مررت بمارسيليا مرات عدة. كانت نقطة عبور إلى مدن أوروبية أخرى. لكنني لم أتجاوز مطارها، بل محطة قطاراتها على أقصى تقدير. لم تسكن "مارساي"، وجداني إلا ككلمات أغنية "يصدح بها منبّه موبايلي"، ورسخت في ذهني كرديف للصباحات الباكرة التي أقطع فيها كيلومترات طويلةً حتى أحضر دروساً، في حين يسأل فيها "الشاب خالد" حبيبته أن تنام وتطفئ النور.
"وهران مارساي"، التي أعادها "الشاب خالد"، مرات عدة -منها واحدة برفقة فريق الراب المارسيلي "أي أم" كانت من أنجحها- (وأقربها إلى قلبي)، ليست الوحيدة التي تغنّت بهذه المدينة في الموسيقى الشعبية الجزائرية عموماً، والراي تحديداً، إذ فعلتها "الشابة زهرة" التي عُرفت بأغنية "سكنت مارساي" (في طابع المدّاحات، فرق نسائية من الغرب الجزائري).
لطالما حملت "مارسيليا" أيضاً لقب الولاية التاسعة والأربعين بين الجزائريين، خصوصاً مطلع الألفية. طمأنني الأصدقاء الذين أخبرتهم بأنني مضطرة إلى قضاء أيام فيها. أكد البعض أنها "ألجي"، ولكن بألوان أزهى. آخرون أصرّوا على أنني لن أشعر بغربة "كل الجزائريين هناك". صديق واحد شدّد: "حوّلي الزيارة إلى نصّ". ليكن، قلت.
لطالما حملت "مارسيليا" لقب الولاية التاسعة والأربعين بين الجزائريين، خصوصاً مطلع الألفية
"أنا محظوظة"، خمّنت وأنا أتوجه نحو العيادة التي سأجري فيها فحوصات. أكدت لي صديقة طبيبة الأمر، إذ حظيت بمواعيد كشوف وفحوص طبية قريبة ومتقاربة. استخدمت خط ميترو ساعدني على قطع نصف الطريق نحو العيادة. بدا لي موحشاً. حتى ميترو العاصمة الجزائرية (التي لن أتوقف عن مقارنة مارسيليا بها)، أنظف وأفضل إضاءةً وأكثر أمناً. لا موسيقى ولا لوحات فنية، بل لا إعلانات على جنبات خطّيه اليتيمين.
بحثت عن مقعد شاغر، قدماي لم تحملاني لاشتداد ألم الظهر. لم تمرّ لحظات على قعودي حتى تقاسمت سقوط حمولة مع سيدة لطيفة جلست بجانبي. خمسينية من أصول فرنسية تقدّمت بين المقاعد حتى تلحق بباب العربة في الوقت المناسب.
مشكلة بسيطة عكّرت صفو الجوّ: سأقصد المستشفى مع شيء من رائحة الكحول، إذ تقاسم معطفانا أنا وجارتي ما تبقّى من قنينة بيرة السيدة التي وقعت علينا. لن تكون الأخيرة التي سأقابلها بهذا المنظر في أنفاق مارسيليا، ولا شوارعها بالمناسبة، إذ يتقاسم المارسيليون على ما يبدو عادة احتساء البيرة سيراً (مع أن مارسيليا موطن كحول الـ"الباستيس" عموماً، و"الريكار" تحديداً).
وصلت أخيراً إلى وجهتي. قدّمت معلوماتي للسيدة التي تعمل في الاستقبال، فحوّلتني إلى قسم الأشعة الذي لم يكن الوصول إليه سهلاً، كما تندر المعلومات التي تقود إليه. نظرياً، يتوجب التوجه إلى ماكينة، واختيار طبيعة المصلحة التي تطلبها، ثم استلام قصاصة ستحتاجها حين يحين دورك. لكنها خارج الخدمة، وعليّ أن أنتظر دوري بالطريقة التقليدية، وهي طريقة ستجعلني أخوض حوارات مع مرضى آخرين ومرافقيهم للتأكد من أدوارنا، ولن تخلو من بعض المناوشات بين الطاقم العامل والحاضرين من المرضى وبين المرضى ومرافقيهم، الذين لم يكونوا جميعهم بذلك الهدوء ولا ذلك الودّ.
حان دوري أخيراً، بعدما قدّمت معلوماتي ودفعت مبلغ الفحص كاملاً، فلا أنا مواطنة، ولا أمتلك ما يخوّلني الاستفادة من مزايا تخفيضية. اضطررت إلى خوض متاهة أخرى للّحاق بالقاعة المناسبة في غياب إشارات شارحة. استقبلتني ممرضة ذات أصول إفريقية. أعترف أنها لم تكن مسرورةً باستقبالي. طلبت مني دون مزيد من التفاصيل التخلّص من كل شيء داخل تلك القاعة المجهرية، لكنها لم تشرح المقصود بكل شيء.
في العادة، يُطلب من المرضى ارتداء لباس خاص حين الخضوع لمثل هذه الفحوص الدقيقة، على الأقل في الجزائر. لم أكد أنهي مونولوغي حتى عادت زاجرةً بسبب تأخري. "لكن يا سيدتي ماذا عليّ أن أفعل؟". "انزعي معطفك"، ردّت. "وحقيبتي؟"، قلت، "هل بإمكاني أخذها معي؟". بدا أني أتيت أمراً في غاية السوء. استشاطت غضباً، وارتفعت نبرتها درجات، وأخبرتني بأن باب القاعة رقمي ولا خوف على حقيبتي.
"أنا أخاف على جواز سفري"، تمتمت. واصلت طرح الأسئلة عن الكيفية التي وجب عليّ الاستلقاء بها، وهل عليّ التخلص من الأشياء المعدنية التي تعشش حول رقبتي، وذراعي وحتى بين خصلات شعري كالمعتاد بالنسبة لي على الضفة الأخرى. ازداد استياؤها. ختمنا اللقاء الودّي هذا بأن أكدت لي أني أغرب حالة قابلتها في حياتها. أما أنا فغادرت دون أن أحيّيها.
عدت إلى القاعة الرئيسية في انتظار النتائج، وقد ألمّ بي حزن شديد. أتألّم وحدي هنا، بعيداً عن أمي، تحت هذه السماء الغريبة. "حتى في الجزائر لم يسبق لي أن قابلت مثلها". لم أعرف إن نطقتها أو اكتفيت بتخمينها، لتستدير نحوي سيدة فرنسية ذات لكنة فرنسية جنوبية مميزة، وجدتها تتعاطف معي، وأنا أبوح لها بتفاصيل ما حدث.
استاءت كثيراً، وآزرتني على طريقتها: "هكذا هم المارسيليون، عليك أن تكوني أكثر شجاعةً وتردّي الصاع صاعَين. آخ لو وقعت بين يديّ"، قالت. صمتت. لم أجد كلاماً أجيب به. "إنها مارسيليا عزيزتي. العين بالعين والباقي مجرد كلام". أعترف أن كلماتها أشعرتني براحة لحظتها. لكن سرعان ما اشتعل رأسي قلقاً، في انتظار جزء أخير من النتائج.
أخدت السماء تمطر في الخارج. اضطررت إلى العودة إلى داخل العيادة في انتظار المواصلات. اغتنمت دقائق انتظار الحافلة التي أخلفت موعدها في مطالعة إيميلات، قبل أن أنتبه إلى عيون اختلطت فيها جرأة بإلحاح سيّدة خمسينية طمست كل ملامح أنوثتها في لباس رجّالي كامل.
غيّرت مكاني، فوجدتها تتعقبني. وصلت الحافلة أخيراً. صعدنا، واستقرت غير بعيد عنّي. لم يرُق لها أني ألم أستجب لنداء قلبها. سمعتها تردد كلاماً لم أفهم منه تحديداً ما إذا كانت تعايرني بأصولي التي تنكر المثلية الجنسية في عرفها، أم تتحدث عن شخص آخر. سرت حتى مقعد خلف الحافلة بالقرب من رجل وامرأته كنا قد تبادلنا تحايا في قاعة الاستقبال. كسرت قلبها على ما يبدو إذ نزلت في المحطة التالية. "أعترف لك يا سيدتي بكل الحقوق، إلا أن ميولي مغايرة. ثم إن التحرش مرفوض. ألم يسبق لك أن سمعت بالموافقة؟"، تمتمت.
في انتظار موعدي الطبي القادم، قررت أن أزور المدينة من دون قناعة. تذكرت كلام أستاذ درّسني منذ زمن: "من يُرِد أن يعرف أحوال مدينة فليختلط بأسواقها ومواصلاتها". حذّرتني سيدة فرنسية الأصول التقيتها عند وصولي المدينة: "الميناء القديم، و‘نواي’ احذريهما"، ثم سلّمتني قطعة حلوى. شكرتها وطمأنتها. أنا كبيرة كفاية حتى أحمي نفسي... وأنا رعناء بما يكفي حتى أرغب في كل ممنوع. أما الميناء القديم فكان بشحوب المدينة التي تنتشر الأوساخ فيها، وأما "نواي" فكانت مدينةً وسط المدينة. "سوق الكابيسين" هو قلب "نواي". سآخذ الميترو هذه المرة وأقصد الجنّة الممنوعة.
لم تسكن "مارساي"، وجداني إلا ككلمات أغنية "يصدح بها منبّه موبايلي"، ورسخت في ذهني كرديف للصباحات الباكرة التي أقطع فيها كيلومترات طويلةً حتى أحضر دروساً.
لم تفاجئني قذارة محطة الميترو، بقدر ما فاجأني شابان يتصايحان بلكنة جزائرية غير بعيد منّي: "أيا لبلاد، أيا الصاروخ". "لبلاد" في عرف المغاربة بلد الأصول: الجزائر، تونس والمغرب. أما "الصاروخ" فهو من الممنوعات التي تتناقلها ألسنة الشباب المدمنين همساً، وتصدح كل الحناجر بآثارها. توقعت أن يكون الأمر مزحةً سمجةً. عاد إلى ذهني خبر سمعته عبر قناة إذاعية محلية قبل يومين من زيارة رئيس البلاد إيمانويل ماكرون، لمكافحة انتشار تجارة المخدرات واستهلاكها، إذ تُعدّ المدينة معبراً رئيسياً لتجارة الممنوعات في أوروبا.
أعترف بأن "التوهان" رياضتي المفضلة. لكني تهت في شارع مقفر. سألت سيّدةً مسنّةً عن الطريق، لكنها أصرّت على إيصالي إلى أقرب محطة ميترو. هكذا تعرفت على "مارتين" وعائلتها، التي سأقابلها مرات، ونتبادل حكايات عن الطبخ والأسفار وتجيب عن أسئلتي حول مارسيليا بقصص عن حياة خلت، قضتها في قريتها في إقليم "الميز" على الحدود الألمانية، قبل اللحاق بأنسبائها في "البروتاني".
تعرفت إلى حفيدها أولاً؛ طفل مفعم بالحياة، في عمر الخمس سنوات جاءت لتعتني به أسبوعاً حتى يعود والداه من جولة موسيقية في بولونيا وألمانيا. تعرفت إلى الصغير "ماران" على مدخل مدرسته التي عُلِّق على أحد حيطانها إنذار للأولياء بانتشار القمل وسط الأطفال. لن يمنعني الأمر من معانقة الصغير، الذي سيسأل جدّته عن هويتي أولاً، ثم يحدّثني عن هواياته وانشغالاته: النوم ومشاهدة الرسوم المتحركة التي أفضّلها، قبل أن يدعواني إلى بيتهما للتعرف على آلات موسيقية نادرة، ومعاينة البستان الذي استحدثه ابنها ورفيقته في قلب الأحياء الشمالية. أعترف أن ذكر اسمها رنّ في أذني كمرادف لميدان حرب، أو منطقة منكوبة لكن "مارتين" طمأنتني.
نهار الأحياء الشمالية لم يكن بذلك السوء. صحيح أن المحال تسير بتوقيت رمضان، ويتجمع شيوخ وكهول عند نقاط معيّنة يلعبون "الدومينو" في انتظار الآذان، لكن عائلة "مارتين" تكاد تكون العائلة الوحيدة ذات الأصول الأوروبية التي تسكن ذلك الشارع. كما أن الصغير يحمل الاسم الفرنسي الوحيد بين زملائه في المدرسة. أمر أدهش معلّمته في الصف بحسب ما أخبرني والده، ودفع "فيليب" الأربعيني للتساؤل أيضاً حول مفاهيم كالهوية والجذور. لكن ذلك لم يمنعه من دحض فرضيات اليمين واليمين المتطرف تحديداً، التي ينتخب لصالحها بحسبه مواطنون لم يسبق لهم أن عتّبوا حدود قراهم.
حدثتني "مارتين" عن جذورها الإيطالية، وجذور زوجها البولونية، وعن الراحة التي تشعر بها في كل مرة تزور مارسيليا، وعن "برونو" رفيق حياتها هاوي "الأكورديون"، والمتقاعد من سلك التدريس مثلها، متأسفةً لأنها لم يسبق لها زيارة الجزائر، ولا مخالطة جزائريين، هي التي بدت شديدة الفضول للتعرف على مطابخ المغرب العربي تحديداً. خضنا حديثاً شيّقاً عن المخبوزات التقليدية، ودعتني إلى زيارتها في الشمال لتذوّق "كريب" أصلي بالزبدة في المرة القادمة التي أزور فيها البلد.
قبل زيارتي مارسيليا، كنت قد سألت "جول"، وهي صديقة قديمة، عن بضعة أمور لوجيستية. وطلبت مني إعلامها حال وصولي. ضبطنا موعداً عند قصر "لونشون" أحد أهم معالم المدينة، في انتظار موعدي الطبي. لكن مارسيليا "جول" تختلف عن مارسيليا باقي أصدقائي، هي الشمالية، التي لا تخفى عنها تفاصيل اللوحات الفنية والمعارض التشكيلية، وسليلة الأقدام السود، التي عاشت طويلاً في لندن، قبل أن تستقر في مارسيليا. توقعت أن تلحق بي إلى متحف الفنون الجميلة. وهو متحف مجاني آخر في هذه المدينة، يحوي درراً، يقابله متحف آخر للأحياء، في المكان الذي شيّد احتفاءً بقدوم الماء إلى المدينة قبل قرون طويلة. لكنها "تاهت" في المواصلات.
أقرّ بأن الخضروات عموماً لم تكن يوماً هوايتي، لكن رؤية روائع الفن الكلاسيكي التي خُطّت أسماء روّاده على جنبات القصر كانت أكثر ما أغواني. بين المتحفَين وقف كهل ذو أصول مغاربية يعزف ألحاناً غربيةً على ناي عصري. لا أحد بدا مهتماً بما يفعل. بعكس باريس، لا تبدو المتاحف أكثر ما يغوي ساكنة المدينة ولا زوّارها، ما جعل سعادتي تتضاعف، فالوقوف أمام لوحات ومنحوتات نادرة ما أشاء من الوقت من دون أن أزعج غيري، أمر مثير، لا يتجاوزه سوى غياب هواة سيلفي المتاحف.
مجموعة منحوتات ساخرة تعود إلى حقب فنية مختلفة تقبع هناك، أهمها ربما "رتابوال" "دوميي" تمثال صغير من البرونز يعود إلى نهاية القرن التاسع عشر. لم أحسم أمري سوى أمام أهم مجموعة لـ"أدولف مونتشللي" حظيت بمشاهدتها: إنها مدينة رائعة.
سألت "جول": "مارسيليا عكس باريس، مدينة متسخة"، "العيب على الميسترال" ردّت صديقتي. إنها "مدينة فقيرة جداً" أردفت، "والبطالة تخنق شبابها".
وصلتني رسالة من "جول" أخيراً. قررت أن أنتظرها غير بعيد من أقرب محطة للترامواي. اقترحت أن تأخذني لزيارة "القديسة الحامية"، عند أعلى نقطة في المدينة. لو قُدّر لي أن أعود إلى مارسيليا لن أذكر الطريق الذي سرناه أنا وصديقتي للّحاق بأقرب محطة فيها باص يأخذنا إلى وجهتنا، لكن خُيّل إليّ أنه قصير جداً.
أعلم أنها استقرت في المدينة من سنوات، لكنني كنت أجهل أن فرنسيين كثراً يفعلون مثلها. أسعار العقارات من الأرخص في فرنسا كلها، وذلك ما يجذب اليوم شباباً ليستقروا فيها ويطلقوا مشاريعهم لا سيما الثقافية والفنية منها، حال أخيها ورفيقته اللذين أسسا مشروعاً في السينوغرافيا، وكذا فعلت هي بعد أن قادتها صدفة إلى العمل في عالم الترجمة، جنوب فرنسا، بعد مسيرة طويلة في عالم المتاحف داخل فرنسا وخارجها، لتقرر فتح مشروع ثقافي خاص.
عبرنا ساحة "جوليان"، قلب "مارسيليا" الفنّي، بحيطانها التي تزيّنها "رسوم شوارع" والكثير من المعارض والورش الفنية لفنانين شباب من كل الأصول تنتشر على جنباتها. أخبرتني عن علاقتها بهذه المدينة التي لم تتوقع أن ترتبط بها إلى هذه الدرجة. بل إنها تقدّم اليوم حالةً فنيةً خاصةً ومميزةً في تاريخ الفن الفرنسي، تخرج من رتابة التقليدي الباريسي، الذي استُهلك وفق ما تقول. بل إن كثراً من الفنانين الذين انطلقوا من مارسيليا غدوا يفرضون بصمتهم على أهم المعارض الأوروبية وغيرها. "هل هي ثقافة مضادة؟"، سألت. "المؤكد أنها ثقافة بديلة"، ردّت.
بين مارسيليا وباريس عداوة متأصلة. قد تكون كرة القدم أكثر ما يعلق في الأذهان عن هذه العلاقة "الغريمية"، لكن زائر المدينة "الفوسية" -كما تُعرف- سيتأكد أن الكرة ليست سوى الجزء الظاهر من الحرب "الجليدية" بين المدينتين. سألت "جول": "مارسيليا عكس باريس، مدينة متسخة"، "العيب على الميسترال" ردّت صديقتي. إنها "مدينة فقيرة جداً" أردفت، "والبطالة تخنق شبابها، لا صناعة كبيرةً فيها، لكنها مدينة فنون. يسيطر اليمين المتطرف على بلديتها".
أمر غريب بالنسبة إلى مدينة لم يستحِ سكانها من التحاف الكوفيات في كل الأماكن العامة والمواصلات، تحت الشمس كما تحت المطر. عكس باريس التي يدير اليسار بلديتها، والتي ندر منظر الكوفيات والأعلام الفلسطينية فيها.
منع ساكنتها أيضاً -على لسان عمدتها- رفع شعار الألعاب الأولمبية على مدخل "الفيلودروم" ملعب "أولمبيك مارسيليا التاريخي، وعدّوا الأمر إهانةً، برغم وصول الشعلة الأولمبية عبرها. ثم إن المدينة شهدت أياماً قبل لقائي بصديقتي، كرنفالاً يُعرف بـ"كرنفال لابلان" (نسبة إلى ساحة لابلان حيث ينطلق). هو احتفال شعبي مئة في المئة، قررت الداخلية الفرنسية أن تحشد له الآلاف من رجال الشرطة لمنع التجاوزات في طبعته الرابعة والعشرين. لكن الاحتفال لم يحد عن تقاليده في كسر جميع القواعد الموضوعة حولها، وطبعاً لم تكن باريس لتفلت من تهكّم المحتفلين الذين طوّروا رياضات أولمبيةً خاصةً بالمناسبة.
ستعودين إلى مارسيليا؟ سألت. ربما، أجبتها. في ذهني احتدم صراع أقرب إلى كلاسيكو فرنسي. لم يسبق أن كتبت عن زيارتي إلى مكان. لكني فعلتها مع مارسيليا
وصل الباص الذي سيقلّنا أخيراً نحو الكنيسة التي تنتصب عند أعلى نقطة في المدينة. هو واحد من أكثر المواصلات ازدحاماً التي قُدّر لي أن أستخدمها في المدينة. أذهلني تعدّد الألسنة. وصلنا أخيراً إلى وجهتنا. بضعة سلالم كانت تفصلنا عن باب بيت الربّ وجحافل حجاج. تبدو "السيدة الحامية "من بعيد توأماً للسيدة الإفريقية التي تحمي "ألجي". خاب تخميني بمجرد ولوجي. كان عدد الزوار قياسياً يومها. أكثر ما شدني فيها الساحة المحيطة بها، والتي تمنح لزائر الكنيسة نظرةً بانوراميةً غلى المدينة.
لمحت أخيراً على يساري "المدينة الزاهية" التي تخيّلها "لوكوربوزييه" المعماري السويسري الأصل، والمسجلة في اليونيسكو كتراث إنساني، لا يحقق الإجماع. جنوباً انتشرت عمارات شاهقة، لا مميز فيها. سكنات اجتماعية على الأرجح، أما على يميني فأبصرت قوافل المؤمنين المتسلحين بكاميرات موبايلاتهم، يصعدون السلالم في تؤدة.
أمامي لاح منظر البحر، كبيراً (على رأي السيدة فيروز)، يعجّ بالبواخر، بعضها للاستعراض، وأخرى للتجارة. لم أبصر سفن مسافرين كتلك التي تفرض حجمها على ميناء مدينتي صيفاً، تبشر بهجرة عكسية بعمر فراشة، والتي تنطلق عادةً من مارسيليا. لكن على عكس أغنية فيروز كانت الشمس قريبةً، تشبه شمس "ألجي" وكل الساحل الجزائري. هي الشمس التي دفعت على الأرجح الأقدام السود للاستقرار في مارسيليا، وكذا جحافل المهاجرين الجزائريين الذي لحقوا (عبر عقود من الزمن).
لا قداس، ولا أجراس. قررت أن أوقد شمعةً حمّلتها أمنيةً، وطفقت عائدةً برفقة صديقتي، نواصل نسرد حكايات حيناً، ونتدارس قضايا أحياناً. ستعودين إلى مارسيليا؟ سألت. ربما، أجبتها. في ذهني احتدم صراع أقرب إلى كلاسيكو فرنسي. لم يسبق أن كتبت عن زيارتي إلى مكان. لكني فعلتها مع مارسيليا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.