قصدنا الكراج القديم بعد أيام مثلجة، من قريتي الصغيرة إلى مدينة السويداء. كنت أسير وأختي خلف والدي الذي يفتح بخطواته الطريق، لنصعد إلى أعلى الشارع الرئيسي في السويداء، والذي تحوّل اليوم للشارع "المحوري"، في صورة ثابتة في ذاكرتي، نسجت مع أنفاسنا المتقطعة رسم مدينتي الهادئة، التي لا تعتبر أكثر من قرية كبيرة تمدّدت واستطالت، أسير فيها اليوم بحكم العادة.
الذكرى تعود إلى شتاء عام 1992، حينها عجز الميكروباص الذي تبرّع بنقلنا إلى السويداء، كمجموعة طلاب جامعيين من القرية، واعتذر عن الصعود للطريق القديمة بسبب الثلوج والجليد، لنسير إلى أقرب نقطة على الطريق، ونستقلّ أي حافلة إلى دمشق، خوفاً من اشتداد المنخفض الجوي وخسارة الامتحانات.
أصعب جزء في الرحلة كانت حوالي مائتي متر، هي الجزء الأكثر حيوية والذي يحاذي الكراج القديم، وما يسمّى "الحسبة" أو سوق الخضار اليوم من الغرب. سرنا فيها صعوداً خلف والدي بعد النزول من الباص للوصول إلى الحافلة والمدينة شبه خالية.
هكذا كانت السويداء ببساطة: مدينة تستيقظ مع قدوم أبناء القرى، حملة الخضروات والبيض البلدي والعنب والتفاح والألبان والأجبان في مظهر قروي لطيف، وكل طالب يخرج باكراً للالتحاق بجامعته، أو عسكري بثكنته، أو أي شخص يحتاج للوصول إلى دمشق باكراً، تجمعهم هذه المائتي متر، الأكثر حيوية في المدينة، بمظهر جميل وبسيط، كنت في مرات عديدة أنشغل بمراقبته، خاصة في فصل الصيف ونضوج الخضار والفواكه الصيفية، في مهرجان ألوان متبّدل وراقص.
مع الزمن، ازداد الضجيج، لكن روتين المدينة اليومي بقي على حاله، وبرنامجها المعتاد كالعادة يبدأ بالحركة مع وصول أولى حافلات القرى من "المقرن" (تسمية محلية تعني ريف المحافظة) الشرقي والغربي والشمالي والجنوبي، والأهم سيارات سوق الهال القادمة من دمشق.
كانت حياة هادئة في مدينة السويداء، رغم حيويتها الجديدة، بالكاد يصل إليك خبر سرقة أو نشل أو جريمة قتل، بمظهر اختلف بعد الحرب وافتقدناه لدرجة البكاء
سكون المدينة ميّزها
عند العودة، في مدار الساعة الثانية ظهراً، التوقيت الرسمي لنهاية الدوام وعودة الموظفين لقراهم، تشعر أن المدينة خالية بالفعل. الشوارع فارغة. سيارة تعبر بجانبك كل حين، فتظن أن أهالي المدينة يأخذون قيلولتهم في نفس التوقيت، وتتأكد حينها أن المدينة نائمة لولا القرى وأهل القرى.
في تلك الفترة، كان النقل العام بين المدينة والقرى يتوقف عند الثانية أو الثالثة ظهراً، وبما أن الأوضاع الاقتصادية لم تكن لتحتمل تكاليف النقل الخاص لمعظم الأهالي، إضافة لأن قلّة من الناس يزورون المدينة فترة الظهيرة أو بعدها، فيسود الهدوء حتى صباح اليوم التالي وهكذا، أما يوم الجمعة فقد كان مخصصاً للزيارات القريبة فحسب.
مع بداية القرن الحالي، أخذت الصورة تتغير، لأتمكن أنا وأهالي قريتي من زيارة المدينة بواسطة الميكروباص، في رحلة مسائية تبدأ عند الرابعة أو الخامسة، وتنتهي عند السابعة أو الثامنة، في توقيت يتبدّل بين الشتاء والصيف.
اعتُبر هذا التطور خطوة متقدمة جداً، فقد بات بالإمكان تمضية يوم كامل في المدينة لزيارة الأقارب والحياة الاجتماعية، أو زيارة المركز الثقافي ومتابعة إحدى النشاطات الثقافية أو التسوّق، والعودة عند السابعة أو الثامنة مساء، وتلك نقلة حضارية.
بالطبع لم تكن قريتي الوحيدة التي أصابتها هذه "الخطوة الحضارية"، كما كنا نتندّر، إذ انتقل الأمر للقرى المحيطة بالسويداء، وبدأ راكبو رحلات الحافلات المسائية من القرى بالظهور، وبدأ الضجيج يعمّ أسواق شارع "أمية" وشارع "الشعراني" و"سوق القمح" و"الحمزات" بشكل خاص، وجزء كبير من شوارع المدينة، حيث استطالت المائتي متر الحيوية تلك، بأمتار من شوارع أخرى، مثل شارع "قنوات" وطريق "مصاد" أو طريق "المشفى"، واتسعت فرصة الخروج من دائرة القرية إلى المدينة بدون مبرّر أو سبب، إلا تغيير الجو أو التسوّق بحالة من الارتياح.
خلقت حركة النقل هذه نوعاً من الراحة لطلاب الجامعات من عبء التنقل المسائي، الذي أرهقني وأخواتي في حال العودة بعد الثانية ظهراً، فلبست الحياة ثوباً جديداً، لم يكن جميلاً بعد قبح أبداً، لأن مدينتي كانت جميلة الهدوء بالفعل، لكنه أكثر مرونة مما سبق، وأكثر يسراً لمن تمنى حياة سلسة في التنقل والاطلاع، والخروج من قيد المسافات المقفلة، في مرحلة كان الأمان اليومي تحصيل حاصل وشعوراً مكرّساً لدرجة النسيان.
كل تلك الحالات بقيت فيها المدينة بعدد سكانها المعهود بين 350 ألف إلى أربعمائة ألف، يعود منهم مئات في الصيف من بلاد الاغتراب، تستطيع التعرّف عليهم من سياراتهم الفاخرة وأزيائهم العصرية ومظاهر الترف، وحتى كثرة الأعراس والرحلات والسهرات في المطاعم التي لم يكن عددها يتجاوز أصابع اليد الواحدة.
ما أضفى بعض النشاط لرحلتي الصباحية والمسائية، وفكرة الحصول على جلسة هادئة للحصول على القهوة ولقاء أصدقاء وصديقات في مظهر كان حديثاً نوعاً ما في قريتي الكبيرة السويداء، لدرجة أنك لا تستغرب وجوه رواد بعض المقاهي أو حتى المارة، يعني "أهلية بمحلية"، في حالة اجتماعية متلاصقة، قريبة، تهتدي ببساطة من خلالها لأي زائر جديد: فلان صديق فلان، قرابة فلان، وعلى مبدأ "كلنا أهل وأقارب"، حتى أنك لا تضطر للسؤال.
كانت حياة هادئة رغم حيويتها الجديدة، بالكاد يصل إليك خبر سرقة أو نشل أو جريمة قتل، بمظهر اختلف بعد الحرب وافتقدناه لدرجة البكاء.
الهدوء المشتهى
في صباح صيفي، وقبل إتمامي الرابعة عشر، في يوم ميلادي في الواحد والعشرين من تموز، قصدت برفقة والدي استديو "صابر عراوي"، ثاني مصوّري المدينة، للحصول على صورة لاستخراج بطاقة شخصية، ومع النزول من الباص في المدينة، لاحظنا حركة غير اعتيادية، سيارات شرطة ومارة أكثر من المعتاد. ضجّة وجملة "الله يجيرنا" تتكرّر كثيراً. ومن الطبيعي لوالدي أن يستفسر عن الوضع الذي وصفه صاحب أحد المحلات بـ "آخر وقت"، وأخبرنا أنهم وجدوا امرأة مقتولة في منزلها في حي "المسلخ"، الحي الذي حمل اسم "المسلخ البلدي" الذي بقي لأكثر من سبعة عقود في مقره جنوب المدينة، وتفيد القصة أن القاتل سرق مصاغها وهرب آخر ساعات الليل.
توقفنا لدقائق لهول الخبر والرعشة الرهيبة التي هزّت أجسادنا. كانت خبراً كبيراً بمقياس ذلك الزمن، إذ لم نكن قد اعتدنا سماع أخبار مماثلة إلا في الراديو. اليوم قد لا تصحو المدينة دون خبر سرقة سيارة أو نشل أو قتل أو اختطاف، وما إلى ذلك من أحداث بتنا نسمعها بحكم التعوّد، لنستفهم عن شخصية (البطل) سواء كان ضحية أم مشتبهاً به، ولا نحرص كثيراً على إكمال القصة وتفاصيلها، فقد أصبحت يوميات مملّة لشدة تشابهها.
لكي أتمكن من العبور والنسيان، والاستمرار في حبّها، أقنع عقلي أن تلك القرية الكبيرة/المدينة الصغيرة، فتاة مخطوفة، تنتظر فتح النوافذ والأبواب لتهرب إلى فضاء الحرية النقي
تخبرني صديقتي أنها في شهر آذار الماضي، وقبل الوصول إلى أحد المقاهي، وفي الجزء الأخير من شارع "الشعراني" المخصّص للمشاة، توقفت دراجة نارية يقودها شاب، أشهر مسدساً في وجه آخر، وهدّده وعلا صوته الذي لفت انتباهها.
التقطت عيناها مشهد تصويبه المسدس على صدر شاب مقابله، لكن يبدو أن عاصفة من الرحمة أو الخوف، هبّت على قلبه، ليسدّد على الأرض لا في صدره. كان المشهد على بعد خطوات منها، وأمامها العشرات في مرمى نيران شخص عابث، لم تعرف من هو حتى نشرت صفحات التواصل القصة.
منذ بداية الحرب ولغاية هذا التاريخ، نبدأ يومنا بخبر رمي قنبلة أو رشقات من رشاش أو انفجار مجهول، عدا عن حوادث النشل التي تكرّرت لدرجة أننا في اليوم الذي سبق عطلة عيد الأضحى، سمعنا خمسة حوادث في نفس الوقت، نتيجة أحدها كسر في الكتف ورضوض أصابت سيدة سحب اللصوص محفظتها التي تمسّكت بها بكل قوتها، قبل أن يتمكن من رميها وخطف المحفظة والفرار على ظهر دراجة نارية.
مدينتي الغريبة
حافظ الشارع "المحوري" على أهميته في حياتنا، وهو جسر طويل تتنوع فوقه البضائع، من أصناف المعونات الدولية حتى الأغراض المستعملة والمسروقة، وكل ما يخطر على البال، بتجاور غريب يعجز الخيال عن جمعه، لكنها في هذا الموقع تجتمع لتفرض عليك رؤيتها والتركيز بما تعرض من بضائع، وتجبرك على العبور بممرّاتها الضيقة، المسقوفة بشكل عشوائي، وتشعرك بالاختناق، لأنك توشك على احتضان المارة أو التصادم معهم وجهاً لوجه.
أسير بخطوات واسعة أحياناً وقصيرة أحياناً أخرى ضمن هذا الركام من الأسى، وفي ذهني سؤال يتكرّر بين فواصل الارتطام والتصادم: أين أسير؟ هل بالفعل هذه مدينتي؟ أين تلاشى هدوء المكان وصمته، بساطته وطمأنينته؟ كيف ضجّت هذه المدينة ومن يصدر اليوم أصواتها المزعجة؟ أسئلة أعجز عن إيجاد إجابتها المقنعة، ولكي أتمكن من العبور والنسيان، والاستمرار في حبّها، أقنع عقلي أن تلك القرية الكبيرة/المدينة الصغيرة فتاة مخطوفة، تنتظر فتح النوافذ والأبواب لتهرب إلى فضاء الحرية النقي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه