شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
بعد 4 قرون...

بعد 4 قرون... "باشا" مدينة الجزائر يعود لقصر رياس البحر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 7 مارس 202210:30 ص

في إحدى ورشات مدينة "ماسا" بإيطاليا، يمسح النحات أليساندرو موستي العرق الذي يتصبب من جبينه، وهو ينحت قطع الرخام البيضاء التي تم جلبها من مدينة "كارارا" الشهيرة برخامها الأبيض النقي القادم من جبال الألب القريبة، إنه نفس رخام مبنى "البانتيون" في روما و"تمثال ديفيد" للنحات والفنان الإيطالي الشهير مايكل أنجلو.

يحثّ موستي فريقه من أجل إنهاء العمل، فتمثال "أمير مدينة الجزائر" مع موعد مع قصره بداية شهر مارس، يعود الإيطالي الذي حكم مدينة الجزائر ليتصدّر تمثاله ساحة قصر رياس البحر، ويروي لزائري المكان حكاية أسير من أرض الطليان أصبح أميرالاً في البحرية الجزائرية، وبنى على مداخل القصبة مسجداً قدّمه صداقا لحبيبته "لالاهم" ابنة أحمد أولقاضي، سلطان مملكة كوكو في جبال منطقة القبائل.

تمثال "أمير مدينة الجزائر" على يعود إلى قصره بداية شهر... يتصدّر تمثال الأمير الإيطالي الذي حكم مدينة الجزائر ساحة قصر رياس البحر، ويروي لزائري المكان حكاية أسير من أرض الطليان أصبح أميرالاً في البحرية الجزائرية

الرايس إلى قصره

ستبحر سفينة الشحن الجزائرية "جانت" من ميناء كارارا، متوجهة نحو ميناء الجزائر العاصمة، وفي إحدى حاوياتها يعود علي بتشين في رحلته الأخيرة إلى قصر رياس البحر، حيث سينتصب تمثال بطول ثلاثة أمتار وعشرين سنتيمتراً، ليتم تدشينه في الرابع من مارس القادم، بمناسبة مرور 400 على بناء مسجد علي بتشين، الذي يشبه "تاج محل" في أمر واحد، فكلاهما بني من أجل قصة حب.


أُنجز هذا التمثال من طرف طلاب ثانوية "فيليس بالما" الفنية بتوجيه من الفنان أليساندرو موستي، على أساس تصميم من الطالبة جوليا فاتيروني، عقب مشروع أطلقه عام 2018 الكاتب الإيطالي ريكاردو نيكولاي، ويُظهر التمثال علي بتشين جالساً على قاعدته، ومن ورائه امرأة مغطاة الوجه، إنها "الأميرة البيضاء"، التي ترمز لمدينة الجزائر، والتي ليست سوى محبوبته وصانعة قصته، الأميرة "لالاهم".

عاشق يبني مسجداً

وُلد ألبيريكو بيتشينيني في قرية ميرتيتو بمحافظة ماسا في مدينة توسكانا الإيطالية، وكان مولعاً بالبحر، فلم يكن يتوقّف عن التجوال على ضفاف المتوسّط، أسرته البحرية الجزائرية سنة 1578م، واقتادته إلى الجزائر العاصمة "ليباع هناك عبداً" و هناك ابتاعه الرايس بن خوجة بـ60 قطعة ذهبية.

في سنة 1599م اعتنق بيتشينيني الإسلام على يد فتح الله بن خوجة بن بيري وصار اسمه فيما بعد علي بتشين، ارتقى بتشين في المراتب العسكرية إلى أن صار "رايس"، وهي مرتبة توازي رتبة أميرال، ليتولى القيادة العامة للبحرية في الفترة بين 1630 و1646، وصار الرايس علي بتشين اسما له صداه في البحر الأبيض المتوسط.

وقع بتشين في حب الأميرة لالة لالاهم ابنة سلطان مملكة كوكو أحمد أولقاضي، وكان طلبها الوحيد لقبول الزواج به، هو أن يبني ببناء مسجد للمسلمين في مدينة الجزائر

وقع بتشين في حب الأميرة لالة لالاهم ابنة سلطان مملكة كوكو أحمد أولقاضي، وكان طلبها الوحيد لقبول الزواج به، هو أن يبني ببناء مسجد للمسلمين في مدينة الجزائر،وافق علي بتشين على الشرط، وفي في مارس 1622م نفذ الوعد، وبنى مسجدا صغيرا في مدخل قصبة الجزائر، وأحضر رخام مدينته ماسا، لتعبيد أرضية المسجد.

يتكون المسجد الذي يتربع على مساحة 500 متر من 3 طوابق، يضم أولها 17 حانوتًا تجاريا مورست فيها العديد من الصناعات والحرف التقليدية المعروفة في القصبة، كتلك الخاصة بالنحاس والفضة والفخار، وكان يضم كذلك 3 غرف وفرنا وحمّاما وطاحونة وفندقًا.

وأما منارة المسجد فقد تميزت لمدة من الزمن بطراز مغاربي جميل، فقد كانت مربّعة الشّكل، وتحتوي على نواة مركزية تضمّ 4 أجنحة خاصة بالسّلالم المحاطة بالمسجد، إذ يصل عمق أساسات هذه المنارة إلى 8 أمتار، إلى أن تمّ هدم جزء هام من القسم الأعلى منها عام 1860م، وقُلص ارتفاعها من 15 إلى 12 متراً فقط.

ذات صباح من عام 1645، استيقظت مدينة الجزائر على خبر مفزع، لالاهم تدخل غرفتها فتجد علي بتشين جثة هامدة على سريره، فور ذلك تناقل السكان خبر تسميم قهوته من طرف خادمة له، لقد كان ذلك منتظراً، فخلاف علي بتشين مع العثمانيين بات أمراً معروفاً.

الحياة الثانية لـبيتشينيني

لم تكن قصة "البيريكو بيتشينيني" شائعة بين أوساط الجزائريين قبل سنوات، بل كان يحتفظ بأسرارها قلّة من المهتمين بالشأن التاريخي والثقافي لمدينة الجزائر، وكذا بعض العارفين بخبايا أزقة القصبة، حتى انقشع الضباب عن هذه الحكاية المثيرة بفضل الروائي الإيطالي ريكاردو نيكولاي وشقيقه المسرحي ألبرتو، فالشقيقان ينحدران من نفس قرية علي بتشين، وكانا في إحدى المرات مدعوين لتظاهرة ثقافية، هناك سمعا بتفاصيل الحكاية، وكان ما سمعاه بمثابة "كنز مكنون" مدفون في سواحل المتوسط، من هنا انطلقت رحلة إعادة الأميرال إلى الحياة مجدداً.

ان حلم ريكاردو حينها أن يقوم بإحياء الأسطورة التي تتناقلها الأجيال في "ماسا"، فقام بوشم جملة على مرفقه كي يراها كل صباح، دوّن ريكاردو بالعربية: "علي بتشين مازال يعيش"

يقول ريكاردو نيكولاي إنه حين زار الجزائر لأوّل مرة في خريف عام 2015، شعر بعاطفة خاصة جداً، لقد قدم من "توسكانا"  ومعه أسماء أماكن يجب أن يزورها ويلتقي فيها شخوص مشروعه الروائي عن علي بتشين. نزل ريكاردو  في فندق قريب من البريد المركزي، كان يجلس هناك يومياً يرتشف القهوة في مقاهيها يراقب حركة الناس، كان يمشي وحيداً ليلاً في أزقة القصبة، يستيقظ فجراً ويخرج بحثاً عن روح علي بتشين ويقتفي آثاره في مسجد كتشاوة، سيدي رمضان، دار عزيزة، في أسواق باب عزون وباب الواد، كان بمثابة مغامر يعلم مكان الكنز دون أن يملك الطريق نحوه.

حين عاد ريكاردو لبلدته الصغيرة في "مرتيتو"، وضع أوراقه المبعثرة أمامه وبدأ ينسج من قصاصاته تفاصيل الحياة الثانية للرايس علي بتشين، فنشر رواية "في حب أميرة" عام 2015، والتي تمت ترجمتها للغة الفرنسية، وصدرت في إيطاليا والجزائر، كما ألّف كتاب "مغامرات علي بتشين" الموجّه للأطفال عام 2017، ليعود عام 2020 ويكمل مغامرته مع حياة علي بتشين، ليصدر رواية "بتشين سيّدي"، بعد أن قعت في يده وثيقة تاريخية مهمّة خطّها رجل كان خادماً لدى علي بتشين يدعى إيمانويل، فيما اشتغل شقيقه ألبرتو نيكولاي على مسرحية عُرضت في أوبرا الجزائر، وسيعاد عرضها بعد وصول تمثال بتشين إلى الجزائر.

حين التقيت ريكاردو نيكولاي أولّ مرة، واتخذنا من إحدى مقاهي البريد المركزي وسط العاصمة مكاناً للقاء، كان يتحدث عن علي بتشين بكثير من الحب، يمكن أن تلحظ بريقاً في عينيه وهو يروي قصص "رايس البحار"، أطلعني حينها أنه يعتبر قصة بتشين وكأنها شأن خاص.

كان حلم ريكاردو حينها أن يقوم بإحياء الأسطورة التي تتناقلها الأجيال في "ماسا"، فقام بوشم جملة على مرفقه كي يراها كل صباح، دوّن ريكاردو بالعربية: "علي بتشين مازال يعيش". 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard