كنت أتصفّح فيسبوك في اليوم الذي أعلنت فيه منصّات رسمية حضور ميريام فارس، على شكل شخصية مقاتلة في لعبة "ببجي موبايل". تصدّر الخبر الصفحات بشكل مرعب، وماس قدّ ميريام الميّاس في الصور والفيديوهات، بشورتها المموه وبلوزتها الكاكي "نصف بطن" وحذائها الرانج، بينما التفّ حزام أسود على فخذها، وتوضّع مسدس حربي في قبضتها، وافترّ ثغرها عن نصف ابتسامة مغوية.
وفي الحقيقة أنه ليست لدي مشكلة مع امرأة جميلة مثل ميريام، ولا مع لعبة عالمية مثل "ببجي" لا أعرف عنها أكثر من اسمها. مشكلتي كانت مع صنبور الصور الذي انفتح في رأسي لشوارب "يحيى التركي" ولحية "جبل شيخ الجبل" و"بلوزة نانسي" و"فستان هيفا" و"حمرة سيرين "، وجميع التريندات التي غزت الشوارع تزامناً مع غزو أعمال وأخبار أصحابها مواقع التواصل الاجتماعي والشاشات، الأمر الذي أيقظ فيّ كابوس عودة انتشار الملابس المموّهة إلى واجهات المحلات، وأجساد الناس العابرين في الأسواق والمنتظرين في الكراجات والمصطافين في القعدات الشعبية، والذي لم أصدّق يوماً أن سوريا سوف تتنظف منه بهذه السهولة، وفي مثل هذا الموقف لا يسعني سوى تقديم الشكر للعولمة والأيديولوجيا التي أنجبت ما يسمونه "العقلية الاستهلاكية".
مشكلتي مع صنبور الصور الذي انفتح في رأسي لشوارب "يحيى التركي" ولحية "جبل شيخ الجبل" و"بلوزة نانسي" و"فستان هيفا" و"حمرة سيرين "، وجميع التريندات التي غزت الشوارع تزامناً مع غزو أعمال وأخبار أصحابها مواقع التواصل الاجتماعي والشاشات
عن سوريا المموّهة
لباس ميريام فارس المموّه، والذي خشيت أن يعيد موضة هذا اللون إلى الأسواق، أعاد إلى ذاكرتي عقداً زمنياً تحولت فيه البلاد ‑ حتى المناطق الآمنة منها‑ إلى ثكنة عسكرية، ففي المرحلة الأولى لنشوب المعارك بين الأطراف المتنازعة في الحرب السورية، وحين اعتبر كل طرف نفسه صوت الحق الأوحد، وراح يقدّم قرابين أبنائه على مذبح العدم، اصطبغت البلاد باللون المموّه المدمّى، ورغم أنني لم أتواجد على الضفة الأخرى إلا أنني أستطيع أن أجزم أن معظم الشباب هناك في تلك الفترة حذوا حذو الشباب هنا، وارتدى معظمهم اللباس العسكري المموّه، حتى من لم يقرب ساحات القتال، فالعقلية التي فرضها الترعرع في ظلّ نفس المنظومة الدينية والعقائدية هي ذاتها هنا وهناك، وهكذا أصبحت الملابس المموّهة تلبس حتى خارج ساحات المعارك كنوع من الدعم والتضامن، واجب على كل شاب، حتى لو كان وحيد أمه ومعفى من الخدمة، وكأنها إقرار بكون كل فرد، دون استثناء، مشروع حطبة تنتظر دورها لدخول أتون الحرب.
في الضفة التي تواجدت عليها، كان الزي المموّه في مرحلة بدء المعارك أقرب لأن يكون تذكرة طائرة ‑درجة رجال الأعمال‑ إلى الجنة، فهو لباس جنود الله (من وجهة نظر جميع الأطراف)، يكفي أن يرتديه أي شخص ليتحوّل إلى قديس في عيون الآخرين، لا ينقص إلا أن يتمسّح الناس به ويأخذوا التبريكات (ولقد حدث شيء مشابه)، كأن هذا الزي "طاقية الإخفاء" التي تغيّب كل ماضٍ، وكأنه دائرة النور التي تغطي وجوه الأنبياء في المسلسلات الدينية، وتجعل الناس يتسابقون ليدفعوا عنه أجرة الميكروباصات، يقدمون له الأطعمة والمشروبات وأي شيء آخر يطلبه، أو لا يطلبه، الملاك الكاكي والزيتي ‑ليس الأبيض‑ هذه المرة.
في مرحلة تالية، ومع تصاعد الأحداث بين كرّ وفرّ، أصبح الزي المموّه أيقونة البطولة والنصر (من وجهة نظر الجميع أيضاً)، وصار البريستيج الاجتماعي الذي يحصده من يلبسه يغوي بارتدائه طيلة الوقت، فعادة ما كان المقاتلون يخلعون بزاتهم في فترات الإجازات ليغسلوها على الأقل، أو ليريحوا أبدانهم من قماشها الثقيل، ولم يكونوا يفضلون التجول بها في مناسباتهم الاجتماعية، فكل "يونيفورم" إلزامي مقيت وممل مهما كانت درجة أناقته وجودته، لكن التقديرات التي حصلوا عليها جعلتهم يضحّون بدائرة الراحة مقابل إشهار مكانتهم!
في فترة لاحقة، صار من يتزوّج يخيط بدلة مموهة بدل التوكسيدو، وصارت الرتب والنجوم على الأكتاف معادلة لربطة العنق في وضعيات التقاط الصور، وصارت أغاني من قبيل "يا عسكري ويا جندي جيب هدومك لعندي"، منافساً لكل أغاني الشبق والحب.
في المرحلة عينها، وكما هي العادة دوماً، ركب بعض المتطفلين (ولا أقصد هنا تبرئة أو اتهام أحد) قضية البطولة، واستغلوا موجة احترام العامّة لمرتدي اللباس المموّه، ساقوا في اللعبة حتى النهاية، حصلوا على الأولوية في كل طابور: طابور الخبز، طابور الصراف الآلي وطابور انتظار باصات النقل، وصارت عبارة: "أنا جاي من الجبهة"، وسيلة لاختصار الوقت والجهد.
خاط الوصوليون البذّات المموّهة وتبنّوا الطباع القاسية والصارمة التي يفرضها نمط حياة المحاربين، فصاروا يتجاوزون الدور ويفتعلون المشكلات ويسببون الأذى، مدركين أن لا مساءلة، وإذا ما اعترض أحد ردّوا: "بتعرف حالك مع مين عم تحكي؟"، أو "أنا عم روح موت كرمالك"، وما بين مموّه شغل معامل الدفاع وآخر من تفصيل عمو أبو شادي الخياط، ضاعت الطاسة واختلط الحابل بالنابل.
كان الزي المموّه في مرحلة بدء المعارك أقرب لأن يكون تذكرة طائرة ‑درجة رجال الأعمال‑ إلى الجنة، فهو لباس جنود الله، يكفي أن يرتديه أي شخص ليتحوّل إلى قديس في عيون الآخرين، لا ينقص إلا أن يتمسّح الناس به ويأخذوا التبريكات
النشل المموّه
فيما بعد، صار اللباس المموّه أداة للنشل الذي يسقط ضحيته أصحاب السيارات الخاصة على وجه الخصوص، أولئك المتنقلون بين المحافظات، فمن المعروف أن المقاتلين الحقيقيين عندما يمنحون إجازة قد لا يوفقون بتزامن خروجهم مع توفر حجز الباصات بين المدن، فكانوا يستوقفون السيارات العابرة، وفي مرحلة الحماس الأعمى عينها لم يكن أحد ليفوّت فرصة إقلال واحد من جنود إلهه، وهذا ما جعل قطّاعي الطرق يستغلون هذا الموقف، ولقد سمعنا كثيراً (هنا وهناك)عن حالات تعرّض فيها أصحاب السيارات للنشل، وربما للقتل، على يد شخص مجهول، يلبس بدلة عسكرية ويحمل حقيبة كبيرة استوقفه على الأوتوستراد.
ثم إن الثقة المطلقة التي منحها العامّة للمموّهين سببت أكثر من ميتات فردية، بل كانت سبباً في المجازر التي راح ضحيتها عشرات الأبرياء، بعد أن فطنت عقلية الشر إلى إلباس الانتحاريين الزي المموّه قبل دسّهم بين الجموع.
إلى جانب القداسة والأولوية والحصانة، كان "البلاش" سبباً في انتشار اللباس العسكري بين عموم الشعب، فقد حصل كثيرون على عدة بذّات تزيد عن حاجتهم، كما أن بذّات الزملاء الموتى فائضة عن حاجتهم أيضاً، بذّات توهب أو تباع، جعلت بمقدور الأغلبية من الرجال المدنيين الحصول على واحدة، ثم إن هذا الزي الذي صمّم خصيصاً لتسهيل عمليات الاختفاء، كان مناسباً لبعض الحرف، وخاصة في القرى، كالصيد مثلاً. صيادو الطيور كانوا يحرصون على الحصول على بزة مموّهة تخفيهم في الأرض الزراعية عن عيون الطيور، وصيادو السمك أيضاً وجدوا في المموّه ما يخفي آثار جلوسهم الطويل على ضفة النهر الموحلة، كذلك الأمر بالنسبة لعمال البناء والعتالين والمزارعين وعمال محطات الوقود، وكل من يحتاج إلى سترة أو بنطلون لا تظهر عليه الأوساخ، أو بجيوب كثيرة، أو فيلد عسكري قاهر لبرد يقاسيه المقاتلون النائمون في العراء.
ثم كان انتقال الزي العسكري إلى الرجال معادلاً لانتقاله إلى النساء، فالحرب السورية أيضاً فتحت أبوابها للسيدات الراغبات بدخول معترك البارود والدم، منحتهنّ أيضاً بذّات مموّهة، أضافت إلى جانب ملامحهنّ الجميلة وشعرهنّ المتهدل جاذبية من نوع خاص، فصرن كأنهن بطلات خارقات، خارجات من أفلام الكارتون، مشابهات للواتي شكّلن الفانتازم البدائي وأول الشبق، وهذا ما جعل حتى غير المقاتلات يرغبن بتقمّص هذا الدور، الأمر الذي انتبه إليه "صنّاع الموضة" المحليّون، فامتلأت واجهات المحلات بتفصيلات تعزّز هذه التصورات، فساتين مموهة، بناطيل، بلوز، سترات، وحتى ملابس داخلية ولانجري مموّه!
وبالتأكيد كانت للأطفال حصّة، فالزي المموّه الذي عزّزت الثقافة الشعبية وحكايا الأمهات والجدات بطولته، نافس ملابس سوبرمان وسبايدرمان، الألعاب أيضاً تموّهت، زجاج السيارات، الأحذية وحتى البروفايلات على فيسبوك! وبتنا نرى جلسات تصوير عائلية يرتدي أفرادها العابسون ملابس مموّهة، بديلة عن تلك المعتادة التي تضم أفراد الأسرة، متعانقين، ضاحكين بملابسهم البيضاء الشفيفة، وهذا ليس مستغرباً، فالبلاد بحد ذاتها تبرقعت وتلونت كل منطقة فيها بعلم الدولة التي بسطت سيطرتها عليها، وأصبحت بكلّيتها أشبه ببذّة مموهة، بجيوب كبيرة وكثيرة، تتسع لمن هبّ ودب، لا تظهر عليها الاوساخ رغم كل النجاسات.
الحرب السورية فتحت أبوابها للسيدات الراغبات بدخول معترك البارود والدم، منحتهنّ أيضاً بذّات مموّهة، أضافت إلى جانب ملامحهنّ جاذبية من نوع خاص، فصرن كأنهن بطلات خارقات، خارجات من أفلام الكارتون، مشابهات للواتي شكّلن الفانتازم البدائي وأول الشبق
لقد كان للأمر أن يمر بسلام، وأن يكون اللون المموّه لوناً موسمياً عابراً، تجيء به موضة الشتاء وتذهب به موضة الصيف، لكن الحالة الكاملة التي يتقمّصها الفرد مرتدي هذا اللون هو ما كان كارثياً، فالناس عندما ارتدوا لباس الحرب قد لبسوا معه قسوتها ونزقها، بطشها وجنونها، ثورانها المفاجئ ووجهها الغاضب، تطبّعوا بهذه الطباع التي تلائم التنكر، ونسوا أنها مجرد تمثيلية، أصبحوا أكثر عدوانية حتى في أبسط تعاملاتهم اليومية، يسمون الصبية الحلوة "صاروخ"، يغنون لها "الطلقة الروسية"، يرمون القنابل في مشادة كلامية، يطلقون النار عندما يبتهجون، تقسّموا بدورهم إلى طبقات حسب القوة، وصاروا يتعمّدون إخافة الآخر الأضعف، وكأنه لا يكفيه ما يعيشه من خوف، مجسّدين مقولة ابن خلدون "المغلوب مولعٌ أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيّه ونحلته وسائر أحواله وعوائده"، والضعفاء ‑ وكنت منهم‑ أصبحت عندهم عقدة المموّه، يتحاشونه ويذعنون له. ألا يذكركم كلامي بعبارة أحمد عز في فيلم "الممر": "البسوا المموه، بيخافوا منه".
لذلك يا عزيزتي ميريام، لا تضحكي ولا تستغربي إن أخبرتك أن شورتك المموّه الجميل أقلقني. خفت أن يعيد تحضير جنّ الاقتتال في بلادي، أو أن ينفخ في جمر ملامح عابسة غطّاها رماد مؤقت.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه