كثير من المنطق لم يكن كافياً لفرض تغيير مطلوب على بعض من سلوكيات المصريين العجيبة، تلك السلوكيات التي تجعل الزواج أمراً يفني بسببه الشاب طاقته لإتمامه فقط، دون الحديث عن إنجاحه، والتي ترمي بأطفال بلا حساب ولا عدد إلى حياة غير محسوبة منذ اللحظات الأولى، وغيرها من سلوكيات كنت أود كثيراً أن تتغيّر، لكن ذلك لم يحدث أبداً لأن المنطق بطيء في الإقناع، لكن الضرورة ليست كذلك.
في زمن الرئيس عبد الفتاح السيسي، وجد المصريون أنفسهم مجبرين على تحكيم العقل والحساب بالورقة والقلم، في أمور عدة اعتادوا أن يسيروها ببركة الله وحده، كما يقولون. فالتعويم مثلاً أطاح بتلك البركة المزعومة، وكذلك بالرزق الذي يظن أهل مصر أن الأطفال يأتون إلى الدنيا وهو بحوزتهم.
كيف تغيرت فكرة الزواج في زمن السيسي
منذ سنوات ليست بالبعيدة، كان يجب على شاب في مقتبل العمر أن يؤسس منزلاً يضاهي في إمكانياته منزل والد خطيبته، مساحة كبيرة وأثاث يكفي لإقامة حفل عائلي صغير وحفل زفاف يُكلفه وحده على الأقل راتب ربع سنة من عمله الدؤوب. عجز المنطق لفترة طويلة في إقناع كثير من المصريين بأن لا أحد يبدأ حياته بهذا الشكل، لكنها قد تنتهي هكذا أحياناً، وبسبب هذا العجز سقطت كثير من قصص الحب صريعة الاشتراطات التعجيزية، واستُبدلت بصفقات شبه تجارية، تذهب فيها العروس إلى "الرجل الجاهز بسلامته"، حتى ولو كانت التجهيزات هي مجرّد ميراث صادف الرجل سعيد الحظ.
في زمن الرئيس عبد الفتاح السيسي، وجد المصريون أنفسهم مجبرين على تحكيم العقل والحساب بالورقة والقلم في أمور عدة اعتادوا أن يسيروها ببركة الله وحده، كما يقولون
في زمن السيسي، ولأن الأزمة الاقتصادية جعلت من الجميع ضحايا للخوف من الحاجة، تغيّرت كثير من تلك الأفكار التي وصلت قبل ذلك إلى مرحلة القداسة، فببساطة، إذا أردت من شاب أن يتملّك منزلاً ويضع فيه أثاثاً كاملاً لا ينقصه لوح خشب واحد، ثم طالبته بإقامة حفل زفاف في أحد النوادي وبنفس الشكل المتعارف عليه، فذلك يساوي الآن أكثر من مليون جنيه، في حين أن الرواتب المعتادة تقع في منطقة بين الخمسة والعشرة آلاف فقط.
أي أن الشاب، في أفضل الأحوال، سيكون قادراً على إتمام مثل هذه الزيجة بعد العمل عشرة أعوام على الأقل دون صرف أي جنيه واحد. قليل من الشباب على استعداد للاقتراض الضخم من أجل الزواج، خاصة وأن تسديد قروضهم في ظل الوضع الاقتصادي الحالي مخاطرة كبيرة، أي أنهم باتوا يفضلون عدم الزواج على الإذعان لطلبات الأهالي المبالغ فيها، وأدى هذا لانخفاض في معدلات الزواج، حسب الجهاز المركزي المصري للإحصاء، بمعدل 30% تقريباً عن العام قبل السابق.
طبعاً الأمور كانت مشابهة قبل هذا الزمن، طلبات غير منطقية تحت بند "اللي معهوش مايلزمهوش"، لكن ما ساعد على التخلي عن تلك الاشتراطات عند البعض، أنه، ووفقاً للمتعارف عليه، فأهل العروس سيتكلفون هم كذلك أموالاً ضخمة في شراء الأجهزة الإلكترونية، والتي تضاعفت أسعارها بعد الانهيارات المتكرّرة للعملة خمسة أضعاف، وأكثر من ذلك بعشرة أضعاف لبعض الأجهزة، فوصلت الآن إلى ربع مليون جنيه على الأقل، لكن عدم إجبار الأهل عريس ابنتهم على تحمّل ما لا يطيقه، أزاح من على عاتقهم هم أيضاً جزءاً كبيراً مما لا يتحملونه.
أي أن الأزمة الاقتصادية أجبرت الشباب على رفض الاشتراطات المبالغ فيها وكذلك أجبرت أهل العروس على عدم المبالغة في طلباتهم توفيراً لأنفسهم أيضاً، ورغم تمسّك البعض بنفس بنود العهد القديم في الزواج، لكن هناك عدداً لا بأس به بالفعل تغير مفهوم الزواج لديه وتخلى عن تلك البنود، بل أصبحنا نرى الأهل يتعجبون من قدرة الشباب على الزواج و"فتح البيت"، فتلك أصبحت بطولة في هذا الزمن.
"العيل بييجي برزقه، بس الحكومة هتاخده"
مئات من حملات تحديد النسل فشلت فشلاً ذريعاً منذ عصر "ماما سوزان" و"بابا مبارك"، لكن الأزمة الاقتصادية الطاحنة جعلت من الحمل نفسه، ناهيك عن تربية الطفل، عبئاً مادياً كبيراً لا يقدر عليه كثيرون. مرة أخرى تنجح الأزمة، إلى حد ما، في جعل الإتيان بأطفال في بلدنا أمر يستحق الدراسة، وحتى الإجهاض بات خياراً غير مستبعد، تكرّر ذلك مع عديد من الأصدقاء الذين كانوا سيرفضون تلك الفكرة تماماً منذ سنوات قليلة لدواع دينية.
الأرقام التي خرجت في هذا الصدد كافية لتدلّ على أن التغيير قد حدث بالفعل، وإن كان محدوداً، فحسب الإحصاءات، حققت مصر العام الماضي أقلّ معدلات نمو للزيادة السكانية خلال أخر خمسين عام، وتراجعت نسبة المواليد الجدد بنحو 10% في بعض التقارير.
الاقتصاد بالورقة والقلم
أما عن سير الحياة نفسها، فمن كان يظن أنه سيأتي يوم نرى فيه المصريين يشترون خضرواتهم وفاكهتهم بالثمرة الواحدة؟ حتى أن بعض التجار بدأوا بتجهيز أكياس جديدة على الأسواق، تحمل عدداً قليلاً من الثمرات المتنوّعة التي تصنع وجبة سلطة مثلاً. كنا نشاهد الأجانب يفعلون ذلك، ورغم أنه سلوك ممتاز يحافظ على الطعام من التلف بسبب كميته المبالغ فيها، وكذلك يوفر أموالاً ليست بالقليلة، لكن كثيراً من الناس كان سيصيبهم الإحراج من الشراء بتلك الطريقة، شخصياً اعتدت فعل ذلك عندما كنت أعيش بمفردي، ومرات عديدة كان البائع يعرض علي ألا أدفع مقابل الثمرات القليلة التي انتقيتها، ظناً منه أنني لا أمتلك المال الكافي للشراء بالكيلو. تغير ذلك الآن، ولم يعد للإحراج مكان عندما يهدّد أمن الأسرة المادي، فأصبحت أسر كثيرة تشتري قدر حاجتها اليومية فقط لا غير.
نفس الأمر ينطبق على الكهرباء، فالزيادات الضخمة التي تعاقبت على الفواتير، بالإضافة إلى انتشار عدّاد الكهرباء مسبق الدفع، جعل استهلاك الكهرباء أمراً جدياً للغاية، والتوفير في استخدامها ضرورة، وإلا فالأموال لن تكفي لتسديد فاتورة الاستهلاك بعد الانتقال إلى شريحة أعلى بسبب الاستخدام غير المحسوب للكهرباء.
من ناحية أخرى، وبعدما فقد المصريون ثقتهم في إدارة اقتصاد بلادهم، كان لا بد أن يعتمدوا على أنفسهم لحفظ ما تبقى من مدخراتهم، فبعد فقدان العملة كثيراً من قيمتها، أدرك المواطن أنه لو ظلّ بلا حراك فسوف يودّع كل ما قام بادخاره طيلة عمره، فبدأ في محاولة فهم طارئة للاقتصاد، القروض والذهب والعملات واجتماعات البنوك محلياً ودولياً، كل تلك الملفات أصبح لزاماً عليه أن يتعرّف عليها فجأة، حتى أن أحدهم تندر قائلاً على لسان الرئيس الأسبق حسني مبارك: "علي الطلاق على أيامي محدش كان عارف البنك المركزي من الأمن المركزي"، في إشارة لتفاوت الاهتمام بمتابعة الاقتصاد بين زمن مبارك وزمن السيسي.
"العيل بييجي برزقه، بس الحكومة هتاخده"... مئات من حملات تحديد النسل فشلت فشلاً ذريعاً منذ عصر "ماما سوزان" و"بابا مبارك"، لكن الأزمة الاقتصادية الطاحنة جعلت من الحمل نفسه، ناهيك عن تربية الطفل، عبئاً مادياً كبيراً
طبعاً ما دفع المصريين لذلك هو الخوف على مدخراتهم، لكن الاهتمام بأمور السياسة والاقتصاد كظاهرة جديدة على الشعب أمر هام، سينعكس بلا شك مستقبلاً على اختياراتهم وأيضاً درجة احترام الحكومة لهم في بياناتها، فعلى الأقل ستبذل حكوماتنا مزيداً من الجهد في صياغة الأكاذيب منذ اللحظة، بما أن الناس بدأت تفهم.
الفشل قد يحقق نجاحاً... لكنه يظل فشلاً
يقول مارك بليث في مزحته عن التقشّف: "في المُجمل، تطبيق التقشف كسياسة اقتصادية كان فعالاً في تحقيق السلام والرخاء وخفض الدين بشكل حاسم، مثلما كان القطيع الذهبي المغولي فعالاً في تطوير الفروسية كرياضة أوليمبية". هكذا أشعر أحياناً وأنا ألاحظ تلك التغيرات تحدث على كثير من السلوكيات السيئة في مصر، تغيرات بفعل الحاجة أو الخوف منها، تغيرات اضطرارية نتجت عن فشل واضح ومستمر في الملف الاقتصادي، ربما لا تستمر لكنها ملحوظة على أي حال.
وبالطبع لا ننسى أن الفشل وإن كانت له جوانب مضيئة، فمن ناحية أخرى قد أفرز جوانب مظلمة جديدة على مجتمعنا، كالعنصرية التي واجهت القادمين من السودان هرباً، بشكل لا مثيل له في السابق، تلك العنصرية أحد أسبابها هو الهلع من الأزمة الاقتصادية وتهديدات عدم القدرة على إيجاد شقق للسكن مثلاً.
إيماني الشخصي، أو قل أملي، أن الأزمة الاقتصادية ستنتهي لا مفر، وكل ما أتمناه ألا يفقد المجتمع المصري تلك الإضاءات الخافتة التي اكتسبها بسبب المعاناة وبعد معاناة أيضاً، فعلى الأقل حينها سنتجاوز جميعاً ذلك الزمن محققين انتصاراً واحداً، انتصارنا على أنفسنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...