تصحو أمي في منتصف ليلة ربيعية في العام 1995 إثر نوبة مفزعة من الألم. نحاول الاتصال بالصيدلية فلا يردّ أحد. أتوجّه إلى الصيدلية الخشبية بغرفة الضيوف، أعود بسرنجة وأنبوب "فولتارين"، تذكرني أمي بما أحفظه عن ظهر قلب، بأن المكان المثالي للحقن هو أقصى الشمال الشرقي للبرتقالة.
تضع إصبعها المرتعش على شمال شرق مؤخرتها، وتأمرني أن أضرب الحقنة في هذه النقطة بالتحديد. آخذ نفساً عميقاً بدلاً من أمي ثم أصوّب هدفي في مرماه الصحيح. ثلاث ثوانٍ حسبتهم الزمان بطوله قد مروا عليَّ إلى أن تسرب السائل بكليته إلى الداخل. انتهيتُ لتصفّق أمي بكفين واهنتين. تناولني الشوكولاتة الدارك، عوضاً عن المليئة بالمسكرات والتي حرمت من تناولها مبكراً جداً بسبب ارتفاع السكر لديَّ منذ طفولتي الأولى. أقبّلها ثم أذهب لمراجعة دروسي استعداداً لامتحانات الصف الثالث الإعدادي.
مرة ثانية، كتوكيد
جميع أفراد الأسرة مجتمعون على الشاطئ الجميل بمدينة بورسعيد، حيث نجلس تحت مظلة خيمة عملاقة، تنطوي على عتاد رحلة تكفي شهراً وليس نهاراً بطوله. تبدأ ثرثرة جانبية بين أمي وجدتي حول آلام قدمي الأخيرة. يعلو صوت الجدة بعدما تستشعر نبرة من الاستخفاف من قبل ابنتها، تشرك عمتي في الحديث، وتشكو لها خطورة تأجيل حقنة "التراي بي" الموصوفة لآلام أعصابها. تهزّ عمتي رأسها كنوع من التعاطف، بينما ندت عن أمي ضحكة مدوية دفعوا جميعاً ثمنها في الحال: "طب ويمين بالله لآخد الحقنة ومش بعد ما نرجع من البحر زي ما كنت عايزة، حاخدها دلوقتي، قومي يا بت يا مدهولة يا سهونة أنتِ إديني الحقنة دي".
تضع إصبعها المرتعش على شمال شرق مؤخرتها، وتأمرني أن أضرب الحقنة في هذه النقطة بالتحديد. آخذ نفساً عميقاً ثم أصوّب هدفي في مرماه الصحيح. ثلاث ثوانٍ حسبتهم الزمان بطوله قد مروا عليَّ إلى أن تسرب السائل بكليته إلى الداخل... مجاز
أنا هذه "المدهولة السهونة" التي وجب عليها تنفيذ القرار في الحال. أخرجت كل العائلة عنوة من الخيمة ولم يتبق سواي مع جدتي. ناولتني الحقنة جاهزة بعدما ملأتها، غيرت من مكان جلستها وأمرتني أن أتبعها حتى نتوارى عن رواد الشاطئ. مسحت بالقطنة النصف الأيسر من مؤخرتها، ولم تترك لي سوى مهمة ضرب الحقنة. ارتعشت يداي في البدء، فما كان منها إلا أن نطقت بعبارة داعمة: "أنت أمك معلمهالك وأنت شفتي ألف حقنة بتنضرب قبل كدا، يبقى سهل عليكِ، ولو عرفتي تديهالي من غير ما توجعيني ومن غير ما تورم، حديكي خمسين جنية!".
استحضر عقلي النصف مراهق الرقم، وبخلال ثانية ارتسمت العشرات من مشاهد إنفاق المبلغ أمام عيني كشريط سينمائي. استرجعتُ شجاعتي وعددتُ من واحد لثلاثة. مرّت الثواني الثلاث أسرع من المرّة التي حقنتُ بها أمي، استدارت جدتي بعدما رفعت سروالها، ثم انتزعت محفظتها الجلدية الفاخرة، والتقطت ورقة من فئة الخمسين، كانت أحدّ من السكين وطازجة كفاكهة قُطفت تواً. احتضنتها بسعادة طفولية، ثم هممنا بمناداة المطرودين من الخيمة، لتتولي جدتي دفة الحكي وتشرع في تأسيس أول لبنة صلبة في سلسال تفخيمي كضاربة حقن هاوية، تحولت مع الوقت إلى أسطورة من الاحتراف في أعين الجميع، إلاي.
جائزة الطالبة المثالية
عقدت مدرستي الثانوية رحلة إلى مجمع الأديان. لم توافق أمي، كعادتها، أن أرافق زميلاتي خوفاً من أن ينقلب الأتوبيس السياحي بنا وأفقد روحي، فيصلى عليَّ بالمجمع ذاته الذي من المفترض أنني ذهبتُ إليه بغرض التنزّه. في هذه المرحلة، وعلى الرغم من أنني لم أتجاوز حينها الرابعة عشر من عمري، كنتُ قد بلغتُ من النضج مبلغاً يقيني من محاولة إقناع أمي بأمر محسوم قبل أن يُعرض عليها. قضيتُ اليوم في نزهة حول القصر الجمهوري الذي يحيط ببيتي من جميع الجوانب، ثم استثمرتُ فترة ما بعد الغروب في الانتهاء من الرسومات التي أجّلتها الدروس المتراكمة. خلدتُ إلى النوم متخيلة أنني سأحظى بغفوة في يوم راحتي.
لم أكمل نصف ساعة حتى أيقظتني أمي على خبر تسمّم جميع صديقاتي اللائي كن في الرحلة. لم أفهم الأمر إلا بعدما أسهبت هي في الشرح؛ ما حدث هو أن صديقاتي تناولن سندويتشات كبدة مجهولة المصدر، ولزيادة الطين بلة، قمن بتبليع ما أكلنه بأكواب عملاقة من عصير "السوبيا". أصبن جميعاً بجرثومة في المعدة، خلّفت تسمّماً حاداً، سرعان ما نقلن إثره إلى المشفى العام الذي أسعفهن بمحاليل بدائية، ثم صرفهن بعدما وصف لكل طالبة كورس من حقن "الأمبيسيلين".
اشتهرتُ منذ ذلك الحين في حي الزمالك، حيث أعمل، باللقب نفسه الذي جاهدتُ كي أتجنبه؛ حكيمة حي الزمالك، وكانت مديرتي تزيد من الشعر بيتاً لتعزّز من تضخيم المسمّى الحركي لي؛ فكانت لا تناديني في "الرايحة والجية" سوى "حكيمة الحكماء"... مجاز
بعد انتهائها من حكي تلك المأساة، جذبتني من ذراعي، ثم ألبستني إسدالاً مخّصصاً للخروج وارتدت هي الأخرى عباءتها. اعترفت لي في المصعد أنها عرضت على أمهات زميلاتي بأنني سأتولى إعطاء كل واحدة منهن الحقنة في ميعاد ستحدّده مع ولية أمر كل طالبة. حاولتُ الهروب من هذه المهمة الثقيلة، فمن أنا كي أقوم بعمل كهذا؟ فحقن المضادات الحيوية مختلفة كلياً عن الفولتارين وحقن مشتقات فيتامين B.
وبختني أمي على جبني الذي ظهر لها، يسّرت لي الأمر من وجهة نظرها بأن أستعمل سرنجتين، واحدة لملء السائل وخلطه بالبودرة، وأخرى لعملية الحقن. نظرت لها في توسل بأن تكمل جميلها وتعطي "لمياء" أول صديقة لي الحقنة نيابة عني. اندلعت من فمها قذيفة: "انجزي يا بت مكنتش حقنة، ياللا عشان حنفوت على بقية صحباتك".
أذعنتُ صاغرة. سحبتُ نفساً عميقاً، ثم "دبببببب"، بعدما انتهيتُ كانت لمياء ما زالت واقفة على وضعية استقبال الحقن، لأخبط على مؤخرتها برفق: "خلصنا يا لوما". استدارت لتهيل على وجهي بأطنان من القبلات قبل أن تعاود ارتداء سروالها. لا زلنا ننفجر ضحكاً على ذلك المشهد الذي لو رآه غريب يومها، لن يأتي بمخيلته سوى أن لمياء كانت تراودني عن نفسي.
انقضى الأسبوع على خير بعدما عملت أمي جدولاً صارماً محسوبة به الدقيقة التي سنطرق باب فلانة، والثانية التي نغادر بها باب علانة، وعند بداية الفصل الدراسي الثاني، وفي أثناء الاحتفال بالطالبات الأوائل، فوجئت باسمي ينادى، على الرغم من أنني في الترتيب الثاني عشر. كرّمتني المدرسة على دوري مع زميلاتي إبان مرضهن. حملتُ شهادة مكتوب بها اسمي بحروف من ذهب، على أغرب سبب يمكن أن يُكرّم من أجله إنسان: "الطالبة المثالية في تطييب آلام زميلاتها". انهال التصفيق فنزلتُ محرجة لأكمل تمرينات الطابور الصباحية.
حكيمة في الحي الهادئ
مرّت الأعوام لأتخرّج من الجامعة بتقدير مرتفع مقارنة ببقية زملائي، الأمر الذي جعل أمي تقيم حفلاً ضخماً تدعو إليه جميع المعارف والأصدقاء، وبعدما قضيت طقوس الحفل الصاخب وطرها من الجميع، جلسنا لنتناول نخب النجاح، فإذا بإحدى جاراتنا تبادر بسؤالي عن العمل الذي أود الاشتغال به، أجابها أبي بثقة العرفين:"مطيباتية الصبح، وبليل حكيمة بتدي حقن، هيهيهيهي".
أدركتنا ضحكات جماعية لتنهي الحرج الذي وقع عليَّ جراء سخرية أبي من عمل إنساني أؤديه لوجه المحبة ولا شيء آخر. تجاوزتُ كلماته سريعاً وانخرطتُ بعدها في البحث عن عمل يساعدني على تمضية الوقت فيما هو مفيد. حصلتُ على وظيفة بخلال ثلاثة أشهر من تخرّجي، انكببتُ على العمل بها بكامل قواي، علّني أحصل على لقب وظيفي آخر غير مسمى "حكيمة وضاربة حقن".
في إحدى صباحات الشتاء القارص، أصيبت مدام "مديحة" مديرتي في العمل بنوبة قيء عنيفة، بعد تلقيها الجلسة الثالثة للعلاج الكيميائي. لم نطلب الإسعاف لأنها كانت خارجة للتو من المستشفى، فتفتق ذهني عن حقنها بأمبول من "الزوفران"، لأن اللجوء إلى "الكورتيجن" في هذه الظروف سيكون محض عبث. اتصلت بأقرب صيدلية وألححتُ عليهم أن يسرعوا، وبالفعل دقائق وحضر مندوب التوصيل الذي شكرته وناولته بقشيشاً معتبراً على خفته في الحركة. لم أبذل مجهوداً يذكر في إعطاء الحقنة، فالمرأة كانت على أتم استعداد لأي إجراء من شأنه أن يذهب بالألم العاصر الذي يفتك بعضلات معدتها. اشتهرتُ منذ ذلك الحين في حي الزمالك، حيث أعمل، باللقب نفسه الذي جاهدتُ كي أتجنبه؛ حكيمة حي الزمالك، وكانت مديرتي تزيد من الشعر بيتاً لتعزّز من تضخيم المسمى الحركي لي؛ فكانت لا تناديني في "الرايحة والجية" سوى "حكيمة الحكماء".
مكانة دولية مرموقة
حلّ وباء كورونا ومعه أعراض متفاوتة الشدة من شخص لآخر، ما جعل الأطباء يبتكرون بروتوكولات علاجية ويجتهدون للوصول لأفضل النتائج. اشتدّت الأعراض على أبي، فما كان من طبيبه إلا أن وصف له حقن مضاد حيوي "سيفوتاكس" و حقن "كلكسان" تحت الجلد للوقاية من جلطات الرئة. أنهكت الإجراءات الطبية أبي أكثر من اشتداد الأعراض عليه، فكان يغادر غرفته المعزول بها صباحاً ومساءً حتى أعطيه حقنة في مؤخرته وأخرى أسفل جلد ذراعه. لجأ الجيران إلى بيتنا بعدما علموا عن مقدرتي السحرية في إعطاء الحقن، فمثلاً طلبت مني جارتي في الدور الثاني أن أشرف على الممرّض الذي يأتيها يومياً كي يناولها جرعة مكثفة من المضاد الحيوي عبر الوريد، وعلى الرغم من رعبي من مسؤولية كهذه، إلا أنني وافقتُ عن طيب خاطر، نظراً لتأخر حالتها آنذاك، وحينما انتهت من الكورس العلاجي الموصوف لها كانت في أتم صحة من الممكن أن أراها عليها، والغريب أنها أرجعت الفضل في ذلك إليَّ، رغم كوني لم أفعل سوى ما كان سيفعله أي ممرّض غيري.
انتشر الخبر في منطقة سكني عن وجود فتاة تعمل "ترجمانة" صباحاً و"تمرجية" بعد الظهر، وما من أحد تحقنه إلا وتدبّ به الصحة والعافية. ترجاني جاري الذي يسكن لصق شقتي، ويعمل كملحق ثقافي في سفارة تشاد بمصر، أن أشرف له على نفس الخطوات العلاجية التي خضعت لها جارتي، والمفاجأة أنه تحسّن تماماً وفي مدة أقل من التي يحتاجها أي مصاب كورونا. شكرني الرجل وأهداني قلماً من الذهب الخالص، كما تقدمت وزارة الخارجية في دولته بتقديم جواب شكر للخارجية المصرية باسم جموع الشعب التشادي، متمنية لي المزيد من النجاحات في إنقاذ المرضى والمحتاجين.
عنما قرأت رسالته، تمنيتُ لو بإمكاني إخضاع العالم لعمليات من الحقن، تصبح الأرض بعدها خالية من الأمراض المستعصية والأوبئة والحروب، ويومها استشعرتُ أهمية ما أقوم به على الرغم من غرابته.
دلفنا إلى الداخل فانقطع التيار الكهربائي. لم نطلب النجدة من أحدهم، أنجدنا أنفسنا بوجبة دسمة من القبلات امتد قوامها لساعتين أو يزيد، من الجنون والنشوة والالتحام حد الانصهار... مجاز
ما محبة إلا بعد "مبوسة"
أحبني جار لي منذ مراهقتي. ولما لم يجد مني استجابة، تحولت طاقة المحبة بداخله إلى حقد غير مبّرر، أطلقه عليَّ في كل مرة يذكر فيها اسمي أمامه، إلى الحد الذي دفعه إلى التسفيه من نتائج التحسّن الذي حظى بها كل من وقع تحت تأثير محقني، ولأن الكون يدور وفق تنظيم مقدس، حدث ما لم يكن بالحسبان: تعرّض جاري لحادثة في أثناء عودته من الإسكندرية للقاهرة، خضع نتيجة لها لأكثر من ست عمليات جراحية معقدة في عموده الفقري وفخذيه، ما جعله بحاجة إلى جرعات منتظمة من حقن المورفين، حتى بعد خروجه من المستشفى.
لم يكن أمامي فرصة للرفض، فحالته كانت أهم من أي خلاف قديم وأحمق. حرصتُ على الذهاب إليه ليلاً كي يتوافق المسكّن مع ميعاد نومه، إلا أنه قد طلب مني قبل الحقنة الثانية أن أستبدل سائل المورفين بسرنجة عملاقة من الهواء لمدة أسبوع حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً، لكنني كنتُ أكثر مكراً وأقنعته بعرض لا يمكن مقاومة إغرائه، وعدته بأن أنفذ طلبه شريطة أن يجرّب أن أحقنه بسائل المورفين في وريده، وإذا لم يتشنّج والمحقن بداخله سأهبه قبلة على شفتيه كمكافأة يومية، أما إذا انتهى الأسبوع بدون تحسّن يذكر سأكون ملزمة بتنفيذ طلبه.
وافق بسرعة البرق، والمذهل أنني وجدته يتهيّأ يومياً لملاقاتي، فكان يرتدي أفضل ما لديه ويتعطّر ويغسل أسنانه بالمعجون الذي أفضّله، قبلته لمرة واثنتين وثلاث، وفي كل مرة كان يتورّد أكثر من سابقتها. قطعنا عشرة أيام من الحقن والتقبيل الساخن الطازج اللذيذ. فرغتُ من مهمتي وعدتُ كعادتي إلى بيتي، وبعد أسبوعين وجدته يسبقني إلى مصعد بنايتي، كان أوسم من المعتاد، وأهدأ من كل وقت مضى. دلفنا إلى الداخل فانقطع التيار الكهربائي. لم نطلب النجدة من أحدهم، أنجدنا أنفسنا بوجبة دسمة من القبلات امتد قوامها لساعتين أو يزيد، من الجنون والنشوة والالتحام حد الانصهار.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه