قبل أن يكون كاتباً عالمياً، دخل إدغار رايس بوروس (1875-1950)، إلى المكتبة ليبيع صاحبها قرطاسيةً مدرسيةً. رأى مجلةً مصوّرةً على أحد الرفوف، فبدأ يتصفحها. فكّر بصوت مرتفع وقال ساخراً حسب ما طرحه في مذكراته: "إذ كان الكُتّاب يقبضون ثمناً لكتابة مثل هذه الخزعبلات، فإن بإمكاني كتابة خزعبلات أحسن من هذه"، ومن هناك بدأت رحلته مع الكتابة والتأليف.
بعدها أصدر إدغار، روايةً خياليةً سنة 1912، تحت عنوان "طرزان... الرجل القرد"، وأتبعها بنحو 20 قصةً أخرى كانت عبارةً عن سلسلة، فتلقف العالم هذه الشخصية، وترجمها إلى لغاته كلها، وجسّدها في كل فنونه، من مسرح ودراما وقصص مصوّرة، كما تلقفتها السينما وضمنت لها انتشاراً رهيباً، خصوصاً بعد أن تم تحقيق هذه الشخصية في أكثر من 100 فيلم عالمي، أولها كان سنة 1918، على يد المخرج سكوت سيدني (1872-1928)، وآخرها الذي تم طرحه في قاعات السينما سنة 2016، وقد أخرج تلك النسخة البريطاني دايفد ييتس (1963- ...)، صاحب سلسلة أفلام "هاري بوتر" الناجحة.
صيحة طرزان دوّت في حديقة الحامة
بين الفيلم الأول والأخير نحو قرن كامل من الزمن، تم فيه تحقيق العديد من الأفلام حول هذه الشخصية، أبرزها وأجملها وأهمها حسب المختصين تلك التي تم تصويرها في الجزائر سنة 1932.
وقتها، كانت الجزائر مستعمرةً فرنسيةً (1830ـ1962)، وقد تم تأسيس تلك الحديقة التي يطلَق عليها أيضاً تسمية "حديقة التجارب العلمية" سنة 1832، وقد جُلبت إليها أعداد هائلة وأنواع كثيرة من النباتات من جميع أصقاع العالم، بالإضافة إلى تلك التي كانت فيها سابقاً، ومن بينها أشجار "البلاتان" المعمرة والعالية ودائمة الاخضرار، لهذا كانت عبر تاريخها الممتد مقصداً للعديد من الكتّاب والمفكرين والفنانين، من بينهم ألبير كامو الذي كان يعشقها، بالإضافة إلى المفكر كارل ماركس، والرسام الفرنسي الشهير أوغست رينوار، والفيلسوف جاك دريدا، والكاتب الكبير أندريه جيد، والقائمة لا تنتهي، وهذا ما يعطي أهميةً لهذه الحديقة، ليس لدى الكتّاب والمفكرين والرسامين فحسب، بل لدى صنّاع السينما الذين تعاقبوا على فضاءاتها الساحرة.
تم تأسيس الحديقة التي يطلَق عليها أيضاً تسمية "حديقة التجارب العلمية" سنة 1832، وقد جُلبت إليها أعداد هائلة وأنواع كثيرة من النباتات من جميع أصقاع العالم، بالإضافة إلى تلك التي كانت فيها سابقاً
لكن يبقى فيلم طرزان الذي مُثّل فيها هو الحدث الأبرز، وقد أخرج تلك النسخة الأمريكي سيدريك غيبونز (1893-1960)، وهو مصمم إنتاج ومهندس معماري، نال أوسكارَين، كما ترشح عشرات المرات لنيل هذه الجائزة العريقة.
وقد أعطى دور البطولة في نسخة فيلمه لـجوني فايسمولر (1904-1984)، وقد كانت تلك النسخة من بين أجمل ما أنتجته السينما حول تلك الشخصية، وحملت اسم "طرزان وزميله".
تعود أسباب تميّز تلك النسخ، إلى أهمية البيئة المثالية التي مُثّل فيها، فقد حدث هذا في حديقة التجارب العلمية في الحامة، داخل العاصمة الجزائرية، وهي حديقة ساحرة تحتوي على أهم النباتات والأشجار النادرة، وتُعدّ من بين أكبر حدائق العالم وأجملها، بالإضافة إلى شهرة الممثل "جوني" بطل الفيلم، الذي كان سبّاحاً عالمياً وقتها، ونال خمس ذهبيات أولمبية، ويمتلك شهرةً واسعةً، وقد أدّى دور "طرزان" في 12 نسخةً مختلفةً، وفوق كل هذا أظهر براعةً كبيرةً في تجسيد الدور.
وقد نال إعجاب المؤلف إدغار رايس بروس، كما عرفت نسخة الجزائر إطلاق الصرخة المدوية لطرزان في الفيلم، وهي وحدها أسالت الكثير من الحبر على مدى 30 سنةً تقريباً، وتباعدت الآراء حولها وتقاربت، إذ هناك من يقول بأنها صرخة الممثل "جوني"، ومن يقول إنها مزج بين صرخته وعواء ذئب، وفئة أخرى قالت إنها دمج لمغنّي أوبرا بصوت كمان، إلى أن كسر "جوني" الشك باليقين، حين قال في إحدى المقابلات التلفزيونية إنها عملية دمج لثلاثة أصوات لمطربين مختلفين، وأجمل ما في الأمر أن تلك الصرخة التي كان يطلقها "جوني" في الفيلم ليخيف بها الحيوانات المفترسة الأخرى لا تزال تُستعمل إلى اليوم برغم التطور التقني والفني في مجال السينما.
المسافة بين طرزان وابن يقظان
بالعودة إلى رواية "طرزان... الرجل القرد"، ومقارنتها بنص "حي بن يقظان" لابن طفيل المغربي، نجد أن هناك العديد من التقاطعات الفنية والفلسفية، على مستوى الشخصية، وهذا ما يجعل بعض المختصين في الأدب المقارن لا يستبعدون أن يكون الكاتب الأمريكي إدغار رايس بوروس، قد تأثر بما كتبه ابن طفيل، واقتبس منه نصه، خصوصاً أن قصة "حي بن يقظان" تُرجمت وفي وقت مبكر إلى لغات العالم كلها تقريباً وأهمها.
ومن الناحية الفنية فقد كان نص ابن طفيل مطوّراً عن نصوص أخرى، لكلّ من ابن سينا والسهرودي وبعدهما ابن النفيس، لكنه في المقابل حافظ على الجوهر.
كما حمل النص دلالات فلسفيةً، وطرح جملةً من الأسئلة التي مرّ بها الإنسان على مدار التاريخ، وكيفية تطوره وتعامله مع ما يحيط به ويدور حوله.
لكن الكاتب الأمريكي صاحب نص طرزان لا يعترف بهذا التقاطع بين "طرزان" و"حي بن يقظان".
كما يوجد نص ثالث، يتداخل فيه النصان المذكوران، وفيه الكثير من تلك الروح، وهو "روبنسون كروزو" الذي كتبه دانيال ديفو سنة 1719، وتروي قصته حسب ما جاء في ملخصها قصة "كروزو الذي يغادر؟ إنكلترا في رحلة بحرية في أيلول/ سبتمبر عام 1651، مخالفاً رغبات والديه، فيسطو قراصنة ‘سلا’ على السفينة، ويصبح كروزو عبداً لأحد المغاربة، ويتمكن بعدها من الهرب في زورق، ويصادف قائد سفينة برتغالية من الساحلِ الغربيِ لإفريقيا، كانت متوجهةً إلى البرازيل، وبمساعدة من الكابتن يصبح كروزو مالكاً لمزرعة، وهناك يبدأ حياةً جديدةً مليئةً بالمغامرات التي لا تنتهي".
تم تحقيق شخصية طرزان في أكثر من 100 فيلم عالمي، أولها كان سنة 1918، على يد المخرج سكوت سيدني وآخرها الذي تم طرحه في قاعات السينما سنة 2016، وقد أخرج تلك النسخة البريطاني دايفد ييتس
وبرغم تجلّي نص ابن طفيل في العديد من النصوص، غير أنه لا يوجد أي اعتراف بتلك التقاطعات، وبعبارة أخرى لا يقرّون بهذا الاستيلاء الواضح على نص تراثي عربي معروف.
عودة أسطورة طرزان... النجاح السينمائي الذي لا ينتهي
فيلم "أسطورة طرزان" لديفيد ييتس، هو آخر نسخة تم تقديمها لهذه الشخصية الأسطورية. عُرض سنة 2016، وحقق نجاحاً كبيراً على مستوى شباك التذاكر، إذ فاقت عائداته وقتها عتبة النصف مليار دولار، وهو النجاح نفسه الذي حققته النسخ الأخرى.
وقد اعتمدت نسخة ييتس على التطور التقني والخدع البصرية وخاصية الأبعاد الثلاثية، كما وسّع المغامرات، ويعود هذا لمرجعية المخرج الذي يعود إليه الفضل في نجاح سلسلة "هاري بوتر" كونه مخرجها، كما أسند أدوار الفيلم إلى مجموعة من النجوم، من بينهم ألكسندر سكارسغار، مارغوت روبي، كريستوف والتز، وسامويل جاكسنون.
وتوري نسخة طرزان الأخيرة حسب ما جاء في المُلخص الذي تدور أحداثه في فضاء لندني، وهذا "بعد مرور العديد من السنوات على حياة طرزان في مدينة بريطانيا، فبعد التعرف عليه واستقدامه من الغابة التي لطالما استقر ونشأ فيها، يعود طرزان مرةً أخرى إلى الغابة كمندوب للتجارة في دولة الكونغو، دون أن يعلم أنه بمثابة طُعم يستخدمه أشخاص آخرون ذوو نفوذ لتحقيق مصالح شخصية، حيث يسافر للتحقيق في الأنشطة الموجودة في مخيم للتعدين دون أن يعرف ما ينتظره، وهناك تبدأ المغامرات الساحرة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ أسبوعمقال رائع فعلا وواقعي