شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
في حب سارية السواس وحبّ الفرح السوري المقهور!

في حب سارية السواس وحبّ الفرح السوري المقهور!

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والتنوّع

السبت 20 يوليو 202403:04 م

قبل أسبوع، دعاني صديق لحضور عرس أخيه الدكتور المهندس، والشخصية المعروفة على مستوى اللاذقية بكونه مثقفاً وناقداً أدبياً وأستاذاً جامعياً شديد الوطأة على طلابه. جمع العرس أشتاتاً مختلفةً من المدعوين والمدعوات؛ أساتذة جامعيين وأطباء وطبيبات و"بتوع الهندسة" وعمالاً وفلاحين ومزارعين ومن مختلف المشارب والمنابت الطبقية والمهنية (على الطريقة البعثية). في خضمّ العرس، كادت تقع معركة بالقرب من مشغّل الموسيقى (الدي جي)، بين العريسين وأنصارهما.

ألحّ العريس وأصرّ، ومعه مناصروه، على أن تكون رقصة العروسين على أنغام أغنية ماجدة الرومي الشهيرة "طلّي بالأبيض"، فيما أصرّت العروس ومعها عائلتها ولفيف كبير من الحاضرين على أغنية العزيزة سارية السواس، "بس اسمع مني". ولأن الديمقراطية هنا باتت الحل الوحيد لهذا الخلاف الجذري قبل أن تتطور الأمور إلى معارك، فقد استعان الطرفان بالحضور عبر بالتصويت لتفوز العزيزة سارية، تعاونها في ذلك نقابة الأساتذة الجامعيين الحاضرين وبقية النقابات الحاضرة، ومعها النقابة الأهم: العروس!

ما حدث لاحقاً بين العريسين من مناوشات أو معارك بسبب هذا الخلاف الجوهري سيبقى مجهولاً لنا. المهم أنّ سارية أثبتت أنها قادرة على التفوق ببساطتها على نخبوية –وسماجة- ماجدة الرومي، حتى مع شرائح متعلّمة ذات وزن فكري واجتماعي. والمسألة هنا لا تقف فقط عند كون الحدث "عرساً"، بل إنّ هناك عوامل "إستراتيجيةً" أخرى حضرت في هذه المناظرة لصالح العزيزة سارية.

سارية... نجمة سوريا الأولى

يصف كثيرون سارية السواس، بأنها نجمة سوريا الأولى. وهذه حقيقة قد يجدها البعض مرّةً، وينكرونها، وهذا حقّهم/ نّ. ولكن هذه السيدة المغامِرة، استطاعت بجهدها الخاص وتعبها تحقيق ما عجزت عنه فنانات وشركات الإنتاج السورية الكبرى المدعومة من جهات حكومية أو خاصة. لقد وصلت سارية التي لم تأخذ رضا جماعات استديوهات الفن، لا في سوريا ولا في لبنان، إلى الغناء للجاليات العربية في الولايات المتحدة وأستراليا وموسوعة ويكيبيديا! وإذا ذكرنا مطربات سوريات على المستوى العربي، تحضر أصالة التي لا شكّ لها جمهورها، ولكن غناءها لا يحمل من "السوريّة" و"الشامية" أي شيء. إنها أقرب ما تكون إلى نسخة مجمّعة في الصين، منبتها سوريّ.

سارية السواس هي أوّل من قدّم خلال تسعينيات القرن الماضي، اللون المسمّى "اللون الشعبي الشامي"، النابع من الغناء باللهجة البدوية المتشابهة بين المشرق والخليج العربي، في إطار جديد اعتمد حضور المرأة في الأغنية والواقع بقوّة، وتحدّي الرجل وسلطته بكل عنفوان. ولعقود، حافظت على نمطها، ولم "تندلق" لتغنّي باللهجة المصرية أو الخليجية

سارية السواس هي أوّل من قدّم خلال تسعينيات القرن الماضي، اللون المسمّى "اللون الشعبي الشامي"، النابع من الغناء باللهجة البدوية المتشابهة بين المشرق والخليج العربي، في إطار جديد اعتمد على حضور المرأة في الأغنية والواقع بقوّة، وتحدّي الرجل وسلطته بكل عنفوان. وعلى مدار عقود، حافظت على نمطها، ولم "تندلق" لتغنّي باللهجة المصرية أو الخليجية برغم العروض التي حصلت عليها.

منذ انطلاقتها قبل ربع قرن، وهي نجمة، أعجب ذلك البعض منّا أم لم يعجبهم. لا نتحدث هنا عن ظاهرة استثنائية بقدر ما نسأل عن تفسير لهذه الظاهرة التي استطاعت كسر الحواجز النمطية والقيمية بين السوريين بكلام بسيط جداً، وأقرب إلى الثرثرة، إلى درجة أنّ معجبيها يتوزعون بالملايين على الصفحات الافتراضية، وفي الواقع على مساحات سوريا كلها وصولاً إلى خارجها، ولن يكون سهلاً على المرء أن يحصل على بطاقة لحفلاتها الجماهيرية. ومرةً ثانيةً، أعجبنا ذلك أم لم لا، فإنها الحقيقة، خاصةً إذا ضيّقنا السؤال إلى النوع الغنائي الذي تؤديه، أي الغناء الشعبي (ما يسمّى الغناء النّوري)، وهذا النوع الأخير هو الأكثر انتشاراً من أي نوع آخر من أنواع الغناء المعروفة في العالم العربي، والأمثلة كثيرة.

في غالبية أمكنة الفضاء العام في المحافظات السورية، من الكراجات العمومية إلى النوادي فالمطاعم والمقاهي والكافيهات ووسائل النقل العام، يحضر بقوة صوت سارية السواس، من أوّل أغنية لها "يا شيخ"، حتى آخر أغنياتها "هرمون الغيرة". وتحضر معها أيضاً جوقة مطربات حديثات النشأة كسحن الساحة الفنية بكل قوة، وأحلْن تجارب أقوى وأكثر دعماً إلى مرتبة متأخرة عنهنّ (نجوى كرم مثالاً). وإذا قفزنا إلى الواقع الافتراضي، سنجد التفوق صريحاً وواضحاً ومعلناً. لقد ساعدت التكنولوجيا هؤلاء المغنيات على تجاوز الحدود المحلية والانطلاق في الفضاء الافتراضي بسهولة وذكاء، مستخدمات في سبيل ذلك منصات التواصل الاجتماعي الكثيرة، وحقّقن أرقام مشاهدات بالملايين على يوتيوب، وباتت عبارات من أغانيهنّ متداولةً بين الناس بشكل كثيف، مثل عبارة سارة الزكريا، "يا بيبي"، ومثلها عبارة لريم السواس "أنا زبونة دويمة بسوق المالو داعي".

حصدت أغنية اللبنانية ريم السواس، "حبّيت واحد واطي"، حتى الآن على يوتيوب، أكثر من 51 مليون مشاهدة، وأغنيتها الأخيرة "ولادك بديعة"، أكثر من 35 مليون مشاهدة على المنصة نفسها، وجمعت –بالإجمال- عبر قناتها على يوتيوب، أكثر من 214 مليوناً و816 ألف مشاهدة، وتحظى بأكثر من 3 ملايين و100 ألف متابع على تيك توك، وأكثر من 19 مليون "إعجاب" على المحتوى الذي تنشره. فيما حققت أغنية "تجي نتجوز بالسرّ" لسارة الزكريا (لبنانية لأمّ سورية)، وهي أغنية تافهة بكل المعاني، أداءً وكلمات وصوتاً، قرابة 100 مليون مشاهدة، وحققت قناتها على يوتيوب أكثر من 124 مليون مشاهدة، وهناك أمثلة أخرى مثل السوريتين سارة جنيد (30 مليون على تيك توك)، وعلا الجامع (نصف مليون على فيسبوك)، وغيرهنّ.

هؤلاء الصبايا استطعن خلال سنوات قليلة إيجاد واختراع تيار في الغناء العربي له جمهوره المتّسع، وربما يكون السبب الأول لانتشارهنّ، قدرتهنّ على انتزاع القدرة على التعبير بحرية وبلغة الناس العاديين في الحواري والشوارع من دون رقابة أخلاقية مفترضة يقوم بها الإعلام والسلطة والمجتمع نفسه وراءهنّ. والكلمات الموصوفة البذيئة في بعض أغانيهنّ، ليست كذلك في الحياة اليومية، ولا في عقول الناس، بل هي من لزوم الحكي وأقلّها بذاءةً كلمة "واطي"، فيما تحضر الشتائم بين الجمل الأخرى في العوالم اليومية للناس، النساء قبل الرجال، ومنها جملة العزيزة سارية الشهيرة: "وين البارح سهرانة يا بنت الكلب".

من يحدد إذا كانت الأغنية هابطةً أم لا؟

قبل عقود من اليوم، قال الفنان زياد الرحباني، في حديث تلفزيوني مع الراحلة جيزيل خوري، إنّ ما نسمّيه اليوم –أي في تسعينيات القرن الماضي- أغاني هابطةً، سوف يتحول في المستقبل إلى أغانٍ مقبولة من الناس، وليست هابطةً بالوصف أو التلقّي. وفعلياً كان ما تقدّمه وقتها مغنية مثل نانسي عجرم وروبي، يُصنَّف من قبل كثيرين فنّاً هابطاً، وأصبح ما تقدمانه الآن أغاني بوب شعبيةً. رؤية زياد الاستشرافية تتكرر اليوم مع نمط جديد من الأغاني.

يصف نقّاد الموسيقى والفن، الأغاني الشعبية التي تؤديها الفنانات سابقات الذكر، بالهابطة، مستندين في حكمهم القيمي على نوعية الكلمات (وهي بسيطة تُستخدم في الحياة اليومية وتتجاوز خطوطاً لطالما عُدّت خطيرةً في الغناء العربي المثالي والمتعالي، وهي غالباً مثل الكلمات ذات الإيحاءات الجنسية)، واللحن (تقريباً لحن واحد يستخدم الزمر والطبل والأورغ)، بالإضافة إلى عدّ أصوات الفنانات نشازاً لا يستقيم حتى على نغمات السلّم الموسيقي. كما أنّ حضورهنّ الفني ليس من قبيل الوقوف أمام جمهور كلثومي يعتمد على الغناء فحسب، بل على أجواء العرض والتفاعل مع الجمهور والرقص والتشارك والنكتة و"المسبّات"، لذلك تحظى تسجيلات حفلاتهنّ بالفيديو بملايين المشاهدات. وفي هذه الحجج كثير من الصحة الفنية، إلا أنّ المسألة لا تقف عند هذه النقائض بالتأكيد.

من الصعب تحديد قالب واحد لتلقّي الأغنية أو القصيدة أو أي منتج إبداعي آخر. يتعلق الأمر باتّساع شرائح الناس وأفكارهم وهواهم وذائقتهم الفنية، ففي حين يأنف بعض "المثقفين"، من سماع أغانٍ شعبية لعادل خضّور، المغنّي الشعبي السوري وملك العتابا، ويفضّلون الشيخ إمام مثلاً (لليساريين حصرياً)، يرغب آخرون من الشريحة نفسها في سماعها في طقوس الفرح والحياة، في حين يفضّل متدينون التواشيح والابتهالات. والجميع في النهاية يفضّل لوناً غنائياً ما، فالغناء ليس مجرد ترجيع صدى داخلي بقدر ما هو طريقة من طرائق البحث عن معنى في حياة البشر. يقول جوني كاش: "أستطيع أن ألفّ جسمي بشرنقةِ أغنيةٍ وأمضي إلى أي مكان؛ أنا عصيّ على الهزيمة".

يرى البعض أن الانتشار الواسع لتلك الأغاني ليس مؤشراً دائماً على الجودة، وهذا صحيح. لكنه في الوقت نفسه مؤشر على فراغ تمّت تعبئته ونجح في إثبات قدرته على الحياة رغماً عن النقد، ورغماً عن كبريات شركات الإنتاج والقيود والموانع الكثيرة في مجتمعاتنا. لقد أثبتت تلك الأغاني انتشارها وحضورها الواسع بين الناس متحوّلةً إلى شكل من أشكال الذاكرة الغنائية الجمعية وحاضرةً في مختلف أنواع الحفلات العامة والخاصة، وفي المجتمعات المفتوحة على الاختلاط والمغلقة. ما تفعله الفنانات السابقات ببساطة، كسر الحدود الجدية السلبية مع الناس. يتحدّثن مع الجمهور بعفوية قريبة من القلب دون أي حدود، ويسمحن للجمهور نفسه بأن يكون شريكاً في الغناء والتقاط صور "السيلفي" ومقاطع الفيديو ثم الشتيمة المشتركة للواقع ولو على استحياء. في الغالب، معظم الأغاني المسموعة في العالم العربي (وربما في العالم كله)، في هذا الزمن، هي تسجيلات وليست عروضاً، وهناك بعض المغنّين/ ات يتّبعون/ ن أسلوب استخدام التسجيلات في الحفلات الجماهيرية (إليسا نموذجاً). وهذا يعني أن تجربة المشاركة واللقاء الجسمانيين أقل حدّةً، ولكنها في حالة الفنانات السابقات حاضرة بقوة في قلب عملية التبادل والتواصل الجارية مع الجمهور.

يمكن هنا الإشارة إلى أنّ توصيفات النقاد من جماعة "نقابات الموسيقيين" الخاضعة لمدوّنات أخلاقيات الأنظمة السياسية التي تقرر ما هو الهابط وما هو الصاعد (الملتزم)، وما هو المقبول والممنوع، هي توصيفات في بعض أوصافها سلطوية ولا قيمة لها وتدّعي حماية الذوق العام (من ماذا؟)، فهل الواقع العربي أقلّ بذاءةً مما في تلك الأغاني؟ يضحك الناس على تقييمات النقابات ويذهبون ببساطة باتجاه رفض تشكيل قوالب سمعية أو بصرية ذات مواصفات معيّنة "تليق" بصورة البلد أو تاريخه الموسيقي المذهل غالباً. إنها الحياة بلا تعقيدات أو فلترة.

في غالبية أمكنة الفضاء العام في المحافظات السورية، من الكراجات العمومية إلى النوادي فالمطاعم والمقاهي والكافيهات ووسائل النقل العام، يحضر بقوة صوت سارية السواس، من أوّل أغنية لها "يا شيخ"، حتى آخر أغنياتها "هرمون الغيرة". لماذا ارتبط صوت سارية السواس بالفرح السوري أكثر من أصالة وميادة الحناوي وغيرهما؟

تعمل النقابات، بسلطتها المستمدة من الأنظمة وأجهزتها، على اختراع قاموس خاص طهراني الطابع ومزيّف، وتحاول بقدر أو بآخر كبس الجمهور ضمن هذا القاموس. وليس قاموس "اللغة الجديدة" الوارد في رواية "1984"، لجورج أورويل، بعيداً عن هذا الكلام، فهناك كلام يجوز وآخر لا يجب أن يتخطى عتبات معيّنةً، لا لشيء سوى لإثبات قدرة السلطة على التغوّل على الجميع حتى على اللغة.

مع انتشار أغنية ريم السواس "حبيت واحد واطي"، الكثيف في العالم العربي، وليس في سوريا فحسب، تبرعت نقابة الفنانين السوريين ممثلةً بالمطاوِع والآمر بالمعروف الغنائي والناهي عن المنكر اللفظي الفنان الفاشل محسن غازي، نقيب فناني سوريا المنتخب ديمقراطياً، بمنع ريم من الغناء في حفل في مدينة حلب بسبب "الألفاظ النابية"، فضلاً عن ملابسها المثيرة كما قيل، وبعدما تدخلت "جهات ما"، وفُكّ هذا المنع وغنّت ريم في دمشق وحلب، والنهفة التي فعلتها هذه المغنية هي غناؤها الأغنية نفسها على أحد مسارح دمشق بعدما غيّرت في كلماتها: "أخدوني ع الرازي جلطني محسن غازي".

مقاومة القوالب ومخاتلة الفرح

وفي حين يرى البعض أنّ السلطات العربية، لا السورية فحسب، نجحت في ترويض الجماهير على القيم التافهة غنائياً، وقد يكون هذا صحيحاً في زمن التفاهة العالمي الذي افتتحته منصات التواصل الاجتماعي وأشياعها، يمكن في أحد التفسيرات المضادة وصف تدفّق الناس لحضور حفلات هذه الأصوات النسائية، على أنه نوع من المعارضة لكل القيم التي تفرضها السلطة على المجتمع، بما في ذلك القيم الإيجابية والأخلاقية الصفراء المفلترة. ففي سوريا والمشرق العربي، لم يبقَ من الاحتفالات والأفراح خارج الثوب الديني أو السياسي، الشيء الكثير. ولم يبقَ سوى ما تقرره السلطة، من مهرجانات عمومية تحضر فيها أنواع منتقاة من الفنانين، هم في الغالب من طراز مرضيّ عنه لهذا السبب أو ذاك. واحد من أهم اختراقات هذا النسق، الفنان جورج وسّوف الذي تحوّل برغم سوء صوته إلى أيقونة قريبة ومحبوبة من الناس.

كانت الاحتفالات في الساحات العامة في مختلف أنواع المناسبات (الأعراس أكثرها)، مساحةً مفتوحةً للفرح والحياة ولرمي الهموم تحت قدمي الدبكة والدبّيك والشوباش والصبابا والشباب المتوزعين بكامل عدّة الفرح، (أعياد "الرابع" في الساحل السوري نموذجاً حتى ثمانينيات القرن الماضي). ولكن في سوريا وغيرها، صادرت السلطات الساحات العامة لصالح الخطابات والمهرجانات المصنوعة لتمجيد الحاكم وإنجازاته، وخلت تلك الساحات من الحقيقة. كذلك خلت التلفزة والصحافة من الكوميديا الحقيقية النابعة من القلب، أو من الفقع، أو من الحياة الحقيقية (بُثّ مسلسل "ضيعة ضايعة" خارج سوريا للمرة الأولى بعد إنتاجه، وتوقفت جريدة "الدومري" الساخرة سريعاً)، وتجربة ياسر العظمة ودريد لحام هي تأكيد للكلام السابق وليست نقيضاً له (ومعها تجربة "بقعة ضوء" وغيرها)، لأنها تنتمي إلى عالم هندسة الجمهور، وتفريغ غضبه بهذه الطريقة بحكم عدم التماسّ بين المشاهدين في أحد التفسيرات. والخلاصة هنا أن السوريين شعروا فعلاً بما أبدعه الماغوط حين كتب "الفرح ليس مهنتي".

في سوريا، وعلى مدار عقود، تلقّى الناس بالإجبار التلفزيوني والإذاعي أغاني تشعر بأنها معلّبة وخارجة من معمل بلاستيك فاشل الخلطة (برنامج "ما يطلبه الجمهور" مثالاً)، من أغاني مياده الحناوي، النسخة الباهتة من وردة الجزائرية، إلى مروان حسام الدين وعصمت رشيد (بلاهة بعض الذكور حين يغنّون عن الحب)، وسهام إبراهيم التي تشعر بأنها خارجة من اجتماع... إلى الغناء في التلفزيون، من دون أن يلغي ذلك ظهور بعض الأصوات المنفردة خارج هذه التلفزة (ميادة بسيليس نموذجاً)، ومع انتشار "السيديهات" ثم البث الفضائي والإنترنت وتوابعه، منتصف فترة التسعينيات، انقرض هؤلاء بسهولة، وحضر الغناء الشعبي من عيسى نعوس، إلى العزيزة سارية السواس، إلى القيصر عمر سليمان، إلى علي الديك، ووفيق حبيب، وآخرين، وبسهولة احتلّوا قلوب الناس. والملاحظ أنهم جميعاً من بيئات ريفية من الداخل إلى الساحل السوري. لقد كان السرّ في هذا التحول الخطير بسيطاً جداً، ولكنه حاسم وحقيقي وأصيل أيضاً.

يرى البعض أنّ السلطات العربية، لا السورية فحسب، نجحت في ترويض الجماهير على القيم التافهة غنائياً، وقد يكون هذا صحيحاً في زمن التفاهة العالمي، يمكن في أحد التفسيرات المضادة وصف تدفّق الناس لحضور حفلات هذه الأصوات النسائية، على أنه نوع من المعارضة لكل القيم التي تفرضها السلطة على المجتمع

البحث عن غائب... الفرح السوريّ

لا يراد من الكلام السابق مصادرة عمومية، أو فرض تقييم شمولي على منتج يمتد لعقود طويلة، وله ما له وله ما عليه، ولكنّ الإحساس الناقص في هذه السيرة هو فعلياً، في تصوّرنا، تغييب قيم الفرح والحياة والمزح والسخرية لصالح القيم الجدّية السلبية والصورة العابسة للسلطة التي تفكّر دائماً، في صورة أبوية، عن الناس، وتدعوهم للتجهّم والتركيز على الأهداف الأسمى (أعدّدها لكم؟)، وتزداد هذه السلبية مع زيادة سوء الواقع الاجتماعي والاقتصادي. وينطبق هذا الكلام على سكان المدن كما الأرياف. في وقت سابق، قال الفنان علي الديك، إن شعبيته في دمشق وبيروت أعلى من شعبيته في ريف جبلة واللاذقية (مسقط رأسه). وفي مصر، فإنّ حسن شاكوش، أقوى وأقرب من "الواد الهايف بتاعنا"، عمرو دياب، حسب تعبير الرئيس الراحل حسني مبارك.

هناك صورة عامة لا أعرف إذا كانت منتشرةً عربياً، هي أنّ السوري "قلبه أسود من الحزن والنكد"، وأظنّها تنتشر في الخليج العربي كثيراً، وبجوارها هناك تعابير مضادة غرائبية عندنا نحن السوريين، منها تعبير يقول إنّ السوريين "يموتون بأجواء الفرح". هل لاحظتم أن التعبير كان "يموتون بأجواء الفرح"؟ نعم. هو تعبير حقيقي يربط الموت بكل شيء حتى بفعل الفرح، وهناك عبارة نمطية أخرى قد تفسّر أيضاً واقع الحال هذا تقول: "الله يجيرنا من هي الضحكة"، لا تعمم بالضرورة هذه العبارات ولا استعمالها، ولكنها مؤشر على علاقة ملتبسة مع الفرح بكل معانيه أو مع أنفسنا وعلاقتنا مع الحياة.

فرحنا السوري عشوائي يكاد يقتلنا إذا أصابنا منه مسّ ذات وقت، والفرح عزيز ونادر في حياتنا السورية، ولذلك تروننا نتمسك به تمسك الضالّ في الصحراء بسراب يظنه ينجيه من الهلاك.

فرحنا السوري عشوائي يكاد يقتلنا إذا أصابنا منه مسّ ذات وقت، والفرح عزيز ونادر في حياتنا السورية، ولذلك تروننا نتمسك به تمسك الضالّ في الصحراء بسراب يظنه ينجيه من الهلاك. فرحنا يمكن أن يكون سببه أمراً تافهاً مثل نتائج الإعدادية في سوريا التي لا تقدّم ولا تؤخر في حياة الطلاب والأهل، أو في فوز رياضي يجري بين منتخبين ليس في أي منهما لاعب سوري (لاحظوا المتابعة الكثيفة لبطولات أوروبا الكروية). أيُّ سبب قد يكون سبباً في أن نصرخ ونقفز مثل "المجاذيب" نحو السماوات العلى تقديراً منا للفرح: في ليلة رأس السنة حين تكمل الأرض دورةً مضافةً إلى دوراتها اللانهائية، نجد سبباً لنفرح، فنطلق النار على السماء أكثر مما أطلقنا على الأعداء منذ غزوة أُحُد.

إطلاق النار وحده حكاية لا ترتبط فقط بالفرح، وهو الأكثر انتشاراً، بل بوقائع الحزن كذلك. ولكنه بالأساس بدأ مع الفرح ثم تعدّاه إلى المناسبات الأخرى، والمسألة هنا قد تحتاج إلى دراسات تفسّر هذا الفعل المنتشر في بلدان العالم العربي (إطلاق النار العشوائي). هل هو تعبير عن شهوة السلطة، أم تحدّيها في الوقت المستقطع؟ أم أنه لا هذا ولا ذاك، وهو مجرد لحظة يكون التعبير فيها خائناً بغير ضجيج البنادق؟ ربما يحتاج البطل دائماً إلى الأقدار والمآسي كي يثبت ذاته، تترافق المخاطر والبطولة كالمرض والحمى بتعبير "روبرت موزيل" (ترجمة رشيد أوحتي).

عن المتع الدنيوية شرقاً وغرباً

هل يحمل السوريون والمشرقيون عموماً في جيناتهم، جينةً خاصةً تتكثّف في رغبتهم في العيش محاطين بمختلف أنواع المتع الدنيوية من طعام وشراب وجنس ورقص وغيرها، من دون تجاهل الجينة المتممة، أي الجينة الإيمانية؟ وبهذا الفعل يجدون نوعاً من المعنى صادرته إلى حد كبير سياسات العمل واﻹنتاج الرأسمالية في الغرب، ولم تنجح الأنظمة العربية المشغولة بمسطرة الأخلاق لشعوبها في مصادرته؟ يعشق السوريون الفرح، ومتى ما التقوا من غير سؤال عن هوياتهم المناطقية والطائفية، يبدؤون بالدبكة والرقص والغناء في أي مكان حدث هذا اللقاء، وتحضر العزيزة سارية، كما يحضر الكبير صباح فخري، وبالتأكيد سينفر الجميع من "خلفة" صباح فخري الغليظة.

يقول شاب سوري يعيش في ألمانيا: "تصوّروا الساعة الثامنة وخمسة بكون خلص الفطور... 12 وربع الغدا خالص... لك المطاعم بتسكر وتبطل تقدم الغدا... العشا 8.25 خالصين... 8 ونص يكونوا نايمين وعم يشخروا". ويذكر مطاعم حلب "التي تبدأ بتقديم الفطور عند الثامنة صباحاً حتى الثانية عشرة ظهراً"، ويضيف: "كنا بحلب نلتقي شلّة شباب على السهرة. الساعة 12 بالليل نتجمع، ويكون السؤال: ننزل نشتري عشا ولا بكّير؟ وغالباً يكون ‘بكير’!".

نترك الجواب على ما سبق لوجبة قادمة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image