جائع

 جائع "عامودا" أمام دمشق "الوليمة"

مدونة نحن والمهاجرون العرب

السبت 8 نوفمبر 202510 دقائق للقراءة

المدينة ثقيلة وأنا ضعيف إزاء كل ما هو ثقيل. وبرغم أن ثقلها لا يمسّني، أشعر بأنني ضئيل وهشّ أمام ثقلها إلى الحدّ الذي يمكن عنده لهذا الثقل أن يسحقني ساعة يشاء.

يبدو الواحد منا عاشقاً للمدن وأسيراً لها؛ يرغب ويخاف، ويتقدم ويتراجع، فهل لهذا تكون المدن أرجوحة النفس بين معناها ومسعاها، وبين واجباتها الملزمة وخيالها الهارب من أي إلزام حاصر؟ 

عامودا... بين حنين القرية وجنوح مدينة 

لم تكن قريةً. ولم تكن مدينةً. كانت الحركة غير المتوقفة أبداً بين حنين القرية وتقاليدها، وجنوح المدينة الساعية إلى التجربة والتوسع. وإذا كان الحنين على معنى من معاني الكسل، فغالباً يميل الجنوح إلى معاني التمرد والنشاط والطيش. وهأنذا الطائش أجرّب وأتراجع، ثم أجرّب من جديد. أجرّب بجسدي وحركتي وملابسي، لا بكلماتي فحسب.

عندما وصلت إلى برلين صيف 2018، شعرت أنها مدينة رحبة ومرحّبة بالغريب والمختلف. مدينة حكيمة؛ هكذا قلت في سرّي وأنا أتنقل داخلها وأتعرف ببطء على معالمها وتاريخها الشرقي الغربي. مع ذلك، أدركت بعد ثماني سنوات من الإقامة فيها، أنّ انطباعي السابق لم يكن في محله

أجرّب فيصير قلبي المدينة داخل القرية، وأكون الماضي والحركة القافزة بعيداً عنه. لكن الناس الذين بلا كلمات عربية كانوا يغنّون وينشدون باللغة الكردية، وكانت الطبيعة المحور المقدس، وكان الحب الإباحة الأليفة من دون صخب، ومن دون تظاهر بالجرأة والتمرد. كان التمرد قد تحقق قبل في الغناء، فلماذا العناء عناء بحثي عن الجديد المختلف؟ 

برلين... انطباع في غير محله 

عندما وصلت إلى برلين صيف 2018، وكان أطول صيف مشمس منذ سنوات عديدة، شعرت أنها مدينة رحبة ومرحّبة بالغريب والمختلف. مدينة حكيمة؛ هكذا قلت في سرّي وأنا أتنقل داخلها وأتعرف ببطء على معالمها وتاريخها الشرقي الغربي. مع ذلك، أدركت بعد ثماني سنوات من الإقامة فيها، أنّ انطباعي السابق لم يكن في محله، وإنما كان وليد صورة كوّنتها عن برلين على نحو اعتباطي. كانت صورة ناشئة عن رغبة، عن وهم مُشتهى ليكون حقيقةً، وعن مثال لم تكن له قاعدة ولا أرض سوى أرض الخيال وقاعدة الرغبة. 

والآن، تدفعني هذه المقارنة بين برلين صيف 2018 وبرلين خريف 2025، وفيها ما فيها من تفاوت مصدره الوهم وقلة المعرفة وضعف التجربة، تدفعني للعودة إلى الوراء، إلى المدن الخلفية؛ بيروت الحلم واللعب واللعنة، وقبلها دمشق السمّ والياسمين والكابوس. 

دمشق... دمٌ وشق

لا أحب اسم دمشق. لفظه صعب عسير. ألفظه كما لو أنني أريد التخلص منه. اسم ثقيل على الجوف، على المعدة التي لا تستسيغه فتستفرغه. إن حاولت مرغماً نطقه، لا يبان منه سوى الحرفين الأوّلين: "دمٌ"، وسرعان ما تتغطى المدينة الشام به، ولا يبقى من دمشق سوى الـ"شق" الشفيف الشقيق الجُحر الذي لا ملاذ للخائن إلّاه. 

كنت جائع عامودا الريف، أمام العاصمة الوليمة، والتي أدركتُ متأخراً معنى قول الشاعر محمد الماغوط عنها وهو يقارنها ببيروت: "بيروت بتعطي، الشام بتاخد وما بتعطي".

هأنذا في الشقّ، في ملح الجرح اليتيم من الاسم الأب المدمى الميت. يبدو الأمر قديماً طواه الزمن المتراكم تراكم أنقاض بنايات مدمرة، ومن تحت تلك الأنقاض تشعّ صورة المراهق الذي ما إن استقل أول سيارة أجرة في الشام بعد خروجه من أحد فنادقها، عصر أحد أيام الصيف، حتى أحسّ بما يحسّ به الحالم المندفع من جمال غير موجود. لكنّ مزيج الحلم والاندفاع جعل من دمشق مدينة المستقبل، الجامعة والأدب والسهر والتهام الزمن عقداً بعد عقد. 

كنت جائع عامودا الريف، أمام العاصمة الوليمة، والتي أدركتُ متأخراً معنى قول الشاعر محمد الماغوط عنها وهو يقارنها ببيروت: "بيروت بتعطي، الشام بتاخد وما بتعطي".

والآن لم أعد المراهق. تخلّصت من سذاجة فتى الريف الجائع إلى كبر المدن وتعدد أنماط حياتها. بلغت سنّ النضج، وبات بإمكاني العيش وحدي والذهاب صباحاً بسرور وحماسة إلى جامعة دمشق. لكنني في الطريق اصطدمت بوجبة الفول والحمص الثقيلة، ثم الشاي الثقيل الحلو، فسائق سيارة الأجرة ذي الوجه الثقيل والدم الثقيل، وكان ذلك أصعب من كل ما هو صعب. ثم اصطدمت بالهواء الثقيل. 

ما من أحد أخبرني من قبل بأنّ هواء دمشق ثقيل، لا تتحمله الأنفاس، وتعجبت كيف بمقدور ملايين من ساكنيها البقاء أحياء مع كل هذا الثقل الرهيب، ثقل لا يُتعب الأنفاس فحسب، بل يعدم الهواء نفسه، فيتوهم سكان العاصمة وجود الهواء ما بين أنفاسهم، فيما هم يتنفسون اللاهواء واللاحياة وذعر اللاشيء، وهو نفسه ذعر العدم ورعب اللانجاة. 

والآن أيها الطالب الساذج الصادق المذعور، بعدما غدوت كهلاً وحملتك أقدار المهانة إلى بيروت ومنها إلى برلين، ماذا بقي لك من أهواء اللاهواء الذي تنفسته عشرين سنةً من عمر دمشق وعمرك المتلف؟ 

تنفست الذكرى، وهي طي قلبي الآن. والذكرى ربما هي تلك الحياة الوحيدة المتاحة من تلك الأيام. أقصد أنّ الذكرى الآن هي هواء ذلك اللاهواء، والذكرى هي حياة تلك اللاحياة، وهي ألق القبر وشعاع العتمة. والجامعة، ماذا بقي منها؟ 

بقيت الوحدة، رحابة العزلة، التجريد القانوني، دقة استخدام المفردات، الالتزام الأعمى بالتفسير الواحد، وحل الوظائف المطلوبة. ثم ماذا؟ النجاح بلا شكّ. لكن مهلاً، بقي أيضاً التقليد، النسخ واللصق، وبقي الببغاء، الطفل الحافظ الدرس عن ظهر قلب. الببغاء السعيد سعادة موظف حكومي حصل على قرض زواج وتعويض وفاة في آن واحد. 

لكن ما تقوله وتتذكره لا يصدّق، لأنه غير معقول، ولأنه ببساطة متناقض. تماماً، هو متناقض لكنه ينقل حرارة الصدق لا العقل البارد. ينقل التجربة الملموسة لا التجريد الأعمى. ينقل المرآة لا الصورة. 

لا تحكِ يا علي، تقول زوجتي عندما نكون في سيارة الأجرة بين الأشرفية والبسطا التحتا ثم زقاق البلاط، حيث كان منزل فيروز القديم. "لا تتكلم يا علي، الشوفير رح يعرف إنّك سوري من أول كلمة، ورح يقلّك الشام أرخص من بيروت، إيمتى راجعين ع بلدكم؟ ليش دمّرتوا بلدكم؟"

في الطريق إلى كلية الحقوق في دمشق، وبعد تجاوز ما كان يسمّى جسر الرئيس -الذي قد يصير اسمه يوماً جسر الرسول- وعلى مقربة من بائع الدهانات والكتب المستعملة والدخان المهرّب وصور الممثلة إغراء، وابتسامة سلطان الطرب جورج وسوف، وفي الجهة المقابلة، يرقد مبنى نقابة المعلمين ثم مشفى الأمراض الجلدية، وقبلهما مشفى التوليد وأسفل ما كان كافيتريا الكلية. وهناك في الشارع ذاك في التقاطع الرهيب، على الزاوية القريبة من الجسر جهة كلية الحقوق، هناك أنا، القادم السعيد المتلهف إلى محاضرات القانون الدستوري. هناك في الصباح، انهال أربعة رجال ضرباً مبرحاً على شاب لم أرَ منه سوى ظهره المنحنى وركبتَيه المرتخيتين ورأسه المائل إلى أسفل حيث خبّأ روحه المهانة داخل عينيه المغلقتين على ألم الرفس والشتم واللكم. هناك كان الصباح الجليّ الواضح، لكن المهمل الهامشي الضعيف التافه المنسي، وهناك كانت القوانين تستفرغ أحشاءها فلا يبقى منها سوى ما رأته العين من أرقام سوداء على نمرة سيارة من سيارات المخابرات.

لا أحد يلعب في برلين

 لكن مهلاً، في برلين حاجز آخر، أنت مرئي غير مرئي. أنت طيف. من لا يتكلم لا يَرى، ومن لا يتكلم لا يُرى. ما من لاجئ تماماً تكلّم مثلما يحب ويريد أن يتكلم. هناك اللاجئ الواجب، اللاجئ الوظيفة، واللاجئ التيه، لكننا بينهما نخسر اللاجئ اللاعب. ما من أحد يلعب في برلين المتاهة. اللغة عمل، لكننا لا نعمل وفق ما نحب أن نتكلم. لن يتكلم لاجئ ما لم يدخل اللعب في الكلام، ويغير قواعد العمل مثلما يكسر قواعد الصيغ الكلامية. لكننا قدماء ضعفاء إزاء الخاص الحاضر البرليني. نحن ماضي دمشق وعامودا وبيروت. نحن نسخ تقليدية. حاجز اللغة يلعب بنا، ويحاصرنا، فنتحدث كما لو كنا نستعير خجل الطفل. نصغر ونتضاءل ونودّ لو كنا غير مرئيين كي تكفّ اللغة عن سحقنا. نختبئ، ويتحول الملجأ إلى بيت، لكن لا ملاذ ولا مفر سوى الغناء العناء الذي يَعذُبُ داخل لساننا، يعذُبُ ويعذّب. غناءٌ عناءٌ. أيها المعنى الحرّ، اطحن حجر القلب، حجر الحيرة، وامنح الشبح وجهاً.

"ليش دمّرتوا بلدكم؟"

تعود إلى بيروت نحيلاً معافى من المرض. تدخل أوّل ما تدخل المنزل الرحب من شارع الأرمن نزلة محطة البنزين، ضيفاً على صديقَين. تتلقى العناية والترحاب. وفي تلك الليلة تكتب مقارنات عامودا ببيروت، مارّاً بالحسكة والدير وبادية الرقة وتدمر، وصولاً إلى السلمية فحمص وطرابلس فبيروت، فالزجاج المثير والبحر الصغير والرطوبة الثقيلة والجرح والخجل والندم والضعف والهوان وأحلام الشباب الخائب خيبةً شاملةً كليةً. لا تبقى منك سوى عين ترى، ولسان يتلعثم، وأصدقاء طيبين يعيدون وضع قلبك موضعه المناسب فتصحو وتنام كما لو كنت في غيبوبة لا تعرف منها الصباح من المساء، أو الخرف من العقل، فتصمت وترتاح. النحولة تمنحك خفّة الحركة، لكن الصيف رطب ثقيل والدعايات كثيرة والناس نماذج مسلّط بعضها ضد الآخر. 

هناك اللاجئ الواجب، اللاجئ الوظيفة، واللاجئ التيه، لكننا بينهما نخسر اللاجئ اللاعب. ما من أحد يلعب في برلين المتاهة.

لا تحكِ يا علي، تقول زوجتي عندما نكون في سيارة الأجرة بين الأشرفية والبسطا التحتا ثم زقاق البلاط، حيث كان منزل فيروز القديم. "لا تتكلم يا علي، الشوفير رح يعرف إنّك سوري من أول كلمة، ورح يقلّك الشام أرخص من بيروت، إيمتى راجعين ع بلدكم؟ ليش دمّرتوا بلدكم؟"، تستطرد. 

"يا رشا، يا رستم، يا جوزيف، يا حسين، ويا علي، رح قلّو أنا ماني علي، ماني سوري، أنا كردية، اسمي عليا، عهدير البوسطة يا رشا، يا عليا، وتذكرت عيونك ويخرب بيت عيونك... وليش ما يحطّ غنّية لزياد بدل ملحم بركات وبدل ماجده الرومي، يا رشا رح قلّو أنا بحب طوني حنّا مشان ما نتخانق، لكن راح زياد، وما لحقنا البوسطة، وخسرنا عليا، وضلّ علي اللي هو أنا، ولازم يرجع ع بلدو. بيقول الشوفير: إنتو مش بس مليون بلبنان، إنتو السوريين ملايين عم تاخدوا مساعداتكم من الأمم المتحدة بالدولار، وما عاد عنّا كهربا ولا مي، أيمتى راجعين ع بلدكم؟ ليش خرّبتوا سوريا؟"... 

والآن سيتكلم اللاأحد، ولن ينسى. لن يغفر أبداً أبداً. لكن الأصدقاء في بيروت "ما قصّروا، إيه والله ما قصّروا". الأصدقاء هم القصور في برلين وبيروت. هم أجمل المنازل لمن غدا بلا منزل. 

"شوفيرية التكاسي في الشام مخابرات، وشوفيرية التكاسي في بيروت حرامية بيبزقّوا ع النسوان بالسرّ وبيقولو عنن حرمة، بس بالوج بيقولوا أهلين مدام... آه يا مدام. مين قال آه يا مدام ورفع المسدس ع الكل؟ وشوفيرية التكاسي في برلين أتراك، والحلاقين عرب وأكراد. وأغلبن بشتغل أسود ما بيدفعوا ضرايب ولا شي وبيصير الواحد يتمنى يكون حلّاق بالأسود و"جوب سنتر" و"برغر كيلد بالأبيض" وعندون بيتين واحد بالأبيض والتاني أسود، وبيقول ليش ألمانيا بدها ترجّعنا ع سوريا ‘الخرا‘".

"لا لا علي، هنن فقرا". 

فقراء جلد المدن الموبوء. حفاة الشوارع. من وباء إلى آخر يتقدم اللاجئ الهارب السعيد. يسير كما لو بجناحين خفيفين إلى مار مخايل والجميزة. يسير إلى الدورة وبرج حمود. إلى سمعان خوام ورفيق مجذوب. 

يهبه الهرب الفردوس والمتاهة في آن، ويقول في نفسه وسط خليط الأمزجة والأمراض: وصلت أخيراً إلى أعلى البرج، إلى البركة السماوية! 



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

الإعلام الموجّه والرسمي لا ينقل الواقع كما هو. 

رصيف22 يعمل كي لا تُحرَّف السردية.


Website by WhiteBeard
Popup Image