شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
من عكّا إلى طهران… أمومة في وجه الظلم

من عكّا إلى طهران… أمومة في وجه الظلم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن وحرية التعبير

الثلاثاء 9 يوليو 202410:46 ص
Read in English:

From Akka to Tehran... Motherhood in the face of injustice

لم أكتب مقالاً واحداً منذ أن بدأت حرب الإبادة الجماعية على أهلنا في غزة. لعدة أشهر تجنبت هذا اللقاء مع الكتابة. فعندما بدأت ممارستها في أواخر عشريناتي في عكا، كان ذلك عن قناعة مني بدور الكتابة في فعل شيء أوسع منها، حتى لو كانت كتابةً شخصيةً، وفي أن تؤثر، وتُغيّر. الكتابة عندي فعل مقاومة في وجه الظلم، ومحاولة لرفع صوت المقهورين والمقهورات.

الكتابة عندي فعل مقاومة في وجه الظلم، ومحاولة لرفع صوت المقهورين والمقهورات.

لكن آلة القتل الإسرائيلية التي تبيد الفلسطينيين في غزة، أطفالاً ونساءً ورجالاً، على مرأى حكومات العالم وتبريراتها، جعلت من الكتابة مساحة شكّ في دورها.

أنا امرأة فلسطينية تشكّلت هويّتها ومشاعرها وخياراتها نتيجة الظلم الذي حلّ بأهلها إبان نكبة العام 1948، وما عاشته في فلسطين هُناك لأكثر من ثلاثين عاماً. بينما غادرت، ما زال أهلي وناسي هُناك. بشكل طبيعي، كانت الكتابة بالنسبة لي الفعل الأوّل في وجه كل من وما يحاول محو هذه المرويّات، وسرديات الناس، أي يومياتهم، مخاوفهم، أحلامهم، بقاءهم، صمودهم، وإصرارهم على الحياة.

والأهم، إن الكتابة هي محاولة لاسترجاع البيت المسلوب، أو على الأقل، الانتماء إليه، في بلاد فعلت إسرائيل كل شيء فيها منذ النكبة كي تُشعر أهلها بأنهم غرباء. كانت الغربة في البيت أكثر المشاعر قسوةً.

قررت أن أترك فلسطين قبل 9 سنوات، باحثةً عن بيت آخر في الغربة. وهو خيار في لبّ تحقيقه امتياز، كوني فلسطينيةً أحمل جواز سفر إسرائيلياً يتيح لي الحركة بحرية في أوروبا.

الأهم، إن الكتابة هي محاولة لاسترجاع البيت المسلوب، أو على الأقل، الانتماء إليه، في بلاد فعلت إسرائيل كل شيء فيها منذ النكبة كي تُشعر أهلها بأنهم غرباء. كانت الغربة في البيت أكثر المشاعر قسوةً

لم أكن أتوقع أن تصل سيرورة البحث "عن بيت في الغربة"، إلى تأسيس بيت بالفعل، وتكوين عائلة، وأن أصبح أماً.

لكن الآن، وبعد أن تعلّمت درساً آخر: فالأمومة ليست هويّة تُمنح لك دفعة واحدة، بل هي ممارسة عليّ أن أتعرّف إليها كل يوم، أتعلم منها، وأتحرر من أشياء أعرفها من خلالها. الأمومة هي ممارسة بدأت بفعل الولادة، وفي حالتي، حدثت بعيدة عن فلسطين، بيتي الأوّل. في الأيام والأشهر والسنوات الأولى التي كنت - وما زلت - أتعامل فيها مع هذه الهُوّية الجديدة، شهدت فلسطين "هبّة أيار" ومقتل الصحافية شيرين أبو عاقلة، وحرب الإبادة الجماعية على غزة، والعديد من الأحداث الأخرى التي وضعتني، أنا الأم الفلسطينية البعيدة أمام السؤال: كيف يمكن أن أواصل فعل أي شيء، حتى لو كان بسيطاً، في مواجهة الظلم؟

قبل أسابيع، كنت أجهّز نفسي للخروج من البيت كي أنضم إلى مظاهرة من أجل غزّة في أمستردام. سألتني ابنتي إلى أين أنا ذاهبة؟ أخبرتها. لم تفهم أوّلاً، ثم قلت لها: "Free Free Palestine"، وذلك لأني كنت قد ذهبت وعائلتي قبل أيام إلى مظاهرة، وعليه الهتاف سيوضح لها وجهتي. أجابت وهي تضع يدها على أذنها: "ماما واوا"، وذلك لأنها انزعجت من الهتافات بصوتٍ عالٍ في المرة الذي ذهبنا فيها معاً إلى المظاهرة. فقلت لها: "معليش ماما. أنا عندي واوا قديم. عمره أكثر من سبعين سنة". ابتسمت لي، مع أنها لم تفهم شيئاً.

أصبحت أمّاً لابنتيّ التوأم في نهاية آذار/ مارس عام 2021. أردت أن أكون أمّاً طوال الوقت، حتى حين كنت أعيش في عكا. وعندما فكرت في الأمومة، لم يخيّل إليّ أن يكون الأب عندها غير فلسطيني، أو حتى غير عربي في ما بعد. لكن للقلب برامج أخرى دوماً، لذا اتجه نحو بلاد فارس، أو للأدق، نحو إيراني يعيش قسراً في أمستردام. عندما أخبرت أمي بقرار زواجنا، قالت ساخرةً: "بعتناكِ على أوروبا عشان تتزوجي إيراني؟ مالهن الهولنديين؟". ضحكتْ هي، وضحكت أنا. وقلت لها: "بس يا ماما، القلب دايماً بروح عند اللي عنده نفس الوجع".

إن ألمه، رغم أنه ليس مثل ألمي تماماً، هو أيضاً ألم فقدان البيت. لم أخسر بيتي بشكل مباشر، لكن جدتي وجدي فقدا بيتهما بعد أن تعرضت قريتهما إقرث للتطهير العرقي على يد الميليشيات الصهيونية. لقد عاشا حياتهما كلاجئين في وطنهما، وماتا قبل أن يتحقق حلمهما بالعودة. حقيقة، شكّلت حياتي، هويّتي، أحلامي ومخاوفي. وما يُسمى بالصدمة العابرة للأجيال.

خسر زوجي بيته بشكل مباشر. كان طفلاً في الثالثة من عمره عندما فرّ أبوه أولاً هارباً كي ينقذ حياته من القتل بعد تولّي الإسلاميين الحكم في إيران. هرب عبر الجبال ووصل إلى تركيا. من ثمَّ لحقه ابنه الطفل مع زوجته على الطريق نفسه إلى أن التقيا في تركيا، ووصلوا كعائلة لاجئين إلى هولندا. زوجي، الذي ترعرع في المنفى، لا يمكن له أن يزور بلده طهران، ووالدته التي عانت من الدمنشيا لسنوات طويلة، ماتت في المنفى وهي تحلم بالعودة إلى بلدها.

عندما أخبرت أمي بقرار زواجنا، قالت ساخرةً: "بعتناكِ على أوروبا عشان تتزوجي إيراني؟ مالهن الهولنديين؟". ضحكتْ هي، وضحكت أنا. وقلت لها: "بس يا ماما، القلب دايماً بروح عند اللي عنده نفس الوجع"

توسّع سؤال مواجهة الظلم في تقاطعه مع ممارسة الأمومة منذ أن أصبحت أمّاً لابنتين فلسطينيتين وإيرانيتين. ربما الإجابة عنه كانت لتكون أسهل -للأسف- لو لم أكن أستيقظ كل يوم على وجع فلسطين وإيران في البيت. هذا الألم يعيش في صورتين معلّقتين على حائطنا؛ معرضنا الخاص للمنفيات المتوفيات اللاتي طُردن من بلادهن ولكن لهن مكان في بيتنا؛ جدتي سلمى، ووالدة زوجي بروين.

في حياتي، الشخصي مساحة للحزن المشترك، لكنه أيضاً في المقابل مساحة للأسئلة الصعبة، لشرعية الواقع المركّب الذي لا يرغب في أن يجعل من حزن طرف في البيت أهم من حزن الطرف الآخر. والأهم، ألا تأتي مواجهة الظلم، تلك البذرة التي تحرّكني، على حساب ظلم آخر.

لا أحكي كثيراً لابنتيّ عن فلسطين، أو للأدق، لا أحكي لهما بالكلمات. أجد طرائق أخرى غير مباشرة حتى الآن؛ أحاول جاهدةً أن أجهّز المأكولات الفلسطينية التي تعلمتها من أمي، ونستمع معاً إلى أغانٍ فلسطينية تراثية وصولاً إلى تلك التي صدرت بالأمس، وأتحدث إليهما بلهجتي الأمّ التي هي مزيج من الجبل (أمي) والبحر (أبي)، وأغنّي لهما كل ليلة قبل النوم.

توسّع سؤال مواجهة الظلم في تقاطعه مع ممارسة الأمومة منذ أن أصبحت أمّاً لابنتين فلسطينيتين وإيرانيتين. ربما الإجابة عنه كانت لتكون أسهل -للأسف- لو لم أكن أستيقظ كل يوم على وجع فلسطين وإيران في البيت

في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، وبعد يومٍ من مشاهدة الصور والفيديوهات القادمة من غزّة، ومع الشعور بالذنب الذي يأكلني وأنا أفكر في السقف الذي يحميني مقارنةً بأمهات غزّة وأطفالهن، رميت نفسي بين ابنتيّ؛ الأولى أمسكت يدي اليمنى والثانية أمسكت اليسرى. سألتهما: "شو بدكو أغنيلكو؟". فأجابتا معاً: "يا ستّي"، تهليلتهما المفضّلة. عندما بدأت بالغناء، رنّ جرس البيت. "ماما تخافيش"، قالت إحداهما،وكانت تلك طريقتها بالتعبير عن خوفها.

أخبرتهما بأنه ساعي البريد، وعدت لمواصلة الغناء حتى نامتا.


وكما لا أحكي لهما مباشرةً عن فلسطين، لم أخبرهما بأني بالفعل خائفة. خائفة من أشياء كثيرة. خائفة من عالم لا يرى أن للطفل الفلسطيني قيمةً كباقي أطفال العالم. خائفة من أن فتيات ونساء إيرانيات ما زلن يُقتلن لأنهنّ لا يضعن الحجاب "بشكل لائق". خائفة من ألا تُحاسَب إسرائيل على جرائمها، القديمة والجديدة والقادمة. خائفة من ألا تُحاسَب الجمهورية الإسلامية الإيرانية على إعدامها المتواصل للشباب، والقائمة تطول.

أعود إلى الكتابة اليوم، في خضم ما يجري، لأقول لنفسي وأؤكد على أن أمومتي وإن كانت خيطاً ممتداً نحو التفكير في العدالة لفلسطين في بيتي، وفي الطعام والروائح والأغاني وصوتي ووجهي وحزني الموروث الذي يطفو فوق السطح بقوة هذه الأيام، فهي أيضاً خيط ممتد نحو التفكير في العدالة لإيران.

لأنه ينبغي أن تكون طهران بيتاً لابنتيّ أيضاً يوماً ما، تماماً مثل عكّا. الألم واحد، حتى وإن كان "حرّاس بوابات" بلادنا مختلفين، أو ادّعوا أنهم أعداء.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ذرّ الرماد في عيون الحقيقة

ليس نبأً جديداً أنّ معظم الأخبار التي تصلنا من كلّ حدبٍ وصوبٍ في عالمنا العربي، تشوبها نفحةٌ مُسيّسة، هدفها أن تعمينا عن الحقيقة المُجرّدة من المصالح. وهذا لأنّ مختلف وكالات الأنباء في منطقتنا، هي الذراع الأقوى في تضليلنا نحن الشعوب المنكوبة، ومصادرة إرادتنا وقرارنا في التغيير.

Website by WhiteBeard
Popup Image