شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
ليست للحضّ على القتال... تفسيرات نبيلة وسياقات مهدورة لـ

ليست للحضّ على القتال... تفسيرات نبيلة وسياقات مهدورة لـ"وأعدُّوا لهم"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والخطاب الديني

الأحد 2 فبراير 202510:45 ص

تندرج هذه المادة ضمن ملف "هنا نفتح القرآن معاً، ويشعّ الحبّ"، في رصيف22.


معناها الشائع هو الحض على القتال والعنف، برغم أن سياقاتها ومعانيها تفيد الاستقرار وتعزز استدامة السلام؛ هذا هو الوجه الآخر المهدور وغير المشهور للآية "وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون" ("الأنفال"، 60).

واستثماراً لمعناها الشائع، وضعت جماعة الإخوان المسلمين في شعارها كلمة "وأعدُّوا" متوسطةً سيفين، استبقاءً لحرص الجماعة على المواجهة والجهاد كمبدأ أصيل لديها، بل ذهب بعض الجهاديين ورموز الجماعات الإسلامية إلى التفاخر بتهمة "الإرهاب" ظناً منهم بأنهم بهذه الصفة حققوا مراد الله في قوله "ترهبون به عدو الله".

هكذا سلوكيات تفيد بأن جماعات الإسلام السياسي لديها تسليم كامل بأن الآية لا يُفهم معناها إلا في إطار المواجهة والعداء المستمر المدفوع بتوجيه رباني، وهو توظيف للآيات دأبت على استغلاله أيضاً فرق ومذاهب كلامية عبر التاريخ.

معناها الشائع هو الحض على القتال والعنف، برغم أن سياقاتها ومعانيها تفيد الاستقرار وتعزز استدامة السلام. هذا هو الوجه الآخر المهدور وغير المشهور للآية "وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة"

في كتابه "مذاهب التفسير الإسلامي"، ناقش المستشرق المجري إجناتس جولدتسهير، إلى أي مدى نجحت الفرق والمذاهب في إثبات مواقفها من خلال آيات القرآن الكريم، ووفقاً لما ذكره فإنه "يصدق على القرآن ما قاله في الإنجيل العالم اللاهوتي التابع للكنيسة الحديثة بيتر فيرنفلس: كل امرئ يطلب عقائده في هذا الكتاب المقدس، وكل امرئ يجد فيه على وجه الخصوص ما يطلبه".

وفق المنطق نفسه، فرض الإسلام السياسي في العصر الحديث على آية "وأعدُّوا"، تفسيرات بديلةً تفيد الحض على الجهاد، وتفضيل القتال، نتج عنها تواري المعاني الأجمل داخل نص الآية، وضياعها.

إقرار الحاكمية وتحطيم المنافسين

متجاوزاً معانيها، استفاد سيد قطب من الآية بقوله إنها أمر إلهي بضرورة تكوين قوة إسلامية تنطلق للجهاد من أجل إخضاع البلاد المحكومة بشرائع بشرية، وتحطيم قوى الخصوم والمنافسين، وإقرار منهج الحاكمية لله، أي شرائع الإسلام.

قراءة قطب اعتمدت على مرحلة ما بعد تكوين القوة، وأجابت عن سؤال الدور والمهمة بغير ما تنطق به الآية. وخلافاً لاكتساب الهيبة والاحترام أمام العدو، فإن قطب يراها قوةً في حالة فعل مستمر، عدائية مع كل المخالفين لها.

وبحسب تفسيره "في ظلال القرآن"، فإنه "لا مفرّ للإسلام، لإقرار منهجه الرباني، من تحطيم تلك القوى المادية، وتدمير السلطات التي تنفذ تلك المناهج الأخرى، وتقاوم المنهج الرباني".

تحطيم المنافسين هو هدف اكتساب القوة عند قطب، فالإسلام يملك "قوةً ينطلق بها في الأرض لتحرير الإنسان"، تكون مهمتها تحطيم "كل قوة في الأرض تتخذ لنفسها صفة الألوهية، فتحكم الناس بشرائعها هي وسلطانها، ولا تعترف بأن الألوهية لله وحده، ومن ثم فالحاكمية له وحده"، وفقاً لتفسيره.

القوة التي تحدّث عنها قطب قوة عسكرية طاغية، تتحرك لإخضاع المخالفين، وتستأنف تاريخ الغزوات والفتوحات، وترفع شعار تحرير الأرض والإنسان، فأي بلد وأي أمة محكومان بشرائع بشرية غير إسلامية هما هدف لهذه القوة، وهو معنى فرضه قطب على الآية ليتحلى بالشرعية والقداسة.

لم يكتفِ قطب بتحوير دور القوة، بل سخر من الآراء التي ترى أن القوة دفاعية، لذا وصف رأيه بالحقيقة وآراء الآخرين بالانهزامية، وهو ما ذكره في "الظلال": "هذه هي الحقيقة الكبيرة التي يجب أن يدركها المهزومون الذين يقفون بالدين موقف الدفاع، وهم يتمتمون ويجمجمون للاعتذار عن المدّ الإسلامي، والجهاد الإسلامي"، أي أن الاعتذار عن التمدد والغزوات هو من سمات الانهزاميين، والصواب استئناف هذا المدّ الإسلامي.

عسكرة الحياة اليومية

استكمالاً لرؤية قطب، جاءت قراءة الكاتب السعودي جميل عبد القادر أكبر، لتتحدث عن عسكرة الحياة اليومية، وهو ما يخدم استمرارية الجهاد وإخضاع الآخرين عند قطب.

في كتابه "قص الحق"، رفض جميل أكبر، أن تكون القوة منوطةً بجيش مثلاً، لأن "القوة ليست فقط بالمقدرة القتالية لطائفة في المجتمع، أو بالتقدم التقني الذي ينتج الطائرات والدبابات ولكن بإحالة المهارات القتالية إلى عرف يعلمه الجميع في المجتمع، فيصبح القتال وفنونه هو لهو الناس ومدار حديثهم"، لأن "الإعداد يكون مع الاعتياد"، مقتبساً ذلك من كتاب "سبل السلام" للأمير الصنعاني.

 نزلت الآية بعد انتهاء المعركة، ودعت المسلمين للتحلّي بالقوّة، لاكتساب المهابة والاحترام، ولاستمرار السلام واستدامته، بما يعني أن سياقها يشير إلى الوقاية من الحرب.

هذا المعنى استفاد منه جميل أكبر، في تفسير "الجامع لأحكام القرآن" لأبي عبد الله القرطبي (ت 671هـ)، الذي أورد مرويات ضمن تفسيره لآية الأنفال، فذكر التالي: "قال صلى الله عليه وسلم: كلُّ شيء يَلْهُو به الرجل باطل إلا رَمْيَه بقوسه وتأديبَه فرسَه وملاعبته أهلَه فإنه من الحق. ومعنى هذا والله أعلم أن كل ما يتلهّى به الرجل مما لا يفيده في العاجل ولا في الآجل فائدةً فهو باطل، والإعراض عنه أوْلى. وهذه الأُمور الثلاثة فإنه وإن كان يفعلها على أنه يتلهّى بها ويَنْشَط، فإنها حق لاتصالها بما قد يفيد، فإن الرمي بالقوس وتأديب الفرس جميعاً من مَعاوِن القتال. وملاعبة الأهل قد تؤدّي إلى ما يكون عنه ولد يوحّد الله ويعبده. فلهذا كانت هذه الثلاثة من الحق".

ملاحظتان تظهران انحراف رأي جميل أكبر، الأولى أنه حتى لو أفادت كلمة "أعدُّوا" معنى الاعتياد والعادة، فسيكون معناها اعتياد الحذر، وعدم الاطمئنان للعدو، واعتياد الحفاظ على تطوير القوة المُكسبة للهيبة، وهو اعتياد الأجهزة المختصة بهذه المهام، إنما اعتياد حالة العسكرة للحياة اليومية العادية، لدرجة وضع أفراد المجتمع في حالة تدريب مستمر، فيحيل إلى حياة غير طبيعية، وكلام غير منطقي، فرضه أكبر على الآية.

أما الملاحظة الثانية، فهي إعطاء الصدارة للمرويات المصاحبة، ويكون الحديث الذي نقله القرطبي في تفسيره هو المتحكم في تفسيرات الآية، فضلاً عن أن تفسير القرآن بمرويات الحديث لو كان هو الصواب لاستلزم أن يفسّر النبي كل آيات القرآن الكريم، وهو ما لم يحدث.

سياقات مهدورة

بالنظر إلى سياقها التاريخي، فإن سورة الأنفال نزلت في المدينة المنورة، بعد انتصار المسلمين في معركة بدر (السنة الثانية الهجرية)، بما يعني أنه سياق ما بعد الحرب، فليست تحريضاً على القتال بل هي تقدير لحالة القلق الإنساني تجاه الحرب، ومعالجة الألم الناتج عنها، وتوجيه النصيحة المثالية للوقاية من الحرب ومنع قيامها.

وبحسب شيخ الأزهر السابق محمد سيد طنطاوي، في تفسيره "الوسيط"، فإن سورة الأنفال تأمر المسلمين بـ"أن يؤثروا السلم على الحرب متى وُجد السبيل إليه، فإن السلم هو الأصل، أما الحرب فهي أمر لا يلجأ إليه إلا عند الضرورة التي تقتضيها".

تشير آية الأنفال "وأعدُّوا"، إلى دلالات عديدة تفيد بأنها لا تحضّ على العنف، وترسم طريقاً لتجنّب القيام بحرب، والدليل على ذلك مفردات الآية نفسها، مثل "وأعدُّوا" التي تفيد الاستعداد والتجهيز، والاستعداد لا يكون في وقت الحرب، بل في وقت الاستقرار، وكلمة "قوة" نكرة تفيد عموم القوة، ومطلق القوة، وينفتح معناها على القوة العسكرية وقوة الحياة العلمية والفكرية، والقوة الاقتصادية، وقوة الدبلوماسية السياسية في المفاوضات والمناقشات بدلاً من اللجوء إلى لغة القتال، وكلمة "رباط الخيل" أي مربطها، أي وقت تقييدها، وكلها أمور لا تكون إلا في وقت السلم، ولا تتطور إلا مع استدامة السلام.

بعض التفسيرات التزمت المأثور، وتداولت حديثاً نبوياً يفسر القوة بتعلّم الرمي، ويحضّ على إعداد الخيل لأنها آلة الركوب. أما البعض الآخر فتحرر من قيود المأثور، وفضّل الذهاب مع المعنى المنفتح. مثلاً، جار الله الزمخشري (ت 538هـ)، في تفسيره "الكشاف"، رأى أن معنى القوة "كل ما يتقوى به في الحرب من عددها". وبجانب نقله حديث "ألا إن القوة الرمي"، وأن راوي الحديث عقبة بن عامر مات وهو يمتلك 70 قوساً للرمي جهّزها للخروج في سبيل الله، نقل أيضاً قولاً آخر عن عكرمة بن عمرو، مفاده أن القوة هي الحصون أي التحصينات.

أما الشيخ أحمد مصطفى المراغي، صاحب "تفسير المراغي"، فذكر في تفسيره الآية أن "الحكمة في هذا أن يكون للأمة جند دائم مستعد للدفاع عنها إذا فاجأها العدو على غرّة"، وبصورة أوضح علَّق المراغي على الآية بأنه "لا شيء يمنع الحرب إلا الاستعداد للحرب"، والمعنى الذي ذهب إليه المراغي هو بناء الجيوش لمنع الحرب لا للقيام بها.

علّق مؤلفا كتاب "الإرهاب في القانون الدولي: دراسة قانونية مقارنة"، حسن عزيز نور الحلو وجلال خضير الزبيدي، أيضاً على الأمر بأن "الظاهر من الآية أن الأمر جاء إعداداً للقوة وليس استعمالاً لها، أي أنها قوة كامنة وغير فاعلة تردع العدو إذا استشعرها".

الوقاية من الحرب وتعزيز السلام

مهملةً دلالات عدة، ألحّت التفسيرات الحركية للجماعات الإسلامية على أن الآية تحريض على القتال والجهاد، ومع ذلك فإن الحديث النبوي الوارد في "صحيح البخاري" يقول: "لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية"، أي أن القتال ضرورة فرضت نفسها لا نتمناها ونحرض عليها.

تشير آية الأنفال "وأعدُّوا"، إلى دلالات عديدة تفيد بأنها لا تحضّ على العنف، وترسم طريقاً لتجنّب القيام بحرب، والدليل على ذلك مفردات الآية نفسها، مثل "وأعدُّوا" التي تفيد الاستعداد والتجهيز

أما إرهاب العدو فهو اكتساب الهيبة، ووفقاً لما ذكره طنطاوي عن الآية في تفسيره "الوسيط"، فـ"المقصود من إعداد العدّة في الإِسلام إنما هو إرهاب الأعداء حتى لا يفكروا في الاعتداء على المسلمين، وحتى يعيش أتباع هذا الدين آمنين مطمئنين في ديارهم، وحتى يستطيعوا أن يبلغوا رسالة الله إلى خلقه من الناس دون أن يخشوا أحداً سواه"؛ مؤكداً انتفاء معنى العدوان فـ"ليس المقصود بإعداد العدّة إرهاب المسالمين، أو العدوان على الآمنين، أو القهر والإِذلال للناس واستغلالهم في ما يغضب الله".

واستفاد البعض من قوله "وآخرين من دونهم لا تعلمونهم"، بأن الآية "قسَّمت الأعداء إلى ظاهرين يعرفهم المسلمون، وآخرين مفترضين يعلمهم الله ولا يعلمهم من وجّه إليهم الخطاب، فكيف يمكن استعمال القوة مع عدوّ غير معلوم؟ هذا أولاًز ثانياً، لو سألنا لماذا الأمر بإعداد القوة؟ ستأتي الإجابة من الآية نفسها ترهبون به عدو الله، أي لإخافة العدو ولم تقل الآية لقتاله"؛ كما ورد في الكتاب المشار إليه سابقاً "الإرهاب في القانون الدولي".

تشجيع الناس على الموت والقتال، كان سبباً مهماً للمفكر السوري محمد شحرور، ليؤلف كتابه "تجفيف منابع الإرهاب"، لأن الثقافة الموروثة وفقاً لما ذكره "قلّلت من قيمة الحياة والحرص عليها، وطلبت ممن يحب الحياة ويكره الموت أن يشعر بالذنب، وأن الذي يُقتل في سبيل الله سيدخل الجنة مباشرةً دون انتظار".

ومنعاً لاستغلال الآية في غير موضعها، رأى شحرور بحسب كتابه المذكور، أنها جاءت "لإعداد العدّة لمنع الحرب والقتال، والحفاظ على السلم وهو ما يُسمّى الآن بالقوة الرادعة، فالأسلحة النووية منعت حرباً عالميةً مدمرةً، وكلما كنت قوياً وتمتلك قوة الردع زرعت الرهبة في قلوب أعدائك فلا يهددونك بحرب وقتال، فهنا القوة الرادعة لإرهاب الآخر وليس للمغامرة بحروب".

وهكذا، فإن آية الأنفال نزلت بعد انتهاء المعركة، ودعت المسلمين للتحلّي بالقوّة، لاكتساب المهابة والاحترام، ولاستمرار السلام واستدامته، بما يعني أن سياقها يشير إلى الوقاية من الحرب، إذ لا يمنع الحرب إلا الجاهزية لها والاستعداد لخوضها كما أشار المراغي في تفسيره المذكور آنفاً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

لا سلطان على الإنسان إلّا عقله

أُنزِلت الأديان رحمةً للعالمين، لكن هل كنّا نعلم أنّها ستُستعمل لمآرب متطرّفة لا تُشبه غايتها السامية؟ هل كنّا نعلم أنّها ستُستخدم ضدّنا، وعلينا، لتصبح خنجراً في الخاصرة، ليس بإمكاننا انتشاله كي لا يتفاقم نزفنا؟

بالإيمان الصوري، والتدين وجاهيّاً، والذكورية الصفيقة، والقداسة الموزعة "غبّ الطلب"؛ استعملت السلطات الدين، وسلّحته ضدّنا في العالم العربي، لتفريقنا، والسيطرة علينا وقمعنا.

"هذا ممنوعٌ وهذا مسموحٌ وذاك مرغوب، هذا حرامٌ وهذا حلال". لكن في رصيف22، شعارنا الوحيد هو "لا للعيش وفق تفسيرات الآخرين". 

Website by WhiteBeard
Popup Image