‑ "ما رأيكِ أن نقوم الآن بتمرين المرآة؟": سألتني طبيبتي النفسية خلال زيارتي الأخيرة.
‑ "انظري في المرآة وقولي لي ماذا ترين أو من ترين؟"
وقفت قبالة المرآة المستطيلة. اقتربت منها قليلاً ثم ابتعدت. اقتربت مجدداً، مائلة وجهي إلى الأمام حتى أمسى ملاصقا لها. نظرت على عجل إلى عينيّ، فمي، أنفي، شعري، جسمي، يدي، ملابسي.
نفضت رأسي سريعا كي تخرج الصورة التي التقطتها منها.
قلت والدموع في مقلتي: "لا أعرف من هذه!، صدقاً هذه ليست أنا. حتى ملابسي لا تلائم ذوقي".
- ‑ "ماذا تحبين بالصورة التي تنعكس وماذا تكرهين؟"
عليّ الكذب بالتلاتة أني لم أعد كما كنت. أمسيت فارغة، بليدة، خبيثة.
حملت شعارات رنانة منذ خلقت. شعارات ومفاهيم فضفاضة، كنت كالعجينة، أرتخي وأنكمش على مقاسها. هذه المفاهيم حماية لي من كل ما هو مختلف، سيء، بغيض. كنت جميلة، طيبة، حنونة، متعاطفة، صادقة، صادقة، صادقة.
حملت شعارات رنانة منذ خلقت. شعارات ومفاهيم فضفاضة، كنت كالعجينة، أرتخي وأنكمش على مقاسها. هذه المفاهيم حماية لي من كل ما هو مختلف، سيء، بغيض... مجاز
لا محفّزات لدي للكتابة .أنتظر أن أغضب مجدّداً. أن أجرّب ما لم أجربه سابقاً: الغوص في محيط لا أعرف عمقه. أنتظر أن أصدم من حالة نفسية متدهورة وصلت إليها روح كان تبدو بكامل ألقها منذ لحظات، فأفتح فميf دهشة كالأطفال، أن هذا الإنسان خلق كي يتعذب إلى هذه الدرجة، ثم ألجأ إلى الله وأحلل .أتكلم مع صديقتي المؤمنة كي تشرح لي. أقرأ كل كتب الفلسفة كي أمتصّ الحالة فلا أفعل .أشعر بعدها بهزة داخل كياني وكينونتي . لا أهدرها بالبكاء والصراخ. أسكت فيتغير جزء في داخلي، يستكين أو ينبض. أتركه ينضج وأغوص بالجرح مجدداً. لم يحن وقت السكين للضربة القاضية. لا زال هناك الكثير مما لم أختبره بعد. لا زلت في أول طريق اكتشاف الآخر، والأنا تزحف في الآخر .لم أبدأ بعد مرحلة الفهم .أنا بعيدة جداً عن الاحتواء .ما زلت أتلمس الطريق.
نحن البشر كقطع الدومينو المتسخة، نلتصق ببعضنا البعض. كل رقم منا ينقل سواده إلى الرقم التالي وهكذا... سواد على شكل أمراض وعقد نفسية، انتقلت من فرد إلى فرد، ومن جيل إلى جيل، ومن قلب إلى قلب.
لا أحد مخطئ، الكل لديه مبرّراته لمَ أمسى مسخاً، وأنا بينهم علقت.
كل واحد على حدة يحاول أن ينجو بنفسه. أساليب النجاة تخطّ طريقها من الأنا إلى الآخر. كلما صدّرت بشاعتك إلى الآخر، رميت عليه حقدك. كلما ظننت أنك ناج من هذا المستنقع، يعلق الآخر بما سببته له، بالإضافة إلى وحوله الشخصية، فيحاول هذا الآخر رميها على آخر وآخر...
دائرة لا تنتهي من السهام الحادة، صنعت من طين الأنانية والكذب. الفراغ الداخلي والتعطش إلى دماء الآخر.
نحن البشر كقطع الدومينو المتسخة، نلتصق ببعضنا البعض. كل رقم منا ينقل سواده إلى الرقم التالي وهكذا... مجاز
أين أنا من هذه الدائرة. أين أنت. أين أنتم. لا يهم. لم يعد يهم. كل الأخبار تساوت في رأسي. أطفال غزة جياع يئنون من الخوف والبرد. أميرة أخت أحمد قعبور وحيدة لم تتزوج. رجل حلمت به لسنوات جاء أخيراً، فلم يستطع أن ينتصب لشدة الحرّ في الغرفة. امرأة تقود عربة أطفال على طريق وعر، تقع وتنفلت من يديها العربة الفارغة إلا من أحلامها.
أين نحن من الدائرة، من هذه الأخبار المتفاوتة؟
عطشت فحلمت بعبوة بيبسي مثلجة. رفض رفيقي أن يشتريها لي، فهو مقاطع.
شتمني بأقذع الكلمات. بأني أنانية، خبيثة، غير صادقة، صادقة، صادقة.
ذكّرني كيف كنت أشارك في صباي بكل التظاهرات الداعمة لفلسطين. كيف كنت ضد الفقر والتهميش. كيف كنت أصرخ وأصرخ وأصرخ. يسألني ماذا حلّ بي؟ ولماذا ابتعدت؟
لا أسمعه. أكرّر كلماته هنا كببغاء غبي.
شرحت قبلاً بأننا لا نتغير بإرادتنا، أنا فقط قطعة دومينو متآكلة. لا تعطني أكبر من حجمي، فالعبارات الرنانة مسحت من ذاكرتي. أنا الآن قطعة عجين منكمشة على رقم صفر صغير، لا يرى بالعين المجرّدة. يختفي كلما تقدمت في هذه اللعبة القذرة.
أقهقه كلما سمعت أرقاماً تصرخ. يا لعبثية المشهد من فوق.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.