رقصة عفوية لفتاة تدعى سمر عنتر، كانت كفيلة بوضعها في صدارة الترند المصري على مدار أربعة أيام متواصلة، محتلّة باسمها عناوين مواقع إخبارية ومنصات التواصل الاجتماعي وصفحات النميمة الوطنية.
"وصلة رقص خلال التخرج... من هي سمر عنتر طالبة أسيوط؟"، "فتاة جامعة أسيوط تبكى وتكشف كواليس فيديو الرقص: أنا ناجحة من غير تريند"، "بتعقب قدام الدكاترة... من هي البلوجر سمر عنتر فتاة أسيوط؟".
كانت هذه عيّنة من العناوين التي تشير إلى الفتاة، إلى أن دخل على الخط عدد من نجوم/ نجمات الفنّ، مدافعين/ات عن الطالبة الجامعية، مثل الفنانة مي كساب التي كتبت: "اللي يعرفها يقولها تفرح وتتبسط بنجاحها وتسيبها من المرضى، الله يهديهم ويهدينا"، بينما كتب مؤدي أغاني الراب الشهير "ويجز"، عبر صفحته في موقع "إكس": "أي حد شايف إن سمر عنتر عملت حاجة غلط عيان محتاج يتعالج".
"الترند امرأة"
لا يهمّني هنا الدفاع عن الفتاة، فهي لم تفعل شيئاً يدينها من الأساس حتى أدافع عنها، وحتى إن فعلت، فلست الشخص الذي يفتّش عن قذى في عيون الآخرين متجاوزة الخشبة التي في عيني.
مرة أخرى، لا يمرّ شهر، أو بالأدق أسبوع واحد، لا تتصدّر فيه امرأة الترند، فقط كونها امرأة: "رقصت، ضحكت، شتمت، قلعت، ارتدت"... لا يهم السبب.
مرة أخرى، لا يمرّ شهر، أو بالأدق أسبوع واحد، لا تتصدّر فيه امرأة الترند، فقط كونها امرأة: "رقصت، ضحكت، شتمت، قلعت، ارتدت"... لا يهمّ السبب
قبل سمر كان الترند من نصيب الممثلة أسماء جلال، أو كما نقول بالمصري "طلعت على المسرح"، بعد ما طلبت بهدوء شديد من أحد معجبيها ألا يلمسها متجاوزاً حدوده، فكان عقابها نشر صورها قبل الشهرة وهي بالحجاب، ثم بدونه، ومعها دُوّنت اللعنات والسخرية من مظهرها الذي أصبح، بين يوم وليلة، قبيحاً وغير جميل بالمرة، بأمر من رجال يبثّون كراهيتهم ضد امرأة فقط لأنها قالت لأحدهم "ماتلمسنيش"، وهي ممثلة -في عرفهم- مباحة للجميع ولا يحق لها اختيار من يلمسها أو لا، أصلاً لا يحق لها الاختيار من الأساس طالما هي امرأة.
بالطبع الجمال نسبي؛ لكن اللافت في "أسماء" و"سمر" جمالهما الواضح، أو تناسق ملامحهما وهيئتهما الجسدية، ومع ذلك حاول الرجال على مدار الأيام السابقة التشكيك في جمالهما وانتزاع كافة السمات الجيدة عنهما، باعتبار أن الجمال مرادف لصورة الفتاة الخانعة، الخجولة دائماً، والتي تخلو من الجاذبية والإغواء، وتقترب من الملامح الأمومية أكثر من الأنثوية، أما الجرأة والقدرة على الاختيار والغواية، فقد يشتهيها رجال الشرق سرّاً لكنهم يوصمونها جهراً.
حواء الأنثى البغي ومريم الأم الطاهرة
سبق للدكتورة الراحلة نوال السعداوي، أن فضحت هذه النظرة المزدوجة للمرأة في كتابها "الحقيقة العارية للمرأة العربية"، في باب عنونته بـ "حواء الأنثى البغي ومريم الأم الطاهرة"، رصدت فيه كيف يزخر الأدب العربي الذي دوّنه رجال، بالتناقض والحيرة والتفرقة بين نموذجين تُختزل فيهما النساء: الأنثى أو ذات الجاذبية أو الشهوة الجنسية؛ والأم الطاهرة، العذراء الخالية من أي جنس أو شهوة.
تقول: "تمثّل المرأة الأنثى للرجل خطراً وخوفاً قديماً مرتبطاً بالجنس، ولذلك هو يريدها طاهرة كاملة، أو غير أنثى، ويريدها كالملاك الضعيف المستكين، لكنه في الوقت نفسه يشتهي الأنثى، ويشتهي فتنتها وسحرها، لكنه يَفرغ من هذه الفتنة التي يقع أمامها صريعاً فاقد القوى".
وتشير السعداوي إلى كتابات إبراهيم المازني، كنموذج لترسيخ هذا التناقض: "يعبّر المازني عن أزمة الرجل العربي المتعلّم، الذي تجسّد في بطل روايته، والذي أراد أن يُحطم سجن التقاليد ليفوز بالفتاة التي أحبها، لكنه في الوقت نفسه يرفض الفتاة المتحرّرة من هذه التقاليد ذاتها التي أراد هو تحطيمها".
لكنها تصف حالنا المُعقّد الآن بصورة بالغة الدقة، حين تقول: "يُظهر معظم الكتَّاب العرب المعاصرين كراهيتهم للمرأة الجريئة المتحرّرة، ويتقزّز بطل (عبد الحميد جودة السحار) حين يرى (كوثر) حبيبته بـ (المايوه) أو لباس البحر: (فثار دمه في عروقه.. فبدت لعينيه بغيضة تافهة)، وكان من الطبيعي أن يشعر البطل بانجذاب أشدّ نحو المرأة التي يحبها، خاصة وأنها كانت جميلة الجسم، ولا بد أن هذا التقزّز الذي اعتراه، لم يكن لقبحها، وإنما هو شعور (دفاعي) يلجأ إليه الرجل المحافظ على التقاليد، وهو بدلاً من أن يعترف أنه غير طبيعي، يتهمها بأنها بغيضة وغير طبيعية.
إلى أن تحتل الأحداث العادية الترند بدلاً من النساء سنبقى كلنا في الوزر سواء
ويظهر مثل هذا الرجل المحافظ في معظم القصص والروايات، ونراه شديد النفور من تلك المرأة المتعلّمة التي تخالط الرجال وتُراقصهم، وهو أيضاً شديد النفور من المرأة المحجّبة، ومن المرأة الفقيرة أيضاً التي كثيراً ما (تسقط) بسبب فقرها. أما الفتاة المتعلمة المتحرّرة، فهي تزداد سقوطاً وانحطاطاً بسبب تحرّرها، ويصبح الرجل حائراً منهاراً".
عدائية مكرّرة
هذه العدائية للمرأة وبخاصة المرأة الأكثر تحرّراً، ظهرت في كتابات كبار الكتاب العرب - بنسب متفاوتة- بمن فيهم توفيق الحكيم، نجيب محفوظ وغيرهما؛ وما زالت تسري في عروق كُثر من رجال شرقنا اليوم، فيكفي أن نكتب على خانة محرك البحث كلمة "فتاة" ثم نغيّر بجانبها محافظات مصرية أو أي منطقة سكنية حتى نصطدم بـ فضيحة" ما:
فتاة أسيوط، دمنهور، طنطا؛ التجمع، الشروق، المطرية، عين شمس... إلخ، وسنرى كم القصص التي كانت بطلاتها نساء وفتيات فقدنَ وظيفة أو سمعة أو استقراراً أسرياً، أو ربما حياة بالكامل، لمجرّد كونهن نساء، حين تحولن إلى ترند رغماً عنهن في كل الحالات.
أسلوب متكرّر يخبرنا أن مجتمعاً بأكمله لا تغفل له عين ما لم يلم امرأة في أي رواية وحكاية، ما لم يشر بإصبع الاتهام لها.
لا بد أن النساء مذنبات على كل حال: هذا لا تظهره فقط العناوين الإخبارية أو نظيرتها الموجودة على وسائل الاتصال المختلفة، لكن المتن نفسه يكشف كمّ القيود المكبِّلة للنساء من وجهة نظر كاتب/ة الخبر، فعلى سبيل المثال، في قصتنا الأخيرة الخاصة بسمر عنتر، قابلتني عبارات من نوعية: "رقصت بطريقتها الخاصة رغم أنها من الصعيد الذي تلتزم فيه الفتيات بالعادات والتقاليد". عبارة تصوّرتُ كاتبها "يبحلق" عينيه، ويغلظ صوته ليخبرنا كيف تخطت الفتاة حدودها، ويعريها في مخيّلته بذات الوقت.
نمط آخر من الكراهية مغلّف بثوب إيماني، يظهر حين يُعاد نشر صورة نيرة أشرف أو أي ضحية مشابهة، بغطاء للشعر "حجاب"، وكأن صورتها بشعرها تستحق القتل، أو كأن صورتها بدون حجاب ستجلب السيئات، في شكل جديد من كراهية الشكل الأنثوي المتحرّر
هذا بخلاف سلوكيات يعجز العقل عن تصورها أو تصور تناميها في المجتمع بهذا الشكل الجنوني، مثلاً في حادثة نيرة أشرف التي ذُبحت أمام جامعتها بالمنصورة منذ عامين، دُشّنت صفحات باسم قاتلها الذي حُكم عليه بالإعدام فيما بعد، تدافع عنه، ويتمّ تجييش الشباب والفتيات على الصفحة للردّ بتعليقات شبه موحّدة تلوم الضحية مع كل ذكرى لنيرة.
نمط آخر من الكراهية مغلّف بثوب إيماني، يظهر حين يُعاد نشر صورة نيرة أشرف أو أي ضحية مشابهة، بغطاء للشعر "حجاب"، وكأن صورتها بشعرها تستحق القتل، أو لنقل -مع حُسن النوايا- كأن صورتها بدون حجاب ستجلب السيئات، في شكل جديد من كراهية الشكل الأنثوي المتحرّر.
أشكال كثيرة من خطابات الكراهية، تبدأ بالفنّ والإعلانات والإعلام، بأدوات وآليات كل منها تتصالح مع إطلاق الأحكام على النساء، وتكرّر مشاهد العنف ضدهن، بل تصوّره أحياناً كشهامة ورجولة وغيرة حميدة من قِبل مرتكبيها؛ مروراً بالكتابات الأدبية وتنميط النساء بين "عفيفة طيبة" أو "مغوية شيطانة"، ثم نهاية بخطابات دينية وسياسية تفرّغ كل أهدافها في السيطرة على النساء، وأخيراً كراهية مجتمعية تعلن عن نفسها كل يوم رقمياً في محتوى إلكتروني أصبحت الإساءة فيه للنساء ترند متكرّراً.
هذا الهوس سنجني لعنته جميعاً، طالما بقيت خطابات الكراهية تتردّد كل يوم وكل ساعة، داخل كافة المؤسسات الدينية، وإلى أن تحتل الأحداث العادية الترند بدلاً من النساء سنبقى كلنا في الوزر سواء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.