"أتمنى الموت"، تقول أمّ خطاب، وهي لاجئة سورية تعيش في خيمة واهية على طول الحدود الشمالية الشرقية للبنان منذ سنوات. "نحن نعيش في قلق ورعب دائمَيْن. وأصبح الموت أرحم من العيش هنا".
تعكس كلماتها الواقع الصارخ الذي يواجهه عشرات الآلاف من اللاجئين في الهرمل والقاع وعرسال، حيث تنتشر في تلك البيئة القاحلة المخيمات المؤقتة المصنوعة من القماش المشمع والخِرق. وتوفر هذه الملاجئ الهشة القليل من الحماية ضد العناصر القاسية، وحماية شبه معدومة من الموجات المتزايدة للمشاعر المعادية للاجئين في لبنان. يحاصَر اللاجئون في مساحات غير مناسبة ذات أرضيات ترابية ومن دون أيّ وسائل للتدفئة، ويواجهون يومياً الخوف من نقاط التفتيش الأمنية والتوترات المحلية.
يقول وائل، وهو أب يبلغ من العمر 36 عاماً ويعاني من ارتفاع ضغط الدم والسكري، "دفع الخوف أسرتي المؤلفة من 10 أفراد إلى البقاء محاصرين في الخيمة طوال اليوم. ولا نغادر الخيمة قط بعد الساعة السادسة مساءً بسبب حظر التجول على السوريين. ولا يخرج الأطفال أبداً، ويواجهون التنمر من أطفال المنطقة".
يتلقى وائل الأدوية الحيوية لعلاج حالته المزمنة في عيادة أطباء بلا حدود في الهرمل منذ بضع سنوات، لكن الإجراءات الأخيرة جعلت الوصول إلى الرعاية المنقذة للحياة أمراً يتزايد صعوبة.
"بعد عدّة سنوات من النزوح، ظهرت أعراض نفسية أخرى على بعض اللاجئين السوريين. وتأثرت حياتهم اليومية وتغيرت ولم يعد أيّ شيء كما كان عليه سابقاً. إنّ الناس يشعرون بالتعب وعدم الأمان والاكتئاب والإحباط، إنّهم 'عالقون في المنتصف'، ممّا يؤثر على الأسرة بأكملها"
منذ نيسان/ أبريل 2024، كثّف لبنان المداهمات والإجراءات الأمنية لمعالجة قضية الأفراد غير المسجلين. ونتيجة لذلك، يواجه المرضى السوريون الذين يبحثون عن الرعاية الصحية في عيادات أطباء بلا حدود في محافظة بعلبك الهرمل عوائق متزايدة بسبب المخاوف والقيود المفروضة على حركتهم. وبالنسبة للكثير من اللاجئين في المحافظة، أصبح قرار طلب المساعدة الطبية الآن محفوفاً بالخوف. وأحد الأمثلة على ذلك هو وائل، الذي يضطر إلى عبور نقطة التفتيش للوصول إلى عيادة أطباء بلا حدود في الهرمل.
وفي هذا السياق، يقول وائل، "أشعر بالقلق دائماً عندما يكون لدي موعد في عيادة أطباء بلا حدود. فأنا أخشى نقاط التفتيش الأمنية. كان موعدي يوم 20 أيار/ مايو 2024، لكنني كنتُ خائفاً من الخروج بسبب حملة أمنية في المنطقة، لذلك قررتُ عدم الذهاب. يتسبب الخوف في ارتفاع نسبة السكر في الدم، وأخشى ألا يكون لدي الوسائل لخفضه". خلال هذه الحملات الأمنية، غالباً ما يُقبَض على المواطنين السوريين حاملي المستندات منتهية الصلاحية عند نقاط التفتيش ويُرحَّلون قسراً إلى سوريا، وعادةً من دون أن تتاح لهم فرصة الاتصال بأسرهم في لبنان.
لجأ مرضى آخرون يعانون من أمراض مزمنة إلى تقنين الأدوية أو التوقف عن تناولها نهائياً خوفاً من مغادرة خيمتهم للحصول عليها. وعلى بعد أميال قليلة في بلدة القاع المجاورة، نفد كلياً دواء عامر الذي يبلغ من العمر 36 عاماً ويعاني من ارتفاع ضغط الدم في نيسان/ أبريل.
ويقول عامر في هذا الصدد، "نفدت الأدوية، وليس لدي الوسائل أو الشجاعة للذهاب لإعادة تعبئتها. وأعاني من كوابيس أتعرض فيها للمطاردة من قبل السلطات. ولهذا لا أجرؤ على عبور نقطة التفتيش كي لا أبتعد عن أسرتي وأخاطر بفقدانها إلى الأبد".
على بعد خيمتَيْن من ملجأ عامر، تعيش أمّ عمر، التي خضعت لعملية ولادة منزلية قبل ثلاثين يومًا فقط. إنّ ذاكرة أمّ عمر عن الليلة التي انفجر فيها كيس الماء بشكل مفاجئ غير واضحة، لكنها تتذكر بوضوح كيف أنّ خوف المجتمع من عبور نقاط تفتيش الجيش جعلها حبيسة أرضية الخيمة الترابية وهي تكافح آلام المخاض دون تخدير.
تقول أمّ عمر وهي تقمط مولودها الجديد، "كنتُ أصرخ في جوف الليل، ولم يتمكن أحد من اصطحابي إلى العيادة. فاستدعوا لاجئًا يعيش هنا لأنّ والدته كانت تعمل قابلة. ولحسن الحظ تمكّنت من مساعدتي في ولادة طفلي مستعينةً بخبرتها. لكن ما زلت لا أستطيع مغادرة المخيم للحصول على شهادة ميلاد له".
عندما يسترجع اللاجئون ذكريات الماضي، غالباً ما يروون أحداث الرحلة المحفوفة بالمخاطر إلى لبنان بكلمات مماثلة، فيصفون فرارهم من الدمار حاملين الملابس التي تغطي أجسادهم فقط وعثورهم على الأمل في البقاء على قيد الحياة في تلال لبنان.
في البداية، رحب بهم المجتمع المضيف بحرارة، لكن الأوضاع تدهورت منذ ذلك الحين وسط الانهيار الاقتصادي في لبنان. وفي هذا السياق تقول مايا التي قضت معظم حياتها في لبنان مقارنة بسوريا، "في البداية، ساعدتنا البلدية عندما وصلنا إلى عرسال. وقدّموا لنا بعض الأغراض للجلوس عليها واستخدامها. ثمّ سجلوني في المدرسة، وبدأتُ بالذهاب إليها. رحب بنا المجتمع في البداية ولم يجعلنا نشعر بأننا غرباء".
بينما يرزح لبنان تحت وطأة عامه الخامس من الأزمة الاقتصادية الحادة، أصبح اللبنانيون في جميع أنحاء البلاد حالياً أقل تقبلاً للاجئين السوريين. وأجبرت الصعوبات الاقتصادية، التي تفاقمت بسبب الخوف من الحركة، اللاجئين على الاختيار الصعب بين سلامتهم وصحتهم. وحالياً، تأتي صحتهم النفسية في أسفل قائمة أولويات اللاجئين
ومع ذلك، بينما يرزح لبنان تحت وطأة عامه الخامس من الأزمة الاقتصادية الحادة، أصبح اللبنانيون في جميع أنحاء البلاد حالياً أقل تقبلاً للاجئين السوريين. وأجبرت الصعوبات الاقتصادية، التي تفاقمت بسبب الخوف من الحركة، اللاجئين على الاختيار الصعب بين سلامتهم وصحتهم. وحالياً، تأتي صحتهم النفسية في أسفل قائمة أولويات اللاجئين.
تقول أمّ خطاب التي تعاني من انهيارات عصبية منذ ترحيل ابنها أواخر عام 2023، "نعيش في قلق ورعب دائمَيْن. لا أستطيع حتى النوم بسبب هذه الحملات الأمنية وخوفي على أطفالي. وتتسارع دقات قلوب أطفالنا بسبب الخوف والقلق خلال هذه الحملات، ولا نسمع إلّا عبارة ها هم قادمون! أحاول مواساة أطفالي، ولكن في قرارة نفسي أشعر بالخوف أكثر منهم".
"بعد عدّة سنوات من النزوح، ظهرت أعراض نفسية أخرى على بعض اللاجئين السوريين. وتأثرت حياتهم اليومية وتغيرت ولم يعد أيّ شيء كما كان عليه سابقاً. إنّ الناس يشعرون بالتعب وعدم الأمان والاكتئاب والإحباط، إنّهم 'عالقون في المنتصف'، ممّا يؤثر على الأسرة بأكملها"، بحسب مديرة أنشطة الصحة النفسية في أطباء بلا حدود في بعلبك الهرمل، أماني المشاقبة.
وتقول أمّ خطاب واصفةً عن غير قصد أعراض نوبات إجهاد ما بعد الصدمة، "إنّ الجميع على حافة الهاوية. عندما نسمع أحداً يتحدث بصوت عالٍ أو ضجيجاً عالياً، نعتقد أنّ مداهمة أمنية قد بدأت ونشعر بالذعر". ويشارك اللاجئون في عرسال والهرمل شهادات مماثلة.
"كلّ ما أطلبه هو الأمان"، يعكس هذا النداء التوق العميق للاستقرار لدى العديد من اللاجئين الذين يعيشون في لبنان اليوم.
إنّ الخسائر الجسدية والنفسية التي يتحملها اللاجئون نتيجة هذا الوضع هائلة. وفي هذا السياق يقول لاجئ آخر، "أملنا الرئيسي هو العيش بأمان وعدم استدعائنا من قبل قوات الأمن. إنّ الخوف هو السبب الرئيسي لمعاناتنا هنا". هذا الخوف المنتشر ليس عائقاً أمام الرعاية الصحية فحسب، بل هو رفيق دائم في حياتهم اليومية.
تقول أمّ خطاب، "صدقاً لو كان منزلنا في سوريا آمن ما بقيت هنا دقيقة واحدة. ولكن ماذا سنفعل في سوريا؟ لم يبقَ لدينا شيء هناك. والآن نتمنى الموت لأنّه أصبح أرحم من العيش هنا".
وأدت الحرب السورية التي انطلقت شرارتها عام 2011 إلى دمار وعنف واسع النطاق، ونزوح ملايين الأشخاص إلى الدول المجاورة مثل لبنان وتركيا والأردن وغيرها. وأدى عدم الاستقرار الدائم إلى جعل سوريا مكاناً غير آمن بالنسبة للكثيرين، ممّا صعّب عليهم العودة إلى وطنهم. ويواجه اللاجئون السوريون الذين يبحثون عن الرعاية الصحية في شمال شرق لبنان عقبات متزايدة بسبب المخاوف والقيود المفروضة على حركتهم. ولا ينبغي أن يعيق الخوف أو الترهيب وصول المجتمعات المستضعفة إلى الرعاية الصحية. ولا ينبغي على المرضى أيضًا الاختيار بين سلامتهم وطلب المساعدة الطبية.
"كلّ ما أطلبه هو الأمان"، يعكس هذا النداء التوق العميق للاستقرار لدى العديد من اللاجئين الذين يعيشون في لبنان اليوم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmed -
منذ 3 ساعاتسلام
رزان عبدالله -
منذ 13 ساعةمبدع
أحمد لمحضر -
منذ يومينلم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ 4 أيامالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 5 أياموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامرائع