لم يكن قرار حضور حفلة أصالة في ألمانيا سهلاً البتة، وهذا لا يعود فقط للمسافة التي يجب علي قطعها من مدينتي إلى مكان الحفل، لكن لشعوري الدفين بالخيانة. خيانة غزّة عند كل قرار مسبق لفرح.
لم أشتر البطاقة، وصلتني مع ساعي بريد كهدية من صديق يعرف مسبقاً مدى حبي وإعجابي بصولا...
بكل الأحوال سايرت نفسي ووجدت مبررات يبحث عنها أي بائس ليستمر في الحياة، بكل الأحوال هي صولا، قلت لنفسي، صاحبة الموقف الإنساني.
ركبت القطار المتجه لمدينة أوبهاوزن الألمانية، خبأت في حقيبتي فستاني الأسود وحذائي بكعبه العالي، أحمر شفاهي واتجهت للفندق بخطى مترددة خجولة.
طاقة غريبة تحيط محطة أوبرهاوزن الألمانية، استقبلتها منذ أن نزلت من القطار، شيء يشبه عرس بنت الخالة!
"أصــالة بارتي إز هير" هكذا كان يردد حراس الأمن في المحطة، وقلت حينها أصالة شغّلت مدينة ألمانية!
"أصــالة بارتي إز هير" هكذا كان يردد حراس الأمن في المحطة، وقلت حينها أصالة شغّلت مدينة ألمانية!
الجميع يتجه نحو وجهة واحدة، الجميع يتحدث بصوت عربي مفهوم واضح، جميع الصبايا جميلات، بفساتين العيد (كما سمتهم أصالة وهي على المسرح)، قالت: "كلكن لابسين فساتين العيد، وأنا كمان لابسة فستان العيد". وضحكت كما تضحك دائماً.
كانت الحالة في الشارع الذي يفصل المحطة عن مكان الحفلة مثيرة للاهتمام، شيء غريب، وكأنك جمعت ألف شخص متعطش للفرح في مكان واحد.
اعتقدت في البداية أنني متهيئة، كوني سعيدة جداً فظننت أنها طاقتي، حتى قُرع باب غرفتي في الفندق، فقلت دون وعي: "مين؟". فردت من خلف الباب امرأة وقالت: "أنا".
فتحت الباب فوجدت صبية لا أعرفها، تربط شعرها بلفافات، وترتدي بنطالاً قطنياً حافية، سألتني: "كيفك؟ عندك مثبت مكياج، نسيته بالبيت!".
فضحكت أنا بصوت عالٍ وهززت رأسي بالنفي، فتذكرت أن جواربي التي تتناسب مع فستاني ثقبت فأردفت على سؤالها بسؤال: "عندك كولون زايد؟"
فأعطتني... لا أعرفها لا تعرفني.
لكننا ذاهبتان لحفلة أصالة.
كان ممر الفندق شكله كالتالي، ممر طويل فيه غرف الباب مقابل الباب، كل الأبواب مفتوحة، تمر فترى الصبايا واقفات على المرايا، يتبادلن الأشياء والابتسامات.
الشباب أيضاً على المرايا.
شيء يشبه بيت جدي بغرفه الكثيرة عند زفاف إحدانا.
نقفز نحن بنات الخالة من غرفة لغرفة، نتبادل ألوان أقلام الكحل وأحمر الشفاه، نرش لبعضنا عطراً بثبات طويل، نسأل: "أمانة طالعة حلوة؟".
يا إلهي ماهذا المكان الذي خُلق فجأة في ألمانيا الباردة؟ كيف تحولنا كُلنا لمعارف، كيف تبدد خوفنا من الآخر؟ هل كنا نحتاج أغنية لنرجع عائلة كبيرة؟
من هنا بدأت حالة من الألفة تسيطر على المكان وكأن كل السوريين هنا يعرفون بعضهم. الكل يبتسم للكل.
اعتلت نجوى كرم المسرح، وبذكاء أعادت كل من في المكان إلى التسعينات، غنت ميدلي من أغانيها القديمة، التي جمعت جيل الثمانينات والتسعينات على حد سواء، حالة من النوستالجيا غريبة، أعادتنا كلنا لطقس غسيل السجاد وحب ابن الجيران وشطف الدرج، والسهرة على الأسطوح.
الجميع يغني، ينظرون لبعضهم وكأنهم يتبادلون الذكريات.
"أنا ما فيي حبك أكتر من عيني". ننظر لبعضنا ونحن نتمتم في قلوبنا بتتذكري؟ بتتذكر؟
جهزت نجوى حالة الحنين لأصالة، أشبعتنا وأمتعتنا وجعلتنا نشعر أن كل منا عاد إلى عتبة المنزل الأول، سلّمت نجوى المسرح لأصالة مشبعاً بالحنين والذكرى، مليئاً بغيوم صغيرة تحمل شيئاً من الماضي الدافئ.
جميع الصبايا جميلات، بفساتين العيد، كما سمتهم أصالة وهي على المسرح، قالت: "كلكن لابسين فساتين العيد، وأنا كمان لابسة فستان العيد". وضحكت كما تضحك دائماً
وفي اللحظة التي اعتلت فيها أصالة المسرح تحول المكان لبيت سوري كبير، بيت حقيقي.
صرنا كلنا نعرف بعضنا فجأة، عائلة واحدة تغني لها مطربة سورية في دولة من دول المهجر واللجوء.
كانت أصالة تغني وأسمع من حولي من يصرخ: "شامم ريحة البلد"، وعلى الرغم من أننا جميعاً وأصالة معنا محرومون من رائحة البلد، إلا أنها أضفت سحراً لم أفهمه حتى الآن.
لماذا أكتب هذا المقال؟ لأن ما عشته ليلة الحفل يستحق التوثيق، بعيداً عن شخص الفنانة، بعيداً عن نقل الحفلة على أنها خبر فني.
لا... كانت حالة من الألفة والمودة لم أرها بين السوريين منذ ال2011.
ما مر معنا كسوريين جعلنا بشكل أو بآخر أكثر حذراً من التعاطي مع الآخر الغريب بأريحية ولو كان ابن البلد، نبقى بعيداً لنعرف مؤيد؟ معارض؟ شبيح؟ مجرم؟
في الحفل، وضع السوريون كل مخاوفهم جانباً وغنوا ورقصوا، حالة ربما الأقرب إلى خيالاتي عن فرحتهم في يوم العودة إلى سوريا.
كل المدرجات حرفياً كانت تتواصل مع بعضها البعض، نكات، تصوير، حسابات إنستغرام...
صوري على هواتف أشخاص لا أعرفهم، صور أشخاص لا أعرفهم على هاتفي، أصالة حولتنا لـ عائلة واحدة فجأة.
إنها السعادة طاقة الفرح والحنين.
كانت أصالة في الحفل كبيرة جداً، كبيرة تتسع لكل من كان يجلس ليستمع إليها، وكأنها فتحت يديها الاثنتين وضمتنا، مسحت على رؤوسنا جميعاً وطبخت لنا طنجرة كبيرة من ورق العنب، كانت تتسع لآلاف السورين، كيف لتلك المرأة الصغيرة أن تتسع لنا كلنا .
ما حضرته لم يكن حفلة لمطربتي المفضلة، لكن حالة جماهيرية تستحق التوقف عندها.
في المربع الذي كنت أجلس فيه كان الوضع هكذا: امرأة محجبة مع زوجها، بجانبهم رجل مسيحي مع خطيبيته، بجانبه 3 شبان من إدلب، أمامنا مباشرة مجموعة من مجتمع ميم، وعلى يسارنا شباب وصبايا أكراد وخلفنا باقي التنوع السوري الجميل...
كلنا سوريون، حتى أنا الفلسطينية السورية كنت جزءاً منهم. كلنا نبتسم، كلنا نتبادل الأرقام، كلنا ننظر لبعضنا بفرح.
أصالة ، أرجوكِ... ضلي غني.
الأشرار لا يحبون الغناء.
هنا شعرت أننا نحتاج مسرحاً كبيـراً جداً يجمعنا كلنا.
كلنا لنغني بصوت واحد مرّة واحدة لنرقص معاً مرة واحدة.
ننسى فيها أن نخاف، أن نتوجس، يا الله ما أحلانا.
يا الله ما أدفانا.
أصالة ، أرجوكِ... ضلي غني.
الأشرار لا يحبون الغناء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.