شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
تلكَ اللا مرئيات المَرئيّة بِعينٍ ثالثة

تلكَ اللا مرئيات المَرئيّة بِعينٍ ثالثة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز نحن والتنوّع

السبت 20 يوليو 202411:45 ص

تصميم حروفي لكلمة مجاز

سأتغلّب على قلقي وحيرتي وأسئلتي غير المحدودة بالتقاط ما لا يُرى.

هذه الأشياء، هذه الأيادي والأرجل والوجوه والتجاعيد والحيطان والأرصفة وأشجار الطرق والنعال البالية والنوافذ المهجورة وسلة المهملات، وزهور نمرّ عليها مرور الكرام كل صباح، غير آبهين لها سوى أننا مشغولون بساعة الهاتف وصور الهاتف ولغو الهاتف.

ثم، ما العيب أن نصوّر قطة أو نهراً أو حتى أفق المحيط الممتد، أليس هذا ضرباً من الشاعرية في مواجهة استبداد العقل الذي عذّبنا ومارس سطوة على خيالنا السحري؟

إني لا أرى العالم دائماً عقلانياً على نحو ديكارتي، ولا أراه سحرياً ميتافيزيقياً على نحو قطعي، وإنما أعتبره مزيجاً بين هذا وذاك.

هذا أبيض وذاك أسود، لونان أصليان، وألوان أخرى إضافية تراها أعيننا المرئية لتداري على كذبة مبطنة لا يكتشفها سوى الجوانيين الحقيقيين، عشاق الصمت وكارهي الفقاعات والوفرة الخادعة.

أقدام على الإسفلت، مظاهرة

ليست الصورة مجرّد عرض واستعراض لأشياء ومقتنيات وأكل وقيم معينة، بل هي معنى في حدّ ذاته، لا يُرى في الكادر بقدر ما يُضمر خلفه، فإن كانت لديك عين ثالثة فسترى ما يشدّد عليه رولان بارت: "الصورة دائما لا مرئية".

ما العيب أن نصوّر قطة أو نهراً أو حتى أفق المحيط الممتد، أليس هذا ضرباً من الشاعرية في مواجهة استبداد العقل الذي عذّبنا ومارس سطوة على خيالنا السحري؟... مجاز

في الحقيقة، أنا لستُ مصوراً محترفاً. لا أملك آلة تصوير محترفة، ولا أطبّق -بالضرورة- ميكانيزمات تقنية محدثة. في الحقيقة، أنا مجرد هاوٍ لفعل التصوير، ومتفاعل مع ذبذباته التي تتسلل إلى نخاعي الشوكي كقشعريرة لذيذة.

فعندما ألتقط كادراً لا ألمح جمالاً مكتملاً، ولا قبحاً حاسماً. هنا يهمس الكادر في أذني : "يا سعيد، هذا ليس جمالاً ولا قبحاً ولا شيئاً من هذا القبيل. لا تحسم استنتاجك. الكادر حمّالٌ للأوجه، مثل نص ديني مقدس!".

شخصياً، لا تهمني هذه الاستنتاجات الأخلاقية والقيمية العصية على التقييم، ما يهمني أكثر هو أن ألتقط صورة بسيطة بإمكاناتي المحدودة، لتعكس قلقي وأسئلتي وسطوري وجوانياتي التي لا تترجم بالضرورة ككلمات، بل هي أشياء الفوتوغرافيا.

إن الأشياء كائنات يا سادة، لا تتنفس بقدر ما تكبت كلاماً مضمراً ومقموعاً، فالصورة لا مرئية، لأننا لا نرى ذاك الخطاب المبطن لكل العلامات المرورية التي تمارس علينا، كسائقين ومشاة، شيئاً من السلطة.

شخصياً، أراها - أحياناً- كأنثى في أبهى حلتها وهي تصدر أضواء راقصة، أو باعتبارها علامة أخرى تمنع عنك كل شيء، لكنها في الحقيقة كائن بئيس ويتيم ومغترب وسط خلاء مهجور، يتمنى أن يتوحّد مع حاله في مكان يليق له.

إشارة توقف في الفراغ، إشارات المرور

طيب، ماذا عن الأفيشات والصور التي تصوّر الصور؟ إنها تحدٍ للنسق في عقر داره، تأملوا كمثال أفيش/لافتة إعلانية لعرضٍ مُغرٍ للسكن اللائق وبالتقسيط المريح، في الوقت الذي يجلس تحته شخص متشرّد بلا مأوى، وكأنه يسألها بشكل رمزي: "ألستُ معنياً بهذا التقسيط اللعين يا سادة الأموال؟".

أريد أن أقول أيضاً إن "قلقي وأسئلتي وجوانياتي" تتقاطع مع قلق وأسئلة وجوانيات الغير وأشيائهم، بل الأكثر من ذلك، أحب أن أؤنسن الأشياء، أي أمنحها نفَساً إنسانياً، أخلق لها أدوار بشرية تتشابك وتتصارع وتتفاعل مع كياناتنا، هنا قد تطفو على الصورة تلك القضية التي يُراد لها أن تتحدث دون أن يترافع عنها محامٍ غاوٍ للصراخ، أو مثقف مُدعٍ "للغرامشية" العضوية.

الأشياء كائنات يا سادة، لا تتنفس بقدر ما تكبت كلاماً مضمراً ومقموعاً

قد نعتبر مكبر الصوت المنكوس، الذي أنهى لتوه من عملية الصراخ الاحتجاجي، حاملاً لقضية طبقية تخصّ فئة ما؛ كالمدرسين أو الأطباء أو الموظفين أو العاطلين عن العمل المحتجين في الشوارع، الذين يطالبون بحقوقهم ويشتبكون مع سلطة عمودية صماء، بيد أن مكبر الصوت قد يكون قد وصل لمرحلة الاستنزاف والسأم من دور المحامي الحامل للذبذبات الصوتية المثقلة بالصراخ بلا جدوى، فماذا عساه يفعل؟ لا شيء في الحقيقة. في هذه الحالة، أمنح له حياة أخرى في كادر الصورة، وهو يبدو مستريحاً من كل هذا العبء.

ثم أيضاً، الصورة ليست مجرّد انبهار ودهشة لأشياء تمتاز بـ "الإكزوتيزم" أو الغرائبية والفانتازية، ولكن هي بحد ذاتها سؤال يختزل في كادر واحد، فحينما أصور واجهة عمارة للسكن الاقتصادي بنوافذ متشابهة، فهي في الحقيقة ليست كذلك، بقدر ما تختزن هذه الفوتوغرافيا قضية سوسيولوجية، عن طبقية داخل نفس الطبقة، عن صراع أفقي داخل نفس البنية التحتية. وكمثال على ذلك: الشخص القاطن الذي يزيّن أو يضيف لمسته الخاصة للنافذة، ضارباً عرض الحائط قواعد الشكل المورفولوجي الموحّد، لذا تطفح على السطح كل تلك التباينات الصارخة.

تشكيل إسمنتي ونباتي، طغيان الإسمنت

كما أريد أن أستدل بمثال لصورة الشقق المتراصة بشكل يوحي وكأنها قبور للحياة أكثر من كونها بيوتاً، فهي لن تكون أقوى من صورة سيارةٍ لنقل الموتى المواجهة للشقق غير المكتملة، والتي توحي بأن قبر الموت الإسمنتي (الشقة) أقسى من قبر الموت الطيني!

الصورة يا عَالَم، تصرخ وتحتجّ، تبكي وتفرح، وتسخر وتقهقه وتتألم في وجهي قبل أن ترونها على نحوٍ لا مرئي. هي كائن حيوي، تُرى بعين ثالثة، لا مرئية، لا أقل ولا أكثر... مجاز

وعلى ذكر المورفولوجيا، أنوّه بأنه لا يجب علينا أن نغضّ الطرف عن الإسمنت وما يثيره من اغتراب جوهري في ذواتنا. هنا تذكرت كادرات المخرج الألماني فيم فيندرز الذي ركز في جزء مهم من فيلمه "باريس تكساس"، على تلك الجسور الشاهقة والمباني الزجاجية المتكبّرة.

 هو لم يضعها مجاناً، بل تعمّد أن يظهرها في أعلى المشهد بينما يوجد الممثل البطل "ترافيس" في أسفل الكادر، ضئيلاً، منكّس الرأس، حائراً ومكتئباً ومغترباً، وكأن المخرج يتساءل حانقاً: "ما فائدة هذه الإنجازات الإسمنتية والزجاجية البراقة من الخارج إذا كان الإنسان العائش وسطها ممزق داخلياً؟".

شخصياً، لا أريد أن نتعايش ونستسلم كلياً للإسمنت، بل علينا أن نوازن بين عالميْ الإسمنت والطين، وهذا الوضع أحياه نوعاً ما في حياتي الشخصية خلال السنين الأخيرة، أعيش و أتنقل بين حياتين وهويتين مختلفتين، ما يجعلني أتأمل كادرات تجمع بين نقيضين يشكلان أحياناً تكاملاً ما، مثل صورة أوراق الشجر التي تربّت على كتف الحائط المشقق إثر هزات الزلزال، في محاولة مني لأنسنة المشهد لصالح الطبيعة التي احتوت اهتزاز الإسمنت لتهمس بأذنه: "هون عليك يا مشقوق".

وعموماً سأكتفي بهذا القدر، لأقول لكم بأن الصورة يا عَالَم، تصرخ وتحتجّ، تبكي وتفرح، وتسخر وتقهقه وتتألم في وجهي قبل أن ترونها على نحوٍ لا مرئي. هي كائن حيوي، تُرى بعين ثالثة، لا مرئية، لا أقل ولا أكثر...

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image