شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
يا الله، من أين أجلب بردى لدمشق لتراه ابنتي؟

يا الله، من أين أجلب بردى لدمشق لتراه ابنتي؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الثلاثاء 16 يوليو 202410:39 ص

تحتاج المسافة من صافيتا إلى دمشق ثلاث ساعات بالبولمان، هذه المسافة التي اعتدت أن أقطعها وحدي، مع أفكاري وحكاياتي المعلّقة بين دمشق وصافيتا، قطعتها هذه المرّة برفقة طفليّ اللذين ينتظران رؤية الشام منذ أن كانت هذه الزيارة مجرد فكرة ألهو بها معهما، فلطالما كانت هذه المدينة جزءاً من أحاديثنا ومسرحاً أساسياً لأحداث حكايات من نوع خاص قبل النوم، حكايات ليست من تأليفي فقط بل من بطولتي أيضاً، وها هي الآن ستصبح جزءاً من مغامرة جديدة على وشك البدء.

على الطريق، حظيت ببضع دقائق بعيداً عن الأسئلة التي لا تنتهي، فكل إجابة مهما بدت حاسمة، تفتح بالنسبة لهما باباً لسؤالٍ آخر. أخذهم النوم، وأخذني الخيال إلى المرة الأولى التي ركبت فيها البولمان قاصدة دمشق.

في تلك الفترة، كنت قد تخليت عن حلمي بدراسة الإعلام تحت ضغط الظروف التي تجبرنا على اختيار الطرق القصيرة، دائماً، ولأقلب الموازين لصالحي لو قليلاً، تمسكت بحلمٍ آخر، حلم الدراسة في دمشق، المدينة التي صنعتها في مخيلتي شبراً شبراً، في تلك الليالي الطويلة التي كنت أقضيها بمشاهدة المسلسلات السورية التي كانت طريقة الترفيه الوحيدة لمراهقة بخيال خصب وأحلام كبيرة وجيوب فارغة.

وقتها كنت أعتقد أن التجوّل في حديقة جامعة دمشق محتضنة دفتر "سلك" كبير، كُتب على غلافه بالخط العريض "دفتر جامعي" أجمل ما قد أحصّله في حياتي، بعد أن تنازلت عن كل ما أردته يوماً لصالح ما يسمّيه الخائبون بالقدر. لكن هذه المرة كان حلمي لي، وكانت رغبتي وعزيمتي ألّا أخسر هذه المرة، أيضاً، أقوى من قدري، فقد تمكنت أخيراً من ترك مدينتي الصغيرة التي تنام في الثامنة وقصدت دمشق، المدينة التي لا تنام.

دخلت دمشق بحقيبة كبيرة تحوي الكثير من أنواع المونة والأطعمة، والقليل جداً مما قد تحتاجه فتاة ستدخل الجامعة، وكان هذا شرحاً واضحاً ومختصراً لفكرة عائلتي عن الحاجة ولفكرتي عن الحياة

الاكتشافات الأولى

دخلت دمشق بحقيبة كبيرة تحوي الكثير من أنواع المونة والأطعمة، والقليل جداً مما قد تحتاجه فتاة ستدخل الجامعة، وكان هذا شرحاً واضحاً ومختصراً لفكرة عائلتي عن الحاجة ولفكرتي عن الحياة. برفقة هذه الحقيبة الكبيرة، تنقلت من مكان إلى آخر بغباء شديد، جعل من عملية العثور عليّ من قبل زوج خالتي مهمة شبه مستحيلة، فما يكاد يصل إلى المكان الذي أنتظره فيه حتى أفاجئه بأني صرت في مكان آخر.

كنت مثل شخص جائع، أو ربما خارج من سجن طويل، قدمت له سندويشة بالصمون المدوّر، ولم يعرف من أين يبدأ بالتهامها، فبدأ يأخذ من كل جهة قضمة.

في المدينة الجامعية، الغرفة 435 في الطابق الرابع من الوحدة السادسة، اكتشفت لأوّل مرة أن هناك على هذه الكرة الأرضية أكراداً، يتكلمون لغة غريبة، لا أفهمها. تبادلت معهم ابتسامات اللقاءات الأولى، ثم تكوّرت على سرير صار سريري منذ بضع ثوان فقط، فأصبح بذلك انتمائي الوحيد داخل هذه الغرفة التي تجتمع فيها فتيات بأسماء لم أعهدها ويثرثرن بأصوات عالية ولغة غريبة.

 أتذكر أني بعد نصف ساعة من التحديق في النافذة وتأمّل دمشق وبنايات "الأربعطش" من نافذة غرفتي، انفجرت بالبكاء، لتتجمّع الفتيات الكرديات الغريبات حولي، يهدئنني ويعدنني أن يتكلمن العربية دائماً أمامي. هذه الغرابة التي وضع لها العيش المشترك لسنوات طويلة، حدّاً، الغرابة التي انتهت بأن صار اسمي العربي اسماً لأحد فتيات عائلة كردية في القامشلي، وصارت الأغاني الكردية رفيقة وحدتي في أيام سفري إلى صافيتا، وجعلت الصرصور (سوساك) والقداحة (جقمق) في استخدامي اللغوي حتى الآن.  

الغرابة التي أثمرت عن اكتشافات جديدة: يوجد في دمشق أشخاص يعيشون دون هوية، يوجد في دمشق سوريا لا أعرفها ولا تشبه كثيراً ما كنت أراه في المسلسلات. وأيضاً، في دمشق فتاة فلسطينية، سأعثر عليها على أحد مدرّجات جامعة دمشق، وستصبح صديقتي المقرّبة، ضاربة بعرض الحائط كل تحذيرات "أوعك ترافقي الغِرْب".

وها أنا اليوم أدخل دمشق مرة أخرى بعد سنوات طويلة، دون حقيبة، ودون زعتر وزيتون أمي، أمسك بكل يد طفلاً، وأسكب فوق رأسيهما قائمة من التوصيات التي لا تنتهي: "هون الشام مو صافيتا، أوعك تفلت من إيدي"، وكأن جزءاً مني كان يخاف دمشق، خوف لم أدركه حتى دخلتها وبصحبتي طفلين صغيرين.

لم أستطع أن أجرّد دمشق من حرب يقولون إنها انتهت. كنت أسمع أصوات القذائف وأرى الموت في كل مكان، الدمار أينما نظرت والجثث تتساقط من عيون الجميع كدموع ميتة

ورقة التوت التي سقطت عن دمشق

شعرت من اللحظة الأولى لدخولي دمشق بحزن غريب قلّل من حماسي ولهفتي. أنا التي أضناني الحنين لها لم أشعر إلا بالبؤس وأنا أتأمل ساحة العباسيين، وأتذكر أي مسرح كانت هذه الساحة من سنوات، وكم من قدم لم تطأ بعد هذه الساحة مكاناً. لم أستطع أن أجرّد دمشق من حرب يقولون إنها انتهت. كنت أسمع أصوات القذائف وأرى الموت في كل مكان، الدمار أينما نظرت والجثث تتساقط من عيون الجميع كدموع ميتة.

شعرت بالاختناق، ولم أتوقف لحظة عن التذمّر من ازدحام كبير لم يلحظه أحد غيري، وربما الآن وأنا أكتب استطعت أن أفهم مشاعري، استطعت أن أميّز الفرق بين دخولي دمشق في كل مرّة وبين هذه المرّة. سابقا كنت أدخل دمشق كمحاربة، أما الآن فأنا أدخلها كمهزومة. فكرتي عن نفسي هي أساس فكرتي عن دمشق.

كنت أراقب عيون طفليّ المدهوشة، وفي الطريق من كراج العباسيين إلى باب توما، سألني طفلي ببراءة واستغراب: "هي هي الشام؟". كانا يبحثان عن دمشق التي حدثتهم عنها في هذه الدمشق الحقيقية، والأسوأ من كل هذا أني كنت أبحث معهما عن الشام التي صنعت لي عالماً من السعادة والذكريات والمغامرات، يوماً ما.

 شعرت بخيبة الأمل تعتصر قلبيهما، وهما يسألاني عن رائحة القمامة وعن الوجوه المتجهّمة والحزينة في باص النقل الداخلي، والبيوت العشوائية، والفقر والأطفال الذين يفترشون الشوارع، وعن الجاكيت التي لبستها في عز الشوب والشورت الذي قلت لابنتي أن "بلاه" أحسن.

وكأني من خلال عيني طفلي رأيت دمشق لأول مرة عارية، مخذولة، حزينة، وربما هذه هي المرة الأولى في حياتي التي أشاهد دمشق كما هي، بأكياس القمامة التي تملأ حاوياتها، برائحة الفقر التي تفوح من حاراتها، بالفرق بين المالكي ومزة جبل. شاهدت المدينة التي تتفنّن بتعذيب من يعيش على هامشها، وتقدم الياسمين فقط لناس دون ناس. ومع رؤية طفل "ينكش" في حاوية القمامة، أقصد يغطس فيها، سقطت رغبتي برؤية دمشق.

تساءلت: ماذا كان لي في دمشق يوماً، إلا ذاك المشوار من باب توما إلى الحميدية؟ ماذا كان لي في دمشق إلا واجهات المحلات التي لم أدخلها يوماً، وجمال المقاهي التي نظرت إليها من بعيد؟ ماذا كان لي في دمشق إلا فكرتي عن دمشق، فكرة صنعتها بيدي، والأن أراها تسقط دون أي مقاومة مني؟

ربما، كان لي في دمشق الرفاق، ولا أثر لهم اليوم ولا رائحة، فقد طردتهم دمشق خارج أسوارها.

أي ورطة أوقعتني بها يا فيروز، أي ورطة وابنتي التي صفنت مطولاً وأنا أخيّرها بين زيارة بوظة بكداش، وبين الحديقة التي فيها كراس على شكل فطر، وبين متنزّه قريب أعرفه، لتختار بردى وهي تدندن بصوتها "أنا صوتي منك يا بردى"

"أنا صوتي منك يابردى"

أي ورطة أوقعتني بها يا فيروز، أي ورطة وابنتي التي صفنت مطولاً وأنا أخيّرها بين زيارة بوظة بكداش (كانت في قائمة أولوياتها بسبب مسلسل دنيا) وبين الحديقة التي فيها كراس على شكل فطر، وبين متنزّه قريب أعرفه، لتختار بردى وهي تدندن بصوتها "أنا صوتي منك يا بردى".

يا الله من أين سأجلب بردى لدمشق لتراه ابنتي؟

على جسر الرئيس، أشرت لها بيدي نحو قاسيون، ونحن نمشي باتجاه الحلبوني. ألقيت نظرة خاطفة على مجرى النهر، وعرضت عليها تناول المثلجات في طريقنا إلى المكتبة لأكفّر عن ذنبي بأني أضعت الطريق إلى بردى. من هناك حصلت على نسختي من مجموعة شعرية لصديقي الشاعر موفق الحجار. عنوانها "مدينةٌ مدينة حفرة في رأس".

ربما هذه هي الحبكات الدرامية التي تعجبني في الحياة، في انتظار امتلاء باص النقل الداخلي، طلبت منها أن تفتح بشكل عشوائي المجموعة، وليكتمل المشهد قرأت لها:

"تلك مدينة

انتهت وتحولت إلى صورة في هاتف قديم

صورة في ملف سري، في حاسوب ميت

صورة رأس، صورة في حفرة في رأس".

على هامش الزيارة

من ساحة باب توما إلى جرمانا صارت الرحلة مألوفة للطفلين، لكن المرة الأخيرة لقطع هذه المسافة، لم تكن ككل مرّة، والتذمّر تعدّى حدود الحرّ والازدحام، فعلى جانب الطريق بقيت عيون الطفلين معلقة، مدهوشة، غاضبة، وحزينة أيضاً. تراقب بداية لمأساة آخرين، مأساة لم يسألا عنها كثيراً، فربما قد فهما من وجهي، ووجوه من في الباص، أن طرح الأسئلة ليس بالسهولة المعتادة، وأن احتمال الحصول على إجابة مقنعة منا هي صفر، فاكتفيا بمراقبة ما يحدث: نساء وأطفال يركضون في الشارع مبتعدين عن شاحنة قُيّد فيها عدد من الشباب وغطيت وجوههم، بينما ينهال عليهم رجال مسلّحون بالضرب.

إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard