شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
حين أصرّ السيّد الرئيس على حضور زفافي

حين أصرّ السيّد الرئيس على حضور زفافي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والحقوق الأساسية

الجمعة 2 أغسطس 202411:17 ص

تعتبر الاحتفالات في الدول الشمولية بديل السلع في المجتمعات الرأسمالية، فكما تبدو الأخيرة رُكاماً هائلاً من السلع الاستهلاكية، فإنّ المجتمعات ذات الحكم الشمولي تعجّ بالاحتفالات الدينية والسياسية كبديل عن ركود الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وفق ما يلفت إليه المفكر الماركسي الشهير ريجيس دوبريه.

وعندما يعمّر الحكم الشموليّ سنواتٍ طويلة، مثل الحكم الأسديّ في الحالة السورية، ويغطّ في نومٍ عميق (على) الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ثم يستفيق من سباته ليحاول أن يواكب التطوّر الحاصل، غالباً ما تكون محاولاته فاشلةً أو مشوهةً، حيث يحاول استغلال أي مناسبة اجتماعية خاصة أو عامة ليثبّت فيها سطوته، ويستخدم أدوات العصر التي أتاحتها العولمة والعلمنة لإيصال مبادئه و"منطلقاته النظرية" التي لم تتطوّر -على صعيد المضمون- قيد أنملة، فيَسبغ اسم "العرس" على انتخابات مجلس الشعب ورئاسة الجمهورية، حيث تعجّ الحملات الانتخابية التي حضرتها منذ طفولتي بمكبرات الصوت والآلات الموسيقية التي تُحدث أكبر قدرٍ من الصخب والضجيج، مثل "الطبل" و"الأورغ".

السُّلم الموسيقيّ يشلّح القائد أوسمته

 ويأتي إلى حفل "تجديد البيعة" مطربٌ شعبيّ يغني الأغاني "الوطنية"، التي لا تمجّد الوطن بقدر ما تمجّد "قائده المُفدّى" ويناوب المطرب بينها وبين الأغاني الشعبية والرومانسية، لكنه لا يلتزم بالكلمات، إذ يجتهد ويرتجل ويحرّف، وكثيراً ما يستبدل اسم المعشوق في الأغنية باسم الرئيس.

 أذكر في أحد "الأعراس الوطنية" غنى المطرب: "بدنا نعشق بدنا نحب" لعاصي الحلاني، وبدل أن يقول: "بدنا نتعلم الرجولة ونحب الشام من القلب"، قال: "ونحب بشار من القلب". ربما كان اجتهاد المطرب عفوياً فهو يحاول إثبات الولاء واستفزاز الهيجان الذكوري، لينهض الرجال من كراسيهم إلى ساحة الدبكة بظهورٍ (جمع ظهر) منتصبة وصدورٍ مشرئبة وكبرياءٍ واضحٍ، وكأنّهم المخصوصون بالمديح، لكن ربّ رميةٍ من غير رامٍ؛ فقد استُبدلت البلاد وساكنوها باسم الرئيس، واختُزل الوطن باسمه، والوطنية بمحبته، إذ يمكن أن تكون وطنياً دون أن تُحبّ الوطن، لكن لا يمكن أن تكون وطنياً دون أن تحب الرئيس.

يأتي إلى حفل "تجديد البيعة" مطربٌ شعبيّ يغني الأغاني "الوطنية"، التي لا تمجّد الوطن بقدر ما تمجّد "قائده المُفدّى" ويناوب المطرب بينها وبين الأغاني الشعبية والرومانسية، لكنه لا يلتزم بالكلمات، إذ يجتهد ويرتجل ويحرّف، وكثيراً ما يستبدل اسم المعشوق في الأغنية باسم الرئيس

والمفارقة أنّه الموضع الوحيد الذي يستطيع المطرب/المواطن فيه ذكر اسم الرئيس دون بوادئ ولواحق التعظيم والتبجيل المعروفة، لأنها لن تُناسب الإيقاع الموسيقي وستخرّب اللحن. هنا ينتصر السلم الموسيقيّ على "سيادة الرئيس المفدّى الدكتور" و"يشلّحه" كل شيء، حتى يبقى اسمه وحيداً عارياً، حتى يأتي من يرقع له "كبير باسمه".

ويتمّ اختيار الأدوات الموسيقية الصاخبة، مثل الطبل والأورغ، فيما تُستثنى الآلات الهادئة مثل العود، رغم تميز بيئتنا الريفية بتصنيعه والبعض يصدره إلى دول الجوار والخليج العربي، حتى إنّ الكثير من بيوت الساحل تقتنيه وتدرّب أولادها عليه، إذ تعتبره إرثاً فنياً وثقافياً واجتماعياً، وفي بعض الحالات جزءاً من التراث الديني.

 لكن المطلوب صخبٌ قوي، يستفزّ حالة هياجٍ غرائزي تخفي صوت العقل، أما مناقشة البرنامج الانتخابي للمرشح وتقييمه فهو أمرٌ تركناه للدول "المفزلكة"، كما قال لنا أمين الوحدة في مدرستي الثانوية، فقد "اخترنا قائدنا للأبد"، وكثيراً ما كنتُ أقرأ عبارةً مكتوبةً على الصفحات المؤيدة وفي المسيرات والمؤسسات الحكومية -مع بدايات الحرب- بعين الإعجاب والفخر: "الشعوب تحرق نفسها لتبدل رؤساءها، فيما نحن نحرق أنفسنا وأولادنا ليبقى الأسد قائدنا".

كان هذا في بداية مراهقتي، أما اليوم وبعد أن قطعتُ شوطاً في النضج، فأنظر لتلك العبارة بكثيرٍ من السخف، والأهمّ أنني أستغرب كيف انطلى علينا هذا الهراء؟ كيف تم إقناعنا -ولو نظرياً- بأننا يمكن أن نحرق أنفسنا وأولادنا فداءً لشخص. أعتقد أنّ أحد الأجوبة قد تكون اجتماع صخب الطبل والأورغ مع الخطابات السياسية، وغيرها من خلطات تغييب العقل والنقد.

يبدو دمج أساليب التدجين بالغناء والدبكة والفرح، محاولة لعلمنة/تحديث هذا الدين السياسي الأصم الذي لا يقبل المشاركة أو النقد أو  الحرية، وإضفاء بعض ملامح الفرح المشوّه على جلافة فكره وعشوائية عقابه وفوضوية قراراته. إنه تزويج الساكن بالمتحرك، تزويج لم ينتهِ بتحريك الساكن على أية حال.

تسييس الفرح

لم تقتصر الأمور على "علمنة" السياسة الديكتاتورية، فقد طبّق "الرفاق" اللاحقة التي قرأوها في نظريات الرياضيات "والعكس صحيح"، إذ عملوا على "تسييس الفرح" وتديين (بدين البعث والقائد) جميع مظاهر الحياة الاجتماعية حتى الأعراس العادية "غير الوطنية" التي لا تخصّ سوى فردين مع العائلة والأصدقاء والمقربين.

 ومن المعروف في سوريا أنّ إقامة عُرسٍ يستوجب موافقة أمنية، فالأنظمة الشمولية مهووسة بأن تعرف كل ما يجري ولو كانت مناسبة شخصية، وأكثر ما تخاف منه هو "الاجتماع" ولو كان يضمّ بضعة أشخاص، وهذا ما قد يفسّر مقابلة المظاهرات بالرصاص، ولشدة الهوس بالسيطرة وإثبات الوجود، يحضر العرس بضعة أفرادٍ من المخابرات، يأكلون ويشربون (وقد يرقصون) على حساب "العريس" دون أيّ مبالاة أنها مناسبة خاصة قد لا يحبّذ الأهل فيها مشاركة غرباء، وحين يحتجّ على حضورهم لخصوصية ما، تُحل بدفع مبلغٍ من المال، أو ربما يأتي رئيس الفرع إلى المطعم ليتناول وجبة غداء في اليوم التالي.

ولا يقتصر التدخل المخابراتيّ في الأعراس الشخصية عند هذا الحد، إذ تُكال التحيات والثناءات لقائد الوطن وحسن نصر الله وضباط المخابرات، وفي كل الأعراس التي حضرتها كان هنالك مَوّال أو أغنية أو تحية يُطلقها المطرب أو حتى مُنسّق الأغاني (الدي جي) للدكتور بشار الأسد والحرس الجمهوري وقائد الفرقة الرابعة والسيد حسن نصرالله وغيرهم، بطريقةٍ كنتُ أراها لا تتفق أبداً مع سياق الحفل والغاية منه، بل تشوّهه وتخرب رومانسية العرس، حتى لو فرضنا جدلاً أنّ تلك الشخصيات تستحق التمجيد والتحية.

 لقد أحبا بعضهما وهما يتزوجان اليوم ويتمنى الجميع لهما حياة سعيدة، ليجدا أنّ أهم مناسبةٍ في حياتهما وأكثرها حميمية وخصوصية قد دخل فيها "السيد الرئيس" مع توابعه وملحقاته ولوازمه، دون إذن أو دعوةٍ مسبقة، وقلتُ في نفسي: "عذراً سيدي الرئيس، لستَ مدعواً إلى زفافي في المستقبل"، لكن كان له رأي آخر.

أحبا بعضهما وهما يتزوجان اليوم ويتمنى الجميع لهما حياة سعيدة، ليجدا أنّ أهم مناسبةٍ في حياتهما وأكثرها حميمية وخصوصية قد دخل فيها "السيد الرئيس" مع توابعه وملحقاته ولوازمه، دون إذن أو دعوةٍ مسبقة

إصرار الرئيس على حضور زفافي

بعد بضعة سنواتٍ من ذلك الحديث الداخليّ، أقمتُ زفافي في أحد المطاعم المتواضعة في ضواحي دمشق. جمعنا ثلة قليلة من الأهل والأصدقاء، لم أُحضر مُطرباً إلى الزفاف لتقليل التكاليف، وكيلا يتحول زفافي لمهرجان خطابي وفرصةً لتقديم فروض الطاعة وإثبات الولاء، وظننتُ أنني بذلك قد "تغدّيت فيه قبل ما يتعشّى فيني"، ولكن هيهات، فقد أصرّ السيد الرئيس على حضور زفافي بكل قوة.

حيث خرج شخصٌ لا أعرفه (تبين فيما بعد أنه أحد الطبّالين) معلناً الولاء والانتماء للوطن وسيد الوطن وبقية الشلة الحاكمة، دون أي استئذان، وقد أخبرني بعض الأصدقاء فيما بعد أنّ هذه التحيات لا بدّ منها. لم أفهم كثيراً أسباب إجباريتها، وفضلتُ عدم الخوض في التفاصيل على مبدأ أنها "مرت على خير"، وعلى هذا المنحى يُمضي السوريون حياتهم "يمرّرون شؤونهم على خير"، إذ حلّ "المرور" مكان التقدّم والتطوّر وتحقيق الإنجاز، المهم أن "تمرّ" دون أن تَعْلَقَ هنا أو هناك.

وبدا لي الأمر ضرباً من الجبرية التي يحكم به النظام الناس، إذ لا وجود لخصوصية فردية في الأنظمة الشمولية، ولا يمكن لفرد أن يعيش مثلما يحب ويود ويتمنى، وهي إحدى طرق الحُكم المؤثرة التي تقول لكل فردٍ على حدة: "نحن موجودون في كل مكان، وفي أشد الأماكن خصوصية وحميمية"، مع التأكيد على انتفاء أي معنى من معاني "الخصوصية" حين تحكم "الشمولية"، ويتطبع المجتمع لاإرادياً بطبائعها، ليُمارسها في كل مكان.

أعادَت حادثة عرسي تلك إلى ذاكرتي، انتقادي الطويل لعرس إحدى صديقاتي، حيث شاهدتُ "البرومو" على صفحتها الشخصية على فيسبوك، وقد بذخ العريس في الألعاب النارية والدّخان والورود ومختلف أنواع الزينة في ساحة الرقص وعلى الكراسي والطاولات.

 لكنّ كل هذا كان من وجهة نظري "تكاليف عالفاضي"، إذ أصرّ القائد الخالد على حضور العرس بشكل شخصي هذه المرة عبر تمثاله، مجسّداً الوثنية السياسية التي ميّزت عهد الأب، حتى قيل إنه يحكم من خلال تمثاله، ليتفرّغ لحُكم أكبر قدرٍ ممكن من تفاصيل السوريين، إلى جانب صور ابنه وأعلام حزبه، بدت مع الزينة والورود والألعاب النارية خليطاً غير متجانسٍ أبداً، أشبه بمن يشتري طقماً رسمياً مع "بابيونة" أنيقة وحذاءٍ لامعٍ، ثم يذهب ليسبح في البحر، فللبحر لباس وللعمل لباسٌ آخر مختلف.

لقد كانوا يرقصون بينما الأب ثابت مع ابنه يراقبان ما يحدث بصمت.

إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard