كنت في التاسعة، أكبر أو أصغر بقليل، عندما بدأ الأمر. لم أفهمه وكان من السهل كتمه بداخلي، لكنني فكّرت كثيراً حينها بأن حركة يده على مؤخرتي ليست اعتيادية ولا حتى مريحة، لكنني حينها أنكرت شعوري، وتجاهلت ما يحدث.
لم يكن التحرّش حدثاً عابراً في حياتي كطفلة، بل كان شيئاً كثيفاً، ذا قدرة على الهدم، مربكاً وقاتلاً. لم أفهمه حينها، ولم أشعر سوى بالتقزّز مما كان يقوله ويفعله ذلك الرجل العجوز، ولأنني كنت طفلة شرهة للحياة وللعب، سكتُ ولم أتحدّث عن الموضوع. تجاهلته ككل شيء آخر مثير للقلق تحاول نسيانه على أمل أن يختفي من تلقاء نفسه، تركته يحتبس في اللاوعي الخاص بي.
كان يلمس مؤخرتي في بادئ الأمر، وكنت أتصلّب. أشتري ما أرغب به وأهرب، من ثم بدأ يطلب مني لمسه مقابل أن يجعلني آخذ أشياء مجّاناً، وعندما أحاول تذكّر ردة فعلي لا أستطيع، كأن عقلي يحظر أي معلومة تتعلّق بالموضوع. ربما كانت ردّة الفعل هذه موجعة، أو كانت مربكة، ولكنني أتذكر رفعه لإزاره وإظهار عضوه العجوز، ولم أستطع أمام ذلك سوى الهرب، والعودة مع صديقاتي اللواتي تعرّض أغلبهن لنفس الأمر.
وفي عالمٍ كعالمنا كان الحل الذي يقدمه الأهالي، إن لم يكن لوم الضحية/الطفلة، هو إبعاد الفتيات عن الحياة العامة، حصر لعبهن في أماكن محدّدة ومنعهن من الذهاب للدكان، اللوم وتأنيب الضمير، وفي كثير من الحالات العجز من قبل الأمهات، لذا قرّرت عدم التحدّث، ليس خوفاً من ذلك كله فقط، بل إنكاراً لما كنت أعيشه.
كنت أتعرّض للتحرّش من أكثر من شخص، فقد كان أحد أقاربي كثير التحرّش بي، وعندما كبرت وبلغت، أصبح صدري مخيفاً بالنسبة لي، فهو أداة جديدة قابلة للاستعمال، ولا أعلم كيف استطعت أن أكبر، لأشعر بالتقزّز من صدري وجسدي ولوثته تلك
المرعب الذي أتذكّره الآن أنني كنت أتعرّض للتحرّش من أكثر من شخص، فقد كان أحد أقاربي كثير التحرّش بي، وعندما كبرت وبلغت، أصبح صدري مخيفاً بالنسبة لي، فهو أداة جديدة قابلة للاستعمال، ولا أعلم كيف استطعت أن أكبر، لأشعر بالتقزّز من صدري وجسدي ولوثته تلك.
كنت أقف أمام المرآة، أتمنى لو كان بإمكاني تقطيع جسدي، إلغاءه، وعدم الاقتراب منه، فذلك الاستغلال كان يشعرني بالقرف من ذاتي، وكنت ممتلئة بلوم الذات، وكراهية الجسد الموسوم بالعار الذي كنت أصبّه على نفسي.
كنت مملوءة بالعار، ليس منهم فحسب، ولكن من ذلك المجتمع الذي يتظاهر بالمثالية، ويسكت عن تعرّض أطفال للتحرّش، من خلال قمع النساء وتعييرهن بهويتهن الاجتماعية، والرغبة العظيمة التي يمتلكها ليحافظ عليهن "شريفات" حتى وهن طفلات، فيزرع في رؤوسهن ذلك العنف القاسي، المتمثّل في الشرف والعفة، تجاه الذات، الذي يزيد يوماً بعد يوم، فتصبح فيه الفتاة أداة مؤدلجة، ممتلئة بشعور الذنب، وخائفة من أن تقرّ حتى لنفسها بما حدث ويحدث.
لم أستوعب قط كيف كان هذا الاستعمال والاستغلال الجنسي، والشعور بالعار، قادرين على هدمي، إلا عندما أصبحت واعية -في سن 17 سنة وصاعداً- بالإساءة التي كنت أتعرّض لها، فشعوري بالعار ازداد مع تكثّف النزعة الدينية في المجتمع، النزعة التي تحثّنا على عدم الاقتراب من الذكور، وتقديس أجسادنا، وتغطيتها كي لا تلمسها "الذئاب".
تساءلت طويلاً حينها: ما الذي كان يجب عليّ فعله عندما حدث ما حدث؟ هل كان عليّ تغطية جسدي؟ كنت أنكر ذاتي كثيراً وأبتعد عنها، وأجعلها تغوص في شعورها بالعار والذنب، وأحاول غسل شعوري هذا بالصلاة المشحونة بالخوف.
غيابي الطويل عن تلك البيئة، وامتناعي عن الذهاب لأماكن الاساءة، جعلني أصرف وقتاً للفهم، والتجاهل، والبناء، فقد تعلّمت أكثر عن الإساءة الجنسية التي يتعرّض لها الأطفال والمراهقون، واتسع وعيي بأن جسدي ليس عاراً بل فخر، فهو ناجٍ، وكل ناجٍ يستحق أن يفخر بنجاته، ولم يكن مقدّساً؛ فالقداسة هي منبع الذنب، تقديس جسد الأنثى هو الذي يجعلها دائمة الشعور بالذنب، لذلك تعلّمت كيف أُسقط هذه القدسية مع الوقت، بأن أحب جسدي ولا أقمع رغباتي خوفاً من أن أكون منحرفة، أو أن أكون قد قبلت وأنا طفلة بتلك الاساءة، أن أكون سبباً فيها.
تجربتي ليست الوحيدة بكل تأكيد، يتعرّض الأطفال في عُمان للتحرّش من مصادر متشابهة، وأحياناً يعلم الأهل بذلك، ويصمتون، خوفاً من العار فقط المصاحب للفضيحة، وتخفيه النساء خوفاً من أزواجهن
تجربتي ليست الوحيدة بكل تأكيد، يتعرّض الأطفال في عُمان للتحرّش من مصادر متشابهة، فصاحب الدكان الذي تحرّش بي، كان لفترة قريبة يتحرّش بالأطفال، وأحياناً يعلم الأهل بذلك، ويصمتون، خوفاً من العار فقط المصاحب للفضيحة، وتخفيه النساء خوفاً من أزواجهن.
تعرّضت معظم النساء اللواتي تعاملت معهن في حياتي للتحرّش في طفولتهن، سواء من أقارب أو من آخرين، فقد تعرّضت صديقة مقربة وأختها للتحرّش من قِبل خياط ملابس، وهو أمر علمت به أمها، وصمتت لم تتحدّث، ولم تدافع عنهما، أو من أطفال بنفس أعمارهن في المدارس أو في الحارات، وهذا ما سمعته من صديقة مقربة.
ما أحاول أن أخبره لكل صديقاتي اللواتي تعرّضن للتحرّش بأن ذلك لم يكن ذنبهن، وبأن كراهية الجسد تزيد من الإساءة التي نتعرّض لها، والحب الذي نمنحه لأجسادنا يجعلنا نستشعر الإساءة ونتقبّل ما حصل مع غضب تجاه المسيئين، وذلك يجعلنا نحاول إصلاح الواقع المعاش الذي لازال يعرّض الكثير من الأطفال للإساءة، وذلك من خلال تغيير الوعي المجتمعي حول التحرّش، وخلق بيئة آمنة للأطفال والنساء للحديث والتعبير.
يقرّ القانون العماني عقوبة لأي أفعال ضد الطفل، كالاغتصاب أو التحرّش الجنسي، وأقرّت المادة (72) بدلالة المادة (56) من قانون الطفل بأنه "يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن خمس سنوات، ولا تزيد على خمس عشرة سنة ، وبغرامة لا تقل عن خمسة آلاف ريال عماني، ولا تزيد على عشرة آلاف ريال عماني"، ورغم ذلك يتعرّض الأطفال للتحرّش، ويُساء لهم في منازلهم التي يجب أن تمثل الدفء والحب والراحة، فما فائدة القانون إذا كانت البنية الفكرية للمجتمع جامدة وغير قابلة للتغيير، و"السمعة" هي المقياس الحقيقي لكل شيء، وهي الأسهل تلويثاً في مجتمعنا؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومينأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ 3 أياملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 6 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...