استحوذت واقعة مقتل حفيد الرسول، الحسين بن علي، في كربلاء، في العاشر من المحرم سنة 61هـ، على قدر هائل من الأهمية في العقل الشيعي الجمعي.
مع بداية شهر محرم من كلّ سنة، تجري استحضار تلك الذكرى، فتُحكى قصص بعض الشخصيات المركزية التي اضطلعت بدور مهم في تلك الملحمة. في هذا السياق، يُعدّ أخو الحسين، أبو الفضل العباس بن علي، واحداً من أهم تلك الشخصيات على الإطلاق. عُرف العباس بدوره المؤثر في أحداث المعركة، فتناقل الشيعة سيرته جيلاً بعد جيل.
قمر بني هاشم
تذكر المصادر الشيعية أن العباس ولد في سنة 26هـ، وأمه هي أُم البنين فاطمة بنت حزام الكلابية، والتي تزوج منها علي بن أبي طالب عقب وفاة فاطمة الزهراء.
لعب العباس دوراً رئيساً في أحداث معركة كربلاء في سنة 61هـ. بحسب المصادر الشيعية فإن العباس كان حامل راية الحسين في تلك المعركة
اشتهر العباس بكنيته أبي الفضل. كما كنته بعض المصادر الشيعية أيضًا بأبي القاسم. في سنة 37هـ، ظهر العباس على مسرح الأحداث التاريخية للمرة الأولى، عندما حضر مع أبيه في معركة صفّين ضد معاوية بن ابي سفيان وجيش الشام.
في 51هـ، أثبت العباس حضوره بشكل أكثر وضوحاً بالتزامن مع وفاة أخيه الحسن بن علي. تذكر بعض الروايات أنه -أي العباس- كان بصحبة الحسين أثناء محاولة دفن الحسن في بيت النبي. ولمّا رُشقت جنازة الحسن بالسهام من قِبل أعداء الهاشميين، طَلب العباس من الحسين الإذنَ بقتالهم، ولكن الحسين لم يعطه الإذن، وأمَرَه بالصبر.
في سياق آخر، أشارت بعض الآثار لتميز العباس منذ حداثة سنه في ميدان العلم؛ على سبيل المثال، ورد على لسان علي بن ابي طالب أنه قال: "إنّ ولَدي العباس زقّ العلمَ زقّاً". كذلك، تحدثت الروايات عن وسامته وجماله حتى اشتهر بلقب "قمر بني هاشم"، وصار هذا اللقب لصيقاً به في معظم المدونات الشيعية.
بطل الكتيبة، ساقي العطاشى، والطيّار
لعب العباس دوراً رئيساً في أحداث معركة كربلاء في سنة 61هـ. بحسب المصادر الشيعية فإن العباس كان حامل راية الحسين في تلك المعركة.
وبحسب التقليد الشيعي المتوارث، فإن العباس أظهر شجاعة فريدة من نوعها في يوم عاشوراء على وجه الخصوص. ظهر ذلك لما اشتدَّ العطش في معسكر الحسين. فخرج عندها العباس وقاتَلَ بعض الأمويين حتى وصل لشاطئ نهر الفرات. ولما عزم على شرب الماء تذكر عطش الحسين وأولاده، فرفض أن يشرب، وملأ قربة الماء وحملها على كتفه. ثم سار ناحية معسكر الهاشميين، وفي طريقه، أحاط به الأعداء من كلّ جانب ومزقوا القربة. كما أصابوه بعدة أسهم، وقطعوا يديه، قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.
تذكر بعض الروايات أن علي بن أبي طالب كان يعرف المصير الدامي لابنه قبل كربلاء بسنين عديدة، وأنه أخبر أم البنين ذات مرة بهذا المصير "فأجهشت أمّ البنين في البكاء، وشاركنها من كنّ معها من النساء لوعتها وحزنها".
يؤكد التقليد الشيعي المتوارث أن شجاعة العباس يوم المعركة قد لاقت إعجاب زعماء المعسكر الأموي؛ على سبيل المثال، قيل إن الخليفة الأموي يزيد بن معاوية لما رأى لواء العلويين بين يديه في قصر الخلافة بدمشق، سأل عن صاحبه، ولمّا أخبروه أنه "العباس بن علي"، ردّ قائلاً مظهراً إعجابه: "أبيت اللّعنَ عباس… هكذا يُحمل اللواء وإلا فلا".
بحسب التقليد الشيعي المتوارث، فإن العباس أظهر شجاعة فريدة من نوعها في يوم عاشوراء على وجه الخصوص.
من جهة أخرى، لاقت شجاعة العباس المدح والثناء من قِبل بعض أئمة الشيعة الإمامية. في هذا السياق، روي عن الإمام جعفر الصادق قوله: "كان عمنا العباس نافذ البصيرة، صلب الإيمان له منزلة عند الله يغبطه بها جميع الشهداء". فيما نُقل عن الإمام علي زين العابدين أنه قال "إن الله أبدل العباس بجناحين يطير بهما في الجنة عوضاً عن قطع يديه في كربلاء". ومن هنا، عُرف العباس بلقب "الطيّار"، وهو اللقب الذي لم يُعرف به قبله سوى عمه جعفر بن أبي طالب الذي قُتل في معركة مؤتة في السنة الثامنة من الهجرة.
كذلك، ظهرت مكانة العباس في الوجدان الشيعي في بعض أدبيات هذا المذهب؛ من ذلك الزيارات التي تُقرأ في مراقد الأئمة؛ جاء في آداب زيارة مرقد العباس المنسوبة إلى الإمام جعفر الصادق: "أشهد لقد نصحت لله ولرسوله ولأخيك، فنعم الأخ المواسي، فلعن الله أمة قتلتك، ولعن الله أمة ظلمتك، ولعن الله أمة استحلت منك المحارم، وانتهكت حرمة الإسلام، فنعم الصابر المجاهد المحامي الناصر، والأخ الدافع عن أخيه، المجيب إلى طاعة ربه، الراغب فيما زهد فيه غيره من الثواب الجزيل والثناء الجميل، فألحقَكَ الله بدرجة آبائك في دار النعيم"، وذلك بحسب ما يذكر محمد جعفر مشهدي في كتابه "المزار الكبير".
باب الحوائج
يشتهر العباس بين الشيعة بالعديد من الكرامات والأفعال الخارقة للطبيعة. جمع الباحث فارس فقيه الكثيرَ من تلك الخوارق في كتابه "كرامات أبي الفضل العباس"، فذكر منها شفاء المرضى، وعلاج العقم، والعثور على المفقودات، وزيادة الرّزق، وقضاء الحوائج.
كذلك تحدث عن بعض الكرامات الغريبة نوعاً ما، ومنها أن صورة العباس ظهرت ذات يوم تحت الزيارة المكتوبة على باب القبلة داخل الضريح! وأن رجلاً اتُّهم بالزنا، فأنكر وأعلن قبوله للقسم على ذلك في ضريح العباس "فجاء إلى كربلاء... ودخلَ حرمَ العباس وقبل أن يرفع يده ليؤدي القسمَ جاءته ضرباتٌ وصدمات شديدة وعنيفة من جهات مختلفة أفقدته صوابه، حيث أخذ الدم ينزف من جسمه وتمزقت ثيابه، ثم أخذ يصرخ ويستغيث بكلمات وألفاظ غير مفهومة، وقد أُخرج إلى خارج الروضة".
أيضاً قيل إن كرامات العباس دافعت عن كربلاء في بعض الفترات التاريخية الحرجة، ومنها أن الجيش العثماني لما قام بغزوِ كربلاء، وقَتَل المئات من أهلها في أواسط القرن التاسع عشر الميلادي. فإن عدد من ألسِنةِ النّار خرجت من صحن مرقد أبي الفضل وضربت الجند العثمانيين، فاضطُرّ الجيش عندها للانسحاب.
من النقاط الجديرة بالملاحظة، والتي تبين تأثير أبي الفضل في الفلكلور العراقي بشكل عام، ما ذكره فارس فقيه في كتابه من أن كرامات العباس نفعت العديد من غير المسلمين، فوصل أثرها للمسيحي، واليهودي، والهندوسي، والشيوعي.
الابن الروحي للزهراء وكفيل زينب
برغم أن العباس أخ غير شقيق للحسن والحسين، فإننا نجد أن المُتخيل الشيعي قد حاول أن يؤكد على قوة علاقته بهما بأشكال متعددة؛ من أهم تلك الأشكال ربطه بفاطمة الزهراء، وابنتها زينب بنت علي.
تحدثت العديد من الروايات عن العلاقة القوية التي انعقدت أواصرُها بين زينب وأخيها الصغير منذ اللحظات الأولى لميلاده. يحكي محمد إبراهيم الكلباسي النجفي في كتابه "الخصائص العباسية" أن زينب قالت لأبيها: "ما لي أرى قلبي مُتعلِّقاً بهذا الوليدِ أشدَّ التعلّق، ونفسي مُنشدّةً إليهِ أكبرَ الانشداد؟". فأجابَها أبوها "كيفَ لا تكونينَ كذلكَ وهوَ كفيلُك وحاميك؟". المعنى ذاته يظهر في وصف الساعات الأخيرة من حياة علي بن أبي طالب، بحسب ما يذكر محمد علي الناصري في كتابه "النص الجلي في مولد العباسِ بن علي" فأن علي بن أبي طالب جمع أولاده حوله وقت احتضاره، وأمسك بيد العباس ويد زينب، وقال لأبي الفضل: "بُنيَّ، هذهِ وديعةٌ منّي إليك". بموجب تلك الوصية، اعتُبر العباس كفيلاً لزينب، لدرجة انه اشتهر في الأوساط الشيعية بلقب الكفيل.
على الجانب الأخر، حاولت بعض الروايات أن ترسخ علاقة البنوة الروحية التي جمعت العباس بفاطمة الزهراء. من تلك الروايات ما ذكره محمّد مهدي الحائري المازَندَراني في كتابه "معالي السبطين". عندما ذكر أن واحداً من أهل كربلاء كان يزور الحسين في كلّ يومٍ وليلة مرّتين أو ثلاث مرات ولا يزور أبا الفضل العباس إلّا بعد مضي عشرة أيام من زيارته، فرأى في المنام فاطمة الزهراء، فسلّم عليها فأعرضت عنه، فلما سألها عن السبب، قالت: "لإعراضك عن زيارة ولدي العباس".
يظهر ملمح البنوة الروحية ممزوجاً بمظلومية العباس في رواية أخرى شهيرة أوردها محسن الأمين في كتابه "أعيان الشيعة". بحسب تلك الرواية فأن فاطمة الزّهراء ستأتي يوم القيامة، وتخرج من تحت عباءتها كفي أبي الفضل العبّاس المقطوعين يوم كربلاء، وتقول: "يا عدل، يا حكيم، احكمْ بيني وبين من قطع هذين الكفين".
في الفلكلور العراقي
تسبب المجهود العظيم الذي قام به العباس يوم كربلاء في سبيل الدفاع عن أخيه، في إقحامه في دائرة الفلكلور الشعبي العراقي. ولا سيما في ميادين الشجاعة والبطولة والتضحية والدفاع عن الحق. في هذا السياق، درج العراقيون على الإشارة للعباس باسم "أبو راس الحار" (ذي الرأس الحار)، وهو الاسم الذي فسّره جلال الدين الحنفي في كتابه "معجم اللغة العامية البغدادية"، فقال إنه نَعتٌ يُقال للشخص الغضوب، ويرمز لحمية العباس وقوّته في طلب الحق.
في السياق ذاته، يردد العراقيون جملة "دير بالك لايجيك أبو الراس الحار" إذا اختلف اثنان من الشيعة أو أرادوا التعاهد على أمر ما. عندها يتم استدعاء رمزية العباس لأخذ المواثيق بين المتعاهدين، ولاستحضار اللعنات ضدّ من ينكث عهده.
حضرت رمزية العباس أيضاً في ميادين العمل العسكري والمسلح. يتضح ذلك في تسمية "لواء أبو الفضل العباس" وهو ميليشيا شيعية مسلحة تابعة لإيران، تأسست في العراق، واشتهرت بمشاركتها في الحرب الدائرة في سوريا، بعد أن قاتلت إلى جوار نظام بشار الأسد والحرس الثوري الإيراني.
مثل هذه الرمزيات توجد في إيران أيضاً، فهناك الكثير من الخوارق تنسب إلى العباس، ويسمي الإيرانيون أبناءهم "العباس" و"أبو الفضل"، وحين يحدث أمر مروّع تجد كثيراً من الإيرانيين يهتفون فجأة "يا حسين" أو "يا أبا الفضل"، حتى إن كانوا غير متدينين!
المرقد العباسي
تذكر الروايات الشيعية أن الإمام الحسين لم يحمل جثمان العباس كما اعتاد أن يفعل مع باقي جثامين أنصاره الذين قُتلوا في المعركة. وأنه -أي الحسين- ترك الجثمان في موقعه لكثرة ما فيه من الإصابات والجروح، وحتى لا تتساقط أجزاءه عند الحمل.
يشتهر العباس بين الشيعة بالعديد من الكرامات والأفعال الخارقة للطبيعة، منها شفاء المرضى، وعلاج العقم، والعثور على المفقودات، وزيادة الرّزق، وقضاء الحوائج
بشكل عام، لا نعرف الكثير عن بدايات تعمير ضريح العباس، وبحسب ما يذكر عبد الأمير القريشي في كتابه "تأريخ العتبة العباسية المقدسة" فإن الإمام علي زين العابدين ومعاونيه من عشيرة بني أسد قاموا بدفنِ جثمان العباس بعد ثلاثة أيام من مقتله. وبنوا على قبره سقيفة صغيرة الحجم.
في القرن الثالث الهجري، تم تعمير مرقد العباس على يد بعض الخلفاء العباسيين، ومنهم المنتصر، والمعتضد. أما في سنة 369هـ، فقد أُعيد بناء مرقد العباس، وأُوقفت مساحات كافية من الأراضي لاستثمارها لصالح إنارة الحرم الخاص به، وذلك عقب زيارة عضد الدولة بن ركن الدولة البويهي لكربلاء.
في بدايات القرن الخامس الهجري، قام الوزير الحسن بن الفضل بن سهلان الرامهرمزي بإعمار المرقد وتطويره. وفي سنة 707هـ، جرى تعمير المرقد من قِبل السلطان المغولي أولجايتو محمد خُدابَنده.
أما القرن العاشر الهجري، فقد شهد وصول المرقد العباسي لأوج عظمته بعدما تعاهدته أيدي الصفويين والعثمانيين بالرعاية والتجميل. وفي تلك الفترة تم تزيين القبة بالقاشاني.
حديثاً، وفي سنة 1955 تحديداً، تمّ تغطية القبة من الخارج بطابوق نحاسي مغلّف بشرائح الذهب الخالص. في سنة 2010، تم تذهيب المئذنتين المجاورتين للقبة، واستُخدم في ذلك ما يقرب من مائة وثمانية كيلوغرامات من الذهب الخالص. حالياً، تبلغ مساحة حرم العباس ما يقارب 11000 متر مربع، يقع إلى الشمال الشرقي من حرم الحسين، وتتم إدارته من قِبل العتبة الحسينية.
ومن الجدير بالذكر، أن هناك مزاراً مشهوراً لأبي الفضل العباس في بلدة "النبي شيت" في منطقة البقاع بلبنان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه