسور والموانئ والمطارات".

كان هذا الإطراء المكرور يغيظني ويُذكّرني بحصة التربية الإسلامية، حين يُذكّرنا الأستاذ بنعم الله على الإنسان التي لا تُعد ولا تُحصى: "نعمة السمع، نعمة الشم، نعمة الرؤية، نعمة الذوق، نعمة المشي، نعمة الكلام، نعمة الدماغ، نعمة البنكرياس..."، كلاهما، أمين الفرقة وأستاذ الدين، كانا يرتكزان على المبدأ نفسه وهو "التمنين" بالبديهيات أو الأساسيات، فكما أنّ الإنسان لا يمكن أن يعيش دون حواسه ودماغه وقلبه وبقية أعضائه، فلا يمكن أن تقوم أي دولةٍ دون معامل ومصانع وطرق وجسور ومدارس وغيرها، ولا غرابة في التشابه بين الحزب والدين، فتحوّل البعث إلى الحزب الوحيد، وأيّ دين يرى نفسه الوحيد الصحيح، بالإضافة إلى أنّ الاستبداد الدينيّ هو الأب الروحي للاستبداد السياسيّ، فمن البديهيّ أن يأخذ الثاني من الأوّل ويتشبّه به.

لكنّ الجديد في هذه المرة هو القانون الذي يسمح بتأسيس أحزابٍ جديدة، لذا بدأ بالتحذير من الأحزاب الجديدة وخطورة الانجرار إليها: "دير بالك بكرا بتشوف صديقك أو جارك أو ابن عمك انتسب لحزب جديد، وبصير بدو يغريك لحتى تنتسب، كونوا حذرين". رأيته في ذلك الوقت يحاول الالتفاف على رغبة الرئيس بالإصلاح الحقيقي، لكنني اليوم أُدرك أنّ كل القوانين ليست إلا حبراً على ورق، وأعتقد أنّ كلام أمين الفرقة لم يكن إلا اجتهاداً شخصياً، أو ربما كان رغبةً منه بتلميع صورته أمام رؤسائه، لأنّ النظام لن يسمح أصلاً بإنشاء حزب لا يُسيطر عليه بشكلٍ كامل. القانون الجديد ليس إلا توسيعاً للجبهة الوطنية التي يتغنّى النظام بـ"ديمقراطيتها".

أمين الفرقة وأستاذ الدين، كانا يرتكزان على المبدأ نفسه وهو "التمنين" بالبديهيات أو الأساسيات، فكما أنّ الإنسان لا يمكن أن يعيش دون حواسه ودماغه وقلبه وبقية أعضائه، فلا يمكن أن تقوم أي دولةٍ دون معامل ومصانع وطرق وجسور ومدارس وغيرها

لا أريد الانتساب لحزب البعث

وفي نهاية كلمته، سأل: "من يودّ الانتساب لحزب البعث؟"، رفع الجميع أيديهم، إلا أنا بقيت صامتاً أحدّق به. لاحظ أنني لم أرفع يدي، فبادرني بالسؤال عن اسمي فأجبتُه، ثم: "ألا تريد الانتساب لحزب البعث؟". قلتُ: "كلا". أثار النفي حفيظته بطريقةٍ واضحة، وبدأ يتقمّص شخصية المحقق الذكي وهو يحرّك أجفانه وحواجبه المُغتاظة سائلاً: "وهل تريد الانتساب لحزبٍ آخر؟"، فكان ردي: "إي ممكن، كلشي وارد". امتلكتُ من سذاجة الطفولة وبراءتها لأقول ما قلته ولأقتنع بأنّ قانون الأحزاب سيسمح بالتنوع والتعدّد، وربما كانت رغبةً مني بالظهور وإبداء رأيٍ مُخالفٍ، رغم عدم وجود أي معرفة سياسيةٍ أو حزبية، ويبدو أنّ التمرّد قد يكون في بعض جوانبه فطرياً، يُخلق مع الإنسان.

لم أكن أُدرك أنّ ما قلته خطير وخطير جداً، فقد وضعتُ نقطةً سوداء في "ملفّي"، وخالفتُ التيار السائد في منطقتي، وطعنتُ كبرياء من كانوا يصدعون رؤوسنا بالحزب العملاق الذي صنع المعجزات.

حادثني أمين الوحدة على انفراد بعد خروجي من الصف، وسألني عن اسمي واسم أمي واسم أبي، فقال: "إنت أبوك بعثي وأمك بعثية، معقول ما تكون بعثي؟"، ربما بدا كلامه في ذلك الوقت منطقياً، لكنني الآن أعرف أنّ الانتماء الحزبيّ لا علاقة له بالوراثة، وأنّ والديّ لم يكونا بعثيين إلا على الورق، يدفعان الاشتراكات ولا يحضران الاجتماعات إلا فيما ندر.

عُدتُ من المدرسة إلى البيت، لأجد أخباري قد سبقَتني إلى غرفة المعيشة في منزلنا، حيث جلس والدي معي يُقنعني بأنني لا يجب أن أقول ما قلته، وأنّ السياسة عالمٌ قذرٌ لا يرحم أحداً، يُداس فيه البسطاء لصالح أصحاب النفوذ، حاول قدر إمكانه أن يقنعني بدون تخويف، ربما لأنه عرف في ذلك الوقت أنّ لديّ روحاً متمردةً تتغذى على التحدّي والزجر، وكلما زاد قمعها طوّرَت أساليب تمردها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image