شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
محاولة لكتابة نص تنمية بشرية... الخفّة التي يجب أن تُحتمل

محاولة لكتابة نص تنمية بشرية... الخفّة التي يجب أن تُحتمل

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الاثنين 29 يوليو 202411:06 ص

منذ وقت (ربما قد صار بالنسبة لي الآن، وقتاً طويلاً) تواصلت مع مركز تجميل بسبب مشكلة جلدية، وحتى تتمكّن الطبيبة من تحويلي للقسم المناسب لبشرتي ومشكلتها، طلبت مني وصفاً دقيقاً لحالتي، وبناء على وصفي، حدّدت الموعد ووضعتني تحت إشرافها هي شخصياً.

حتى الآن أتذكر دهشتها وهي تنظر في وجهي ثم تقرأ وصف الحالة أمامها. تابعت إجراءاتها الروتينية، وبعدها نظرت في عيني مباشرة وبساطة شديدة، ودون أي مقدمات قالت لي: "ربما أنت لا تحتاجين طبيباً جلدياً بقدر ما تحتاجين طبيباً نفسياً، ما وصفته ليس أنت". تلك العبارة، رغم أني لم آخذها بجدية كبيرة في ذلك الوقت كانت سبباً لرفع الغطاء فيما بعد عن حقيقة لطالما تجاهلتها: لم أحب نفسي يوماً، وكنت أراها دائماً بأسوأ صورة، والأسوأ اقتناعي بأنها كذلك.

قبل خطوة من الانحدار

لطالما اعتقدت أني أفهم حقيقتي وأنّي أعرف جيداً من أنا. لم يكن لدي أي مخاوف تجاه المرأة التي أراها في مرآتي، ولا تجاه آرائها، ونظرتها لما يجري حولها، ولم ينتابني الشك بها إلّا منذ سنوات قليلة، وتحديداً بعد أن توقفت رغبتي بالعيش، رغبتي القديمة بابتلاع الحياة بكل تفاصيلها، حتى صار مجرد إلقاء نظرة سريعة عليها يثير حزني. لم أعد أقتنع بمن أكون، ولم أعد أرى أي شيء يخصني، داخل جسد من الواضح جداً أنه يشير إلي.

 كان هذا الاكتشاف مروعاً بالنسبة لي، وكأنك تقبض بيد على الحقيقة، ولكنك من اليد الأخرى تفلت نفسك، فتعود طفلاً صغيراً يريد اكتشاف كل شيء من جديد، لكنه داخل سجن، وليس السجن إلا جسده الكبير.

 من يومها بدأت الطاولة تُقلب فوق رأسي، فقدت مهارتي بالتعامل مع حياتي على أنّها حدث بسيط وعابر وحتماً عليه أن يكون حدثاً سعيداً، وبدأت بالبحث عن شيء ما يعبث داخلي ويخرّب كل ما جمعته طيلة حياتي من أفكار ويرمي بها في الجحيم.

فقدت مهارتي بالتعامل مع حياتي على أنّها حدث بسيط وعابر وحتماً عليه أن يكون حدثاً سعيداً، وبدأت بالبحث عن شيء ما يعبث داخلي ويخرّب كل ما جمعته طيلة حياتي من أفكار ويرمي بها في الجحيم

 "في عوالمنا الداخلية تكمن الحقيقية النهائية...". عبارة سيوران هذه أسدت لي أهم خدمة في حياتي، لأنها ببساطة عدّلت لي الإشارة، فبدأت رحلتي لقراءة ذاتي من داخلي وبعيداً عن الارتباك الذي يسببه الوجود الدائم للآخرين في حياتي.

البداية

كل صباح عندما أفتح عيني، أتساءل: هل سأمضي عمري هكذا، أدور حول نفسي، وكأن عمري كاملاً ليس أكثر من أسبوع واحد لا أتوقف عن تكراره، من لحظة التذمّر عند الاستيقاظ والاحتجاج على حياتي التي تمضي أمامي وأنا أشعر أنها لا تخصني، وحتى لحظة الارتماء في السرير منهكة والغرق في النوم وكأنه من أعظم انتصاراتي؟

 بدأت أبحث عن أي طريقة للتوازن فقط، عن أي طريقة لإخفاء كل ذلك البؤس المكدّس الذي ظهر فجأة داخلي، وكلّ الذكريات المشوهة التي أنكرتها لزمن طويل، لأظهر بالبساطة المناسبة لهذه الحياة التي عليّ أن أعيشها. ربما، نجحت في عدم السقوط لكني بالتأكيد فشلت في الحفاظ على ذاتي كاملة، فشلت في العيش كشخص واحد يعرف جيداً شكل حياته وموضع خطواته ووجهته أو على أقل تقدير يعرف من هو، دون أن يحتار بين أجزائه التي تتناوب عليه.

حفرة أخرى، الأمومة

ولأزيد الطين بلّة، أنجبت، وبدأت التعامل مع تلك الأمومة وفق دستور مقدّس لا خروج عنه. كنت أمارس أعمالي كاملة، كان ينقصني دائماً الشكّ بها، الشكّ بما ورثته عن أمي وجدتي وجاراتي وخالاتي، تعلمت الصمت والتأقلم بدلاً من الرفض، فأنا لزمن طويل اعتقدت أن صوتي لا ينجح إلا في إثارة المشاكل في الخارج والرعب في الداخل.

تبدو كلمة (صدقوني) هنا مستهلكة وفيها الكثير من الوعظ، لكن صدقوني، لا وجود لأي اكتشافات جديدة ونحن نقبع في تلك القمة الوهمية التي صنعناها لأنفسنا بإشراف الآخرين

خلعت أمومتي ولبستها عشرات المرت في اليوم، عجزت عن الاستمتاع بها، عرفت فقط كيف أراها مسؤولية وحملاً ثقيلاً.

"نحن ندرك العالم وفقاً لحاجتنا، لا كما هو"... وهكذا صار العالم بالنسبة لي سباقاً وعلي الركض، لأكتشف فجأة أن الفوز لا يعنيني، وأني أرى نفسي كما يراني الآخرون لا كما أنا، فبدأت تلك الأصوات داخل رأسي  بالصراخ دون توقف، وتذكيري بأن هذه المرأة التي لا تتوقف عن التذمّر والحديث عن خيبتها وحزنها وضجرها ليست أنا، وأني لست إلّا تلك الفتاة الصغيرة التي لم تتحمل نداء البحر عندما شاهدته للمرة الأولى، فرمت بنفسها بفستان العيد الجديد والوحيد في أحضانه، غير مكترثة بكل اللاءات التي كانت تتطاير في الهواء خلفه.

الانحدار

في فيلم Poor Things تخرج البطلة (عقل طفلة صغيرة في جسد امرأة ناضجة) لاكتشاف نفسها بعيداً عن عالمها المألوف، اكتشافها لجسدها أعطاها الشرارة الأولى. فهمت أن البقاء في الداخل سيجعلها محدودة حتى في اكتشاف جسدها، وفي الخارج كان عليها الانحدار بجسدها قبل كل شيء، الانحدار نحو ما يسميه الجميع قاعاً، لتبني مجدها الخاص خارج أي زيف يفرض عليها من أي أحد، ثم بدأت بالنهوض وصنع شخص يشبهها.

وأنا كنت أحتاج هذا الانحدار نحو القاع، أن أختار بنفسي السقوط في الهاوية على البقاء متشبثة بالأرض بيد واحدة. لم أعد راضية عن العيش مثل آلة تدار بزرّ وتطفأ بآخر. قد تبدو كلمة (صدقوني) هنا مستهلكة وفيها الكثير من الوعظ، لكن صدقوني، لا وجود لأي اكتشافات جديدة ونحن نقبع في تلك القمة الوهمية التي صنعناها لأنفسنا بإشراف الآخرين، لا اكتشافات جديدة ونحن نلقي الخطابات التي حفظناها غيباً من الأعلى وننظر من بعيد للأسفل.

 قربتني الحرب وقتها من الموت دائماً، وبذلك اختبرت مشاعر كثيرة خارج السياق الطبيعي الذي تعوّدت عليه، ورغم قسوة الحقيقة، أحببت الحياة على بعد خطوة من الموت. فهذا الاقتراب المباشر منه يجعلك تفكر كثيراً بجدوى أي شيء تقوم به، وبقيمة أي شعور تمرّ به، فهذا الغول سيبتلع كل شيء في نهاية المطاف فأي قيمة ستكون للخطأ والصواب؟ لم أفكر لحظة بالعواقب، هذه المرة كانت حاجتي من الحياة، الوحل، الكثير الكثير من الوحل.

العودة

كما عادت البطلة في الفيلم ذاته عدت، خاطرت بطلب موعد من نفسي، دخلت معها في حديث طال تأجيله. كنت بحاجة لمعرفة من أنا وسط كل هذا الخراب، ماذا أريد؟ ماذا أحب أن أفعل؟ ماذا أكره؟ كيف علي تربية أولادي؟ وكيف علي أن أستعيد نفسي؟

أعدت تعريف البديهيات من الأمور، النجاح مثلاً قد يعني كل شيء ولا شيء في الوقت نفسه، فالنجاح الذي يأتيك من الخارج لن يعني لك شيئاً. تعلمت أنه لا يمكن الاستثمار في أي أمر لا ينبع من دواخلنا ويرضيها، وهذا ينطبق على إدراكنا لكل شيء، الحب، الحياة، السعادة، الزواج..

خلعت أمومتي ولبستها عشرات المرت في اليوم، عجزت عن الاستمتاع بها، عرفت فقط كيف أراها مسؤولية وحملاً ثقيلاً

لذلك، أول ما فعلت هو تمزيق كل تلك الجداول المعدة مسبقاً للأمور التي عليّ القيام بها، أنزلت عن ظهري تلك الحمولة الثقيلة من التوصيات والأحكام واللاءات، حددت أولوياتي، الخطوط الحمراء في حياتي بعد أن تجاوزتها جميعاً، أخرجت مآسي بكل ما فيها من رعب، وضعتها على الطاولة أمامي. لم أرد أن أجهز عليها، حاولت فقط فهمها لأدرك أخيراً أن الحياة لعبة ولديك الخيار لتستمع أو لتشاهد فقط. ولأتكمن من الاستمتاع لو قليلاً علي أن أكون أنا، وخارج ذلك لست إلا نسخة وقعت في فخّ التشابه الذي نصبته لنا الجدات.

الخفة

"لن أعلّم بناتي كيف يكون الشخص الناجح، بل يهمني أكثر أن يعرفن من هو الشخص الحقيقي، الشخص الحقيقي بكل الخطر الذي يحمله على نفسه وعلى الآخرين"، كتبت عبارة رفيف المهنا، هذه وعلقتها على مرآتي. لأتذكر دائماً عندما أنظر لنفسي أن أكون حقيقية.

بدأت أشعر بالخفّة، بعد أن تحرّرت من كل الأشياء التي صنعتني، من كل الأشياء التي جعلتني متشبثة بكل ما كان في بشكل مقيت ومرعب، والأهم أني لم أعد راغبة أبداً بنبذ الماضي، على العكس تماماً أريده معي دائماً، لأشعر في كل لحظة كم تبدّلت. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image