كنت طفلة نحيلة، بريئة، في سنّ الثالثة عشر، أتمايل بين الطفولة والرغبة بأن أصبح كأخواتي، "صبية" مكتملة. وجدت نفسي أمام قرار ارتداء الحجاب. لم يكن ذلك القرار مجرّد اختيار بسيط لشكل الملابس، بل كان أشبه بإعلان أنني أنتمي إلى هذه العائلة الملتزمة دينياً، وإلى هذا المجتمع العشائري الذي تتشابك به العادات والتقاليد مع نوعية الطعام. كان إعلان أني "منهن".
في ذلك الوقت، كان الحجاب بالنسبة لي أكثر من مجرّد قطعة من القماش تغطي رأسي الصغير؛ كان رمزاً للاحتفاء بقوة إرادتي الصغيرة، كي لا أشعر أنني مختلفة وغريبة، بل واحدة من الأخريات. شعرت بنشوة عارمة، كما لو أنني امتلكت قوة وأماناً لا مثيل لهما، دفعتني إلى الاعتقاد بأنني فتحت باباً للفوز في الدنيا والآخرة في الوقت ذاته، أمان للدنيا ورشوة للآخرة.
ما زاد نشوتي آنذاك، هي نظرة الإعجاب من الفتيات حولي، و قرار ثلاث منهن ارتدائه، ليحصلن على ما حصلت من تشجيع من حولي، عائلتي، صديقاتي، وحتى معلماتي في المدرسة الابتدائية اللواتي باركن قراري بشدة كأنهن من سيحصلن على الثواب، وأن يكتسبن نفس الهدايا والأموال التي تلقيتها كمكافأة، وأغطية الرأس الملونة والمزينة بالورود، أن يشعرن كما شعرت، أن لي مكانة خاصة بين أقراني، وكأن نافذة سحرية انفتحت على مصراعيها، قادتني لعالم ملؤه الاحترام والتقدير.
في عائلتي، لم يكن خيار عدم ارتداء الحجاب مطروحاً، لكنه لم يكن يأتي بالإجبار إلّا بعد أول زيارة للدورة الشهرية، ذلك أنه، بحسب ما يعتقدون، اليوم الذي تبدأ فيه الملائكة بفتح "دفتر الحساب" وعدّ الحسنات والسيئات، أي يوم "التكليف الضريبي"، وفي مجتمعي العشائري العربي، في مدينة الحسكة، شمال شرق سوريا، كانت العادات والتقاليد تسيطر على حياة الأفراد أكثر من الدين، ولم يكن الحجاب نابعاً من الدين، بل من ضرورة اجتماعية، ما خلق تناقضاً واضحاً بين ما هو مقبول اجتماعياً وما هو مطلوب دينياً.
في عائلتي، لم يكن خيار عدم ارتداء الحجاب مطروحاً، لكنه لم يكن يأتي بالإجبار إلّا بعد أول زيارة للدورة الشهرية، ذلك أنه، بحسب ما يعتقدون، اليوم الذي تبدأ فيه الملائكة بفتح "دفتر الحساب" وعدّ الحسنات والسيئات، أي يوم "التكليف الضريبي"
في ذلك المجتمع الذي كنت أعيش فيه، التناقضات تطفو فوق أي منطق. على سبيل المثال، كان من غير المتعارف عليه عدم ارتداء الحجاب، لكن يمكن أن أخلع حجابي في عرس ابن عمي، أخي أو في عرسي، مع أن أعراسنا مختلطة، ليست كأعراس دمشق وحلب وحماة، وغيرهما من المدن السورية التي تفصل الرجال عن النساء في الأعراس.
لم أكن أفكر بعمق في تلك التناقضات في ذلك الوقت، بالنسبة لبراءتي حينها، كان ارتداء الحجاب يعني القبول، الجنّة والانتماء، والأهم: الرضا. لم يكن هناك مجال للتساؤل حول سبب ارتدائي له وعدم ارتداء أخي مثلاً، أو ما إذا كان يناسبني شخصياً أم لا. كان جلّ ما يهمّني حينها، أنني أصبحت جزءاً من مجتمعي الذي حدّد، بشكل أو آخر، مسار حياتي في سنوات طفولتي ومراهقتي، ومن عائلتي المعروفة في تلك المنطقة بأنها ملتزمة دينياً، وألّا يتم نبذي.
عندما بدأت أكبر، شعرت بفقدان جزء من طفولتي بسبب التزامي بالحجاب، كحرماني من الفساتين الجميلة المكشوفة، وعدم إيجادي لملابس أطفال محتشمة، فكانت أمي تشتري قطع القماش و تخيطها لي الجارة الماهرة، لأرتديها في المناسبات أو الأعياد. كنت أبدو كامرأة مكتملة النضج بجسد طفلة، غارقة بين حدود الطفولة والنضوج المبكر جداً. مع أنني كنت طفلة شقية جداً، إلّا أنني كنت مجبرة أن ألعب وأنا مرتدية طبقات من الملابس في جو حار، أشبه ببذلة غوص محيطات في صحراء جافة.
حينها بدأت التساؤلات تدور في ذهني: هل نرتدي الحجاب حقاً لأنه فرض في الدين الإسلامي الذي ولدت عليه؟ بمعنى أدق، هل هو شرط لإرضاء الله، أم هو عادة مجتمعية؟ و السؤال الأهم، كيف لمجتمع يسمح بإزالة الحجاب في الأعراس المختلطة أن يكون بهذه الصرامة مع من تريد خلعه أو عدم ارتدائه؟ هذه التساؤلات بدأت تراودني باستمرار، ودفعتني إلى إعادة التفكير في معنى الحجاب ودوره في حياتي.
كان اختلاطي مع فتيات من مختلف المدن السورية، حين سافرت إلى دمشق لألتحق بكلية الأدب الانجليزي، بداية للتعمّق في تساؤلاتي، حيث بدأت حينها الصورة النمطية التي تربيت عليها تتلاشى ببطء. أدركت أن الحجاب ليس رمزاً للعفّة والأخلاق، وليس دليلاً على شدّة إيمان مرتدياته، فالعديد من الفتيات غير المحجبات أشدّ إيماناً مني، وأن ليست كل من ترتديه تؤمن بالفعل به. أذكر العديد من الفتيات اللاتي يخلعنه في الشام، وحين يعدن إلى منازل أهاليهنّ يرتدينه ثانية.
كانت والدتي دائماً تنتقد شعري القصير والمجعّد، معتبرة أنه غير لائق. كانت تتذمّر بانتظام من كونه "منكوش" وغير مرتب، وتراه سبباً آخر يجعلني أحتاج إلى الحجاب لتغطيته
بعد سنوات من التفكير والقراءة، قرّرت أنني لم أعد أريده، حين تعلّمت معتقدات الأديان والطوائف الأخرى. اتصلت بوالدتي لأعلمها بقراري. ظنّت أنني أمازحها بداية الأمر، لكنها سرعان ما أدركت جدية قراري. غضبت وتأزّمت صحتها كما لو أنها قد سمعت خبر موتي. لا أبالغ هنا بشدّة تمسكها بألا أترك "الدين"، والحجاب شرط رئيس بالنسبة لها لدخول الجنة.
كانت والدتي دائماً تنتقد شعري القصير والمجعّد، معتبرة أنه غير لائق. كانت تتذمّر بانتظام من كونه "منكوش" وغير مرتب، وتراه سبباً آخر يجعلني أحتاج إلى الحجاب لتغطيته. لم تكن ترى في شعري الأسود القصير الذي أحبّ سوى عيباً، وكثيراً ما كانت تردّد أنني لن أصبح أجمل بخلع الحجاب، معتقدة أن رغبتي في التخلّي عن الحجاب مرتبطة برغبة سطحية في تحسين مظهري. لم تستطع أن تفهم أن قراري كان أعمق من ذلك. كان يتعلّق برغبتي في أن أكون صادقة من الداخل والخارج، أنا أكون حرّة في أن أعيش بدون قيود تضطرني إلى إخفاء جزء من هويتي تحت قماش مزركش.
لم تكن تدرك أنني لم أكن أبحث عن الجمال الخارجي، لم تكن تدرك أنني كنت أرغب في أن أعيش حياتي دون الحاجة إلى التكيّف مع توقعات الآخرين حول العفّة والشرف، والتي كانت ترتبط في ذهن الجميع بالشعر المغطى. الشعر، بالنسبة لي، هو جزء من هويتي الطبيعية، من حقي أن أكون على طبيعتي دون الحاجة إلى التكيف مع معايير اجتماعية صارمة؛ كان تعبيراً عن رغبتي في أن أكون مثل أي كائن حي، وأقل عرضة للتقييم بناءً على مظاهر خارجية.
الجمال الحقيقي يكمن في قبول الذات والعيش بحرية واختيار ما يناسبني. لم يكن الحجاب أو الشعر هما ما يحدّدان قيمتي كإنسان، بل الشجاعة في اتخاذ القرارات التي تعبّر عن حقيقتي الداخلية
حاولت الاستمرار بارتدائه، أحياناً على شكل "توربان" وأحيان أخرى كغطاء رأس كامل، لكنني، ولأكثر من سبع سنوات، منذ اليوم الأول لقراري بخلعه، لم أجرؤ على خلعه أمام أمي، فما زلت إلى يومنا هذا، ومنذ أن خلعته بشكل كامل حين غادرت البلاد، أرسل لها صوراً وأنا مرتدية قبعة، في الصور التي أرسلها لأمي أو تلك التي أنشرها على وسائل التواصل.
ما عشته من ابتزاز عاطفي من أمي، لا يقتصر عليّ، أقصد أن العديد من الفتيات اللواتي أعرفهن واللواتي أعرف أنهن يعانين من نفس الضغوطات، ربما لا يكون العائق أمام قرارهنّ بخلع الحجاب هو ذكور عوائلهن، أو سلطة معينة تحكم مدنهن أو قراهن، بل أحياناً يكون فقط بسبب ابتزاز عاطفي يتعرّضن له، كما حدث لي.
قرار خلع الحجاب لا يشبه على الإطلاق القرار بارتدائه، لن يلقى ترحيباً أو احتفاء من أحد، حتى أولئك الذين لا يتبعون نفس دينك أو عاداتك، يشعرون بالاشمئزاز عادة من الفتاة التي تتخذ مثل هذا القرار. فعادة ما يُنظر إلى الفتاة التي قرّرت خلع حجابها وكأنها تخطت حدود المقبول، ويجب أن تكون على استعداد نفسي تام للكثير من الانتقادات.
كانت هذه الرحلة تتعلق باكتشاف نفسي، وتحديد هويتي بشكل يتجاوز ما يُفرض علي من الخارج. في رحلة البحث عن الذات، أعتقد أن الأهم هو أن يجد الإنسان التوازن بين ما يريد لنفسه وما يفرضه عليه المجتمع. الحجاب كان جزءاً من رحلتي الشخصية، رحلة البحث عن الهوية والانتماء.
وفي النهاية، أدركت أن الجمال الحقيقي يكمن في قبول الذات والعيش بحرية واختيار ما يناسبني. لم يكن الحجاب أو الشعر هما ما يحدّدان قيمتي كإنسان، بل الشجاعة في اتخاذ القرارات التي تعبّر عن حقيقتي الداخلية، بصرف النظر عن أي معايير.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه