شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
طنجرة جدتي التي أشعلت حرب نساء العائلة

طنجرة جدتي التي أشعلت حرب نساء العائلة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الاثنين 8 يوليو 202410:55 ص

تدور جدتي في البيت، تخرج من المطبخ إلى غرفة المعيشة وتلحق بها زوجة خالي التي بدأ وجهها في التعرّق خوفاً من المرأة العجوز التي ضربت كفاً بكف وهي تقول: "الطنجرة فين؟". لم تعرف زوجة خالي إجابة لهذا السؤال الذي تسأله حماتها منذ ما يقرب عشر دقائق، ولكنها طلبت من جدتي أن تمنحها بعض الوقت حتى تسأل "سلفتها"، ولكن لم يكن لدى المرأة الكبيرة صبر ولا طاقة لذلك.

غابت زوجة خالي، كنت في الثامنة تقريباً حين أتى بي خالي لأمكث معهم بضعة أيام، كما اعتدت في الصيف، حتى يأتي أبي ليأخذني. رحت أنظر إلى جدتي التي كادت تحرق أرجاء البيت من شدّة غضبها. عادت ثانية تبحث عن الطنجرة في المطبخ وداخل غرفة المعيشة، تنظر تحت السرير حيث كانت تضعها باستمرار، ثم تعود لتضرب كفاً بكف وتحكم الرباط حول رأسها بعدما لا تجد شيئاً.

خلال دقائق، عادت زوجة خالي تلحق بها "سلفتها"، ولم تعرف أي منهما مكان "الطنجرة" التي تبحث عنها جدتي. عرضت عليها امرأة ابنها أن تحضر لها طنجرتها الجديدة التي اشترتها مع جهازها، ولكن جدتي رفضت، فلم تكن المرأة العجوز تقبل أن يحتضن عجينها ذراع طنجرة غريبة، فالعشق بينها وبين الطنجرة النحاس بدأ منذ أن ورثتها عن والدتها، أي ما يقرب العشرين عاماً.

بعد دقائق تذكّرت الجدة أن طنجرتها الغالية عند جارتها، فذهبت زوجة خالي لتحضرها بعدما شدّدت عليها حماتها أن تعيد الطنجرة بنفسها في كل مرة تستعيرها أي جارة. نظرت إلى طنجرة جدتي عن قرب. لم أكن أفهم وقتها سرّ هذا الاهتمام الكبير والتعامل مع الطنجرة وكأنها جزء من تراث هذا البيت العتيق. ما المختلف في طنجرة نحاسية قديمة أشكّ في أوقات، وبسبب كثرة الاستخدام، أنها ليست صالحة كفاية لتستقبل العجين قبل أن يرصّ على الصواني ليُطرح داخل الفرن القش.

ورغم أنها كانت قد اقتربت من الستين عاماً، لم تسمح جدتي لأي من نساء أبنائها أن يعجنّ الطحين بأنفسهن. كانت تحب هذه الخطوة ولا تشعر بأي تعب، في حين أنها تخبز مرتين وثلاث كل أسبوع، فكانت تستقبل طنجرتها بترحاب شديد في كل مرّة، وكانت الطنجرة تحتضنها مثل حبيبة مشتاقة.

لم يكن غسيل الطنجرة بعد العجين بعملية سهلة تمرّ بشكل عرضي، فلم تكن جدتي تسمح بأن تضع فيها زوجة خالي السلك الألمونيوم وتدعكها بخشونة، ورغم أن طنجرة جدتي الثمينة لم تكن جديدة أو حتى تحتفظ بكامل رونقها، ولكن جدتي كانت تحافظ عليها كطفل صغير يحتاج إلى عناية. تضع بها الماء لتتخلص من بقايا العجين بعد كل مرّة، ثم تنظفها بقطعة قماش نظيفة وتتركها تجفّ، لتضعها تحت سريرها.

لم تكن المرأة العجوز تقبل أن يحتضن عجينها ذراع طنجرة غريبة، فالعشق بينها وبين الطنجرة النحاس بدأ منذ أن ورثتها عن والدتها، أي ما يقرب العشرين عاماً

خناقة على طنجرة

كنت في الثانية عشر تقريباً أجلس بجوار أمي أمام فرن القش الذي صنعته جدتي بنفسها من الطين، أمسك في يدي "مطرحة" وضعتها جدتي بين يدي لأتعلّم كيفية "رحّ" الخبز. قالت جدتي لأمي: "لما أموت الطنجرة النحاس هتكون من نصيبك".

اندهشت أمي من كلام جدتي، وأخبرتها أن لديها الكثير من الأواني والطناجر، وأنها ليست في حاجة لها، وأنها يمكن أن تعطيها لشقيقتها، أو حتى لواحدة من زوجات أبنائها. رفضت جدتي وقالت: "الطنجرة نصيبك".

لم يمر الكثير من الوقت حتى مرضت جدتي وفارقت الدنيا. نظرت وقتها بألم داخل غرفتها وغرفة المعيشة التي احتفظت بها جدتي بكل ما ورثته عن أمها. هذه المزهرية تجلس بأناقة، معانقة المفرش الذهبي الذي لم يكن مسموحاً لأحد لمسه، "اللبانة" الألمونيوم الثقيلة ترقد مكانها في النملية، نظيفة لا تلقى هنا أو هناك أو تترك متسخة في حوض نسيه صاحبه للصباح. كل تلك الأشياء تركتها جدتي ورحلت. لم تعد كما كانت، ولم تجد نفس المعاملة والعزّة بعدها أبداً. لم يحدث خلاف بين نساء العائلة على أي من تلك، فقط كانت هناك "الطنجرة" التي تضع كل واحدة منهن عينها عليها.

كان الحزن يأكل قلبي على فراق جدتي، ولم تكن أمي تهتم بكل ما يدور حولها. بدأت تنتبه بعد الوفاة بأيام بعدما ارتفعت أصوات زوجات أخواتها من حولها، وكذلك صوت عمتها، كل منهن توزع محتويات المطبخ على هواها، ورغم أن من المتعارف عليه أن ما تتركه الأم عادة يكون لابنتيها، إلا أن عمة أمي وخالتها وزوجات أخواتها كن ينظرن للأمر بصورة مختلفة، ووجدن أن كل شيء يجب أن يقسم بينهن، وعندما جاء الدور على "الطنجرة"، نهضت أمي من حزنها لتقول: "الطنجرة من نصيبي".

الجملة التي سبق أن قالتها لها جدتي لم تحظ بإعجاب البقية، وجدوا أن أمي طامعة في "الطنجرة" التي تساوي مبلغاً كبيراً حال بيعها. بدأت كل واحدة تقول إن الطنجرة من حقها، وفي النهاية وعندما دخل خالي ليفضّ هذا الاشتباك فيما بينهن، انسحبت أمي وتركت الطنجرة، ولم تهتم وقتها من أخذتها.

طنجرة وحيدة

لم تمر أيام كثيرة حتى جاء خالي الأكبر لزيارتنا ومعه الطنجرة. تركها لأمي بعدما أخبرها أنها من نصيبها كما أوصت جدتي. لم تكن أمي تتوقع أن تعود إليها تلك القطعة الثمينة من رائحة والدتها المتوفاة، ولم تظن أن خالتها وعمتها سيتخليان عنها بهذه السهولة.

لم تجرؤ أمي أو تحاول مس طنجرة جدتي. وضعتها تحت السرير بنفس الطريقة التي كانت تضعها فيها جدتي، لم تحاول أن تضع فيها الطحين لتعجنه ثانية، وقدّر للطنجرة أن تفتقد أيادي حنونة تلمسها بعد رحيل جدتي.

طنجرة جدتي ربما تصل لي أو لأختي يوماً ما، ولكنها لن تعود أبداً كما كانت، لن تشعّ سعادة، ولن تنتقل بين الجارات في حنو وترحيب. ربما ستبكي دائماً، مشتاقة للمسات جدتي وذرات الطحين

لم أفهم يوماً منطق الأمهات والجدات والأخوات أيضاً في التعامل مع الأشياء. عندما رحلت حماة شقيقتي تركت الكثير من الأشياء القديمة في المطبخ، حرصت أختي على أن تحصل على نصيبها من هذه التركة. عادة تظل الأواني والأطباق ترقد في ثبات مملّ، لا تتزحزح. تحتفظ أختي بكل تلك الأكواب والأطقم الغالية التي اشتراها لها أبي بآلاف الجنيهات، في نيش ثمين ترفض أن يلمسه أحد، لا تستوعب فكرة أننا عادة ما نرحل ونترك ورائنا الأشياء الثمينة التي حاربنا من أجلها لسنوات.

تظل أمي وأختي تحتفظان بهذا الفستان الغالي وهذه العباءة الثمينة من أجل تلك المناسبة المجهولة التي ربما تأتي بعد عام أو اثنين أو حتى عشرة، ولكن عندما ستأتي حتما ستجدان ما ترتديانه دون عناء التفكير والبحث. هذا الحذاء الذي لم يلمس نعله الأرض سوى مرتين أو ثلاث، يستكين بين محتويات دولاب أختي في صمت عاجز لا يقوى على التذمر والصراخ.

لسنوات كنت من وقت لآخر أراقب طنجرة جدتي وهي ترقد في مكانها الثابت تحت السرير دون أن يحركها شيء، ربما تذكرت أمي مرّة أن تنفض عنها التراب، ولكنها أبداً لم تعدها لمجدها السابق في استقبال الطحين واحتضانه والتجانس معه لصنع عجين يشم رائحته القريب والبعيد.

طنجرة جدتي ربما تصل لي أو لأختي يوماً ما، ولكنها لن تعود أبداً كما كانت، لن تشعّ سعادة، ولن تنتقل بين الجارات في حنو وترحيب. ربما ستبكي دائماً، مشتاقة للمسات جدتي وذرات الطحين.

إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard