في السودان… حرب تُباركها آلهة الخوارزميات

في السودان… حرب تُباركها آلهة الخوارزميات

رأي نحن والحقوق الأساسية

الجمعة 7 نوفمبر 20255 دقائق للقراءة

سقطت الفاشر وبارا كما سقطت من قبل الجزيرة والخرطوم بعد انسحابات الجيش السوداني، التي خلّفت وراءها ضحايا أبرياء وواقعاً مريراً. وكما تعودنا منذ بداية الحرب بين "الدعم السريع" والجيش منتصف نيسان/ أبريل 2023، احتل واقعنا الافتراضي سيلٌ من فيديوهات انتقام الجنجويد من المواطنين الذين يقولون إنهم يدافعون عنهم.

كسودانيين، يختلط فضاؤنا الافتراضي بواقعنا، فنُقتَل بكل طلقةٍ أطلقها الجنجويد على متوسّلٍ أعزل، ونتحسّس خدّنا مع كل صفعةٍ من جنجويديٍّ أشعث لأعزل أغبر، ينتظر وننتظر معه عبر شاشاتنا مصيره المحتوم قبل نهاية الفيديو بثوانٍ. نتنفَّس بصعوبة ونحن نشاهد فيديوهات "توثيقية" و"تشجيعية" من زوايا عدة لـ"تاتشر جنجويد" - أي ناقلة جنود تابعة للجنجويد- يدعس على صدر شابٍ وهو حي.

مع دخول الذكاء الاصطناعي اللعبة، تضاعفت فوضى الحقيقة. أحياناً يُستخدم بحسن نية للتعبير عن المأساة، سود يقتلون أي سود… فتستخدم هذه الأعمال للتشكيك في الواقع. وفي المحصلة، تبقى مدن مثل الفاشر وبارا ساحاتٍ للدفن، وقاعات انتظارٍ حتى الانتقال إلى "الترند القادم"

من بشاعة الفيديوهات وهدوء الوضع نسبياً فى فلسطين تاركاً فراغاً تملأه فيديوهات يصوِّرها الجنجويد لانتهاكاتهم تماماً كما فعل الصهاينة، أصبحت الفاشر "ترند" ودنا كل "إنفلونسر" من كل حدب وقطب يدين ويشجب ويصرح بمعلومات مبسطة عن حرب أعمق وأعقد من شرح "ريل" مدته دقائق معدودة، وفى معظم الأحيان مرفقة بصور وفيديوهات مولّدة عبر ذكاء اصطناعي أو حقيقي يقتل فيها سود أي سود والسلام في خليط غريب بين العنصرية والتضامن.

وفي أرض هذة المعركة الافتراضية، تسيطر هذه السرديات على المنصات وغروبات الواتساب في نقاشاتٍ بيزنطية مستمرة، بوابلٍ من الحجج والملامة بين المؤيد والمستنكر لأفعال الجنجويد — من التهجير والسرقة وإعادة الاستيطان إلى ما يرقى إلى الإبادة، بحسب تقارير مستقلة.

تُقابَل تلك الجرائم بمقارناتٍ مع فظائع ارتكبها الجيش السوداني أو المليشيات التابعة له عند استعادته بعض المناطق وعودة السكان. هناك، يُحكم الجيش على كل من يُشتبه في تعاونه مع الجنجويد — أحياناً فقط لانتمائه القبلي — بالموت في إعداماتٍ ميدانية، وسط تصفيق مواطنين فقدوا كل شيء في طرفة عين على أيدي الجنجويد أحياء، وها هم اليوم يفقدون إنسانيتهم على جثة جنجويدي ميت.

بعد ما يناهز الثلاث سنواتٍ من الحرب والمعارك على ساحات المنصات، لم أشهد مؤيداً يستنكر، ولا مستنكراً يؤيد. الكل ثابتٌ على مبدأ لم يعد يتذكره، والخوارزميات الموجّهة له — بكل ما تحمله من قبح الحاضر وظلم التاريخ — تؤكد له أنه على حق.

وهناك أيضاً الغروبات الخاصة، تلك التي ينسحب إليها المتعاركون حيث اليوتوبيا الرقمية التي تؤكد رأيه، وتسلِّحهُ بدلائل ومفردات ونقاط جديدة للحوار ليعود إلى ساحة المعركة الافتراضية كلما جد جديد ليتسنى له الدفاع عن انتهاكات فريقه.

هذا الواقع الجديد ليس بحاجة إلى وزير إعلام أو صحافة حرة أو رقابة على المنصات، بل إلى إدارة محتوى وما يكفي من المال وتقارب الأيديولوجيات لصنع تحالفٍ في غرفٍ مغلقة بين حفنةٍ من الممولين ذوي المواقف الجيوسياسية الواضحة، لاستغلال هذا المحتوى أو محوه.

الفائز في هذه التحالفات يستطيع شراءَ مهرّجين، محلّيين أو أجانب، لتمرير سردياتٍ مدروسة وصوغ "حقائق" تكرّرها آلاف الحسابات الروبوتية.

هذه الصفقة قادرة على تغيير ميزان الحرب على الأرض، وتحويل مجال توصية المحتوى إلى غرفة إدارةٍ للحرب. ومنها، تنتشر لتُستعمل كدليلٍ أمام جماعات الضغط في الكونغرس الأمريكي، أو تصل إلى غروبات العائلة ومواقع صحفٍ مزيفة صُنعت لتمنح الخبر صدقية.

ومع دخول الذكاء الاصطناعي اللعبة، تضاعفت فوضى الحقيقة. ففي بعض الأحيان يُستخدم أحياناً من مصممين أو متعاطفين بحسن نية للتعبير عن المأساة، فتصبح أعمالهم لاحقاً مادة تُحرَّف وتروّج على أنها حقيقة ومن ثم تُستعمل لنكران الواقع ككل والتشكيك فيه. ويُستخدم أحياناً من الفريق نفسه الذي ارتكب الفظائع، ليصنع صوراً أكثر صدمةً وانتشاراً، ثم يكشف زيفها عمداً ليقدّمها ذريعةً للتشكيك في كل شيء ومن ثم تُستعمل للإنكار والتشكيك في ما يحدث في الواقع من فظائع.

النتيجة؟ جمهورٌ لا يصدق، فلا يشارك، أو يشارك كلما يعبّر عن آرائه بشكل متطرف لا تراجع فيه.

لكنّ الحصيلة واحدة: لا تغيير في السياسات، ولا مساءلة حقيقية للمجرمين. وعلى أرض الواقع، تبقى مدن مثل الفاشر وبارا ساحاتٍ للدفن، وقاعات انتظارٍ حتى الانتقال إلى "الترند القادم".

من المهم أن نعرف موقعنا في جغرافيا الحرب الجديدة التي تربح من سرقة انتباهنا والسيطرة على وعينا وترسم حدود المعركة بخوارزمياتٍ لا تعرف شيئاً عن العدالة، وبأن الضحايا يستحقون أكثر من أن يُصبحوا مجرّد ترند

هذا واقعنا من فلسطين إلى السودان. من المهم أن نعرف موقعنا في جغرافيا الحرب الجديدة — وهي جغرافيا تتحكّم فيها الرأسمالية - تربح من سرقة انتباهنا والسيطرة على وعينا وترسم حدود المعركة بخوارزمياتٍ لا تعرف شيئاً عن العدالة.

لهذا، تبدأ المقاومة الآن من أرض الواقع: من حماية الصحافيين الذين ما زالوا يغامرون للوصول إلى الحقيقة، ومن أرشفة الشهادات قبل أن تُمحى، ومن مساءلة صانعي التكنولوجيا ومن يمولونهم. تبدأ من الضغط ومقاطعة المنصات التي تمرّر الأجندات، ومن بناء ثقافةٍ رقمية.

لكن يظل الحل الأمثل، في اعتقادي، هو بناء منصاتنا الرقمية المستقلة غير الربحية التي تحترم حقوق الإنسان وحرية الصحافة لأن الضحايا، في النهاية، يستحقون أكثر من أن يُصبحوا مجرّد ترند.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منذ البداية، لم نخاطب جمهوراً... بل شاركنا الناس صوتهم.

رصيف22 لم يكن يوماً مشروع مؤسسة، بل مشروع علاقة.

اليوم، ونحن نواجه تحديات أكبر، نطلب منكم ما لم نتوقف عن الإيمان به: الشراكة.

Website by WhiteBeard
Popup Image