شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
عن بيروت التي تنتظر الحرب الإسرائيلية وذكرى 4 آب

عن بيروت التي تنتظر الحرب الإسرائيلية وذكرى 4 آب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الأحد 4 أغسطس 202412:32 م
Read in English:

Beirut, the threat of Israeli war, and the memory of August 4

لقد كان هذا الأسبوع أشبه بالزوبعة، حيث استهلكني التهديد الوشيك بالحرب في بيروت، وفي مختلف أنحاء لبنان. أبقتني الأخبار المقلقة من غزة وجنوب لبنان متوترة، ووجدت نفسي منغمسة في وضع وصياغة خطة للبقاء على قيد الحياة. ماذا علي أن أفعل إذا اندلعت حرب شاملة في لبنان؟ ماذا لو فقدت وظيفتي؟ إلى أين سنذهب؟ كان ذهني يتسابق مع أسئلة لا نهاية لها.

في خضم هذه الفوضى، أعادتني دعوة على شاشة التلفزيون إلى أرض الواقع. لقد ذكّرتني بأننا على بعد ساعات من ذكرى الرابع من آب/أغسطس مرة أخرى. بدأت ذكريات وعواطف ذلك اليوم تطفو من جديد. كيف لي أن أنسى؟

"وين كنت يوم الانفجار؟"

"وين كنت يوم الانفجار؟". سؤال يطارد كل حوار منذ 4 آب/أغسطس 2020. نطرح هذا السؤال لأن الفهم مهم. عندما أتحدّث عن هذه الحادثة، هذا الحدث الضخم الذي شكّل ويشكّل وجودي بأكمله، هل سيدرك الشخص المتلقّي عمّ أتحدّث؟ كيف تصف الصوت؟ ماذا عن رائحة الدماء؟ كيف تنقل الصورة بطريقة لا تفقدها حجمها؟

كنت في مكان عملي، غارقة في رتابة اليوم، حينما انشطر العالم من حولي. في دوي الذهول الذي تلى الانفجار، انقسم الزمن إلى "قبل" و"بعد". هذه اللحظة من عدم اليقين تلتصق بنا كالغبار، تستقرّ في شقوق حياتنا، ولا يمكننا إزالتها.

كنت في مكان عملي، غارقة في رتابة اليوم، حينما انشطر العالم من حولي. في دويّ الذهول الذي تلى الانفجار، انقسم الزمن إلى "قبل" و"بعد". هذه اللحظة من عدم اليقين تلتصق بنا كالغبار، تستقرّ في شقوق حياتنا، ولا يمكننا إزالتها

عام 2020، كنت أتنقّل يومياً من شمال لبنان إلى بيروت للعمل، والآن، أصبحت مقيمة في هذه الشوارع التي دُمّرت بالكامل في أغسطس/آب 2020. واليوم، بعد مرور أربع سنوات، لدي طقس بيروتي خاص بي: أتجوّل في شوارع هذه المدينة مع الأصدقاء، مستمتعين بسحرها الفريد. نلتقط الصور تماماً مثل السيّاح الذين يزورون المدينة لأول مرة، والذين يلتقطون جوهر المدينة التي قد لا يرونها مرة أخرى أبداً.

بالأمس، كما هي العادة، خرجت مع صديقتي المقرّبة. كانت محادثتنا هي مصدر الإلهام لهذه المدونة.

بيروت خليط من الذكريات

عندما أتجوّل في شوارع بيروت، أشعر وكأن المدينة عبارة عن خليط من الذكريات، مخيطة بخيوط من الفرح والحزن والصمود. كل خطوة أخطوها تنبض بنبضات قلب مدينة عرفت نشوة الحياة وعذاب الدمار.

أغادر منزلي في الجميزة، حيث كانت الحياة الليلية تزدهر ذات يوم. تروي الشوارع الضيقة، المليئة بالمباني القديمة، قصصاً عن حقبة مضت. لقد حلّ الصمت الكئيب محل صخب الموسيقى الذي كان يتردّد صداه هنا. لا تزال ندوب الانفجار ظاهرة، مثل الجروح المفتوحة التي ترفض الشفاء. تذكّرني كل نافذة محطمة وجدار منهار بهشاشة الحياة والسرعة التي يمكن أن تتمزق بها.

نتحدّث عن شوقنا إلى البساطة، إلى حياة خالية من الحاجة إلى الشجاعة والبطولة المستمرّة. نتصارع مع السؤال: هل من الأفضل أن نتذكر أم أن ننسى؟

أواصل السير باتجاه مار مخايل حيث من المفترض أن ألتقي بصديقتي. في طريقي، أرى أهراءات القمح. يتسارع نبض قلبي. أرى مبنى شركة كهرباء لبنان، تذكير صارخ بقوة الدمار. يمكنني تقريباً سماع هدير الانفجار الصاخب، أشعر بالأرض تهتزّ تحت قدمي، أشم رائحة الدخان اللاذع الذي ملأ الهواء. تتدفّق الذكريات مرة أخرى، غير مرحّب بها، لكنا تأتي وتستبيح دماغي.

أصل وتبدأ أحاديثنا. أمامنا أربعة فناجين من القهوة، رغم أننا كنا اثنين فقط، محاطين بمنفضة مليئة بالسجائر، على الطاولة أيضاً الدفاتر والأقلام وأجهزة الكمبيوتر المحمولة والكتب. جلسنا تحت شجرة بيروتية ذات أزهار صفراء، سقط نصفها، لكنها استمرّت بالتفتح. تدفقت محادثاتنا، كل منها يدور حتماً حول بيروت والانفجار. روينا أين كنا، وبعد أربع سنوات، ظهرت مشاعر جديدة. شاركنا، وتحدثنا عن رحلة الشفاء التي لا تنتهي، وقد لا تنتهي أبداً.

نتعمّق في مشاعرنا، ونحلّل الشبكة المعقدة من المخاوف والشكوك المشتركة بين جيلنا. كل واحدة منا تصعد إلى المسرح الافتراضي، وتلقي مونولوجات عاطفية حول عدد لا يحصى من المواضيع، ونستمع، نصغي حقاً، إلى بعضنا البعض. نتحدّث عن شوقنا إلى البساطة، إلى حياة خالية من الحاجة إلى الشجاعة والبطولة المستمرّة. نتصارع مع السؤال: هل من الأفضل أن نتذكر أم أن ننسى؟ محادثاتنا حول منازلنا حية وشخصية، وكأننا نصف شخصاً محبوباً، إنساناً  من لحمٍ ودمٍ ومشاعر.

"أين كنتِ يوم الانفجار؟". هذه المرة، يكون جوابي واضحاً وحازماً: "كنت هنا، وما زلت هنا. أعيد بناء نفسي ثم أنهار، تارة أشعر بالسعادة، وتارة أخرى يستهلكني الإحباط من كل جانب من جوانب هذه المدينة. ولكن رغم كل هذا، ما زلت باقية. أنا المدينة، وأحب بيروت، أتعلّم أن أحب نفسي"

نلوم المدينة

أشارت صديقتي إلى أمر لم أفكر فيه من قبل: "نحن نلوم المدينة"، قالت. صحيح، كنت ألوم بيروت وألعنها لسنوات، ولكن بيروت ليست مسؤولة عن بؤسنا. في هذه اللحظات، أدركت كيف أصبحت المدينة جزءاً لا يتجزّأ من حياتنا وقصصنا. تربطنا التجارب المشتركة والتفاهم غير المعلن والروح الجماعية ببيروت بطريقة تتجاوز الجغرافيا المجرّدة. كل قهوة، كل نزهة، كل محادثة هي خطوة في رحلتنا المستمرّة للشفاء وإعادة الاكتشاف، تذكرنا بالحب العميق الذي نشعر به تجاه هذه المدينة وبعضنا البعض. يبدو أن الجدران تستمع إلى محادثاتنا التي لا تنتهي حول الانفجار، والتي تتكرّر أحياناً، بينما نروي تجاربنا ونشارك مخاوفنا.

شوارع بيروت، التي كانت نابضة بالحياة، تحمل الآن ندوب تلك اللحظة المدمّرة. نحن الناجين والناجيات، نسير في هذه الشوارع، عقولنا تعيد مشاهد الكارثة وقلوبنا مثقلة بمزيج من الخوف والصلابة. كل يوم هو صراع بين المضي قدماً والانجراف إلى الوراء بسبب قيود غير مرئية من الصدمة. أصبح عدم اليقين رفيقاً غير مرحّب به. كل صوت، كل اهتزاز، يجلب موجة من الذعر. نسأل عن أماننا، عن مستقبلنا، وعن قدرتنا على إعادة بناء ليس فقط مدينتنا، بل أنفسنا أيضاً. العبء النفسي هائل، معركة مستمرّة تستنزف قوتنا ولكنها تغذي عزمنا على البقاء.

يوم جديد

اليوم، أسير هائمة في بيروت، تلك المدينة البائسة التي تفتنني. أجوب شوارعها، أختار أغنية تهدّئ من روعي وتشعرني أن هناك بصيص أمل مخبأ في مكان ما بين هذه الجدران المتصدّعة وسيظهر لي من حيث لا أدري. أمل عنيد وصلب، حاضر في الجهد الجماعي لإعادة البناء، في ضحكات جلساتنا الذي يخترق الحزن أحياناً، في صراعنا مع من أراد لنا أن نكون كومة جثث وأراد لبيروت أن تكون مقبرة جماعية.

أشرب قهوتي الصباحية وأتصفّح أحد كتب ربيع جابر، وأراني مثل أبطال الكاتب في الأغلبية الساحقة من رواياته، أسير في أزقة بيروت وساحاتها بحثاً عني وعنها، وأتذكر السؤال: "أين كنتِ يوم الانفجار؟"، وهذه المرة، يكون جوابي واضحاً وحازماً: "كنت هنا، وما زلت هنا. أعيد بناء نفسي ثم أنهار، تارة أشعر بالسعادة، وتارة أخرى يستهلكني الإحباط من كل جانب من جوانب هذه المدينة. ولكن رغم كل هذا، ما زلت باقية. أنا المدينة، وأحب بيروت، أتعلم أن أحب نفسي".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

نرفض أن نكون نسخاً مكررةً ومتشابهة. مجتمعاتنا فسيفسائية وتحتضن جماعات كثيرةً متنوّعةً إثنياً ولغوياً ودينياً، ناهيك عن التنوّعات الكثيرة داخل كل واحدة من هذه الجماعات، ولذلك لا سبيل إلى الاستقرار من دون الانطلاق من احترام كل الثقافات والخصوصيات وتقبّل الآخر كما هو! لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم، فكل تجربة جديرة بأن تُروى. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard