عندما عدُت إلى البيت اليوم، أخبرتني والدتهما، رشا، بأنهما تعلمتا حيلة جديدة. "انظر"، قالت وهي تضع كلاً منهما على بطنها، وأيديهما الممتلئة ترفع رؤوسها إلى الأعلى. من المفترض أن تبقيا على هذه الوضعية بضع دقائق، لتدريب عضلات ظهريهما. لكن، وبدلاً من ذلك، كانتا تدفعان رؤوسهما الثقيلة جانباً، وتتدحرجان ضاحكتين. لم نتمكن من إبقائهما على الوضعية المطلوبة، أكثر من بضع ثوانٍ، في كل مرة.
من أفغانستان تصل الأخبار بأن أغلبية المدن الكبرى قد سقطت في أيدي طالبان. حتى مزار الشريف، المدينة التي صمدت حتى "11 سبتمبر"، معقل تحالف الشمال، وموطن قادة كأحمد شاه مسعود، سقطت. سقطت جميعها، لكن وزير الداخلية كان واثقاً من سلامة كابول. "سنفاوض على حكومة جديدة تعكس واقع اليوم".
وضعتُ ابنتي الكبرى (أكبر بدقيقتين من أختها التوأم)، على حضني. ووضعت رجلي على الطاولة، أمام الكنبة التي أجلس عليها؛ وضعية تسمح لي برفعها، بمساعدة رجليّ، واللعب معها. "باااا-باااا"، قلت لها، ببطء ووضوح. ضحكتْ. "اسمعي"، قلت مبتسماً. "لا تضحكي. أحتاج إلى أن تقولي بابا، قبل أن تقولي ماما. جيّد؟ اسمعيني جيداً. عندما تصدرين صوت "بوووووو" مع اللعاب كله المرافق له، اجعلي صوت "الباء" أقصر. "بـ"، من ثم "اااا". حتى الخروف يمكنه قولها، وهذا خروف غبي. قوليها مرة واحدة فقط، وعندها ستتملكين كلمة "باااا"، وكرريها، فتصبح بابا!". تضحك ابنتي على أبيها الغبي.
أما أنا، فعمري من عمر جمهورية إيران الإسلامية التي غادرتها عندما كنت في الثالثة من عمري. بعد أربعة عقود، أرى رجال الثورة الملتحين يتمسكون ببقايا السلطة، بقبضة من حديد. أنا سعيد جداً لأن ابنتيّ لم تولدا هناك
سقطت معظم المدن الكبيرة الآن. طالبان تقف عند أبواب كابول. كان ممثّلوها في الداخل بالفعل، يطلبون من المشاة الانتظار. هناك قصص عن طالبان تنتقل من منزل إلى آخر، عن تجميع الفتيات المراهقات، وإجبارهن على الزواج من الجنود. قصص أخرى عن طردهن من المدارس والجامعات، وسرعان ما لن يُسمح لأي امرأة بمغادرة منزلها، أو العمل من دون رعاية رجل، أو أن تُظهر وجهها.
تحبان وقت الاستحمام. عندما كانتا بعمر أسبوع، كرهت ابنتي الكبرى، أن تكون عارية، أو أن توضع في الماء. الآن، تلعب بالماء بينما تجول عيناها حول الحمام، وتبحث عن عيوننا. عندما تنفد الطاقة، سواء طاقتا ابنتيّ من اللعب، أو طاقة والدتهما من التعب، تُخرجهما رشا من الحمام، وتجفف جسميهما الصغيرين من المياه، قبل أن تمشط شعريهما المبلولين. كلتاهما ابنتيّ وُلدتا بشعر فاتن، واحتفظت الصغرى به؛ شعرٌ لونه ليس غامقاً كما لون شعري، بل بني داكن يميل إلى لون شعر والدتي، قبل أن يصير أبيض.
الرئيس أشرف غاني فرّ من البلاد. الجنود يتدفقون إليها. لم يعد هناك حديث عن جمهورية أفغانستان الإسلامية. سيتم الإعلان عن إمارة أفغانستان الإسلامية. بلد جديد، عمره أصغر من عمر طفلتيّ، مبني على قواعد عمرها 1400 عام. أما أنا، فعمري من عمر جمهورية إيران الإسلامية التي غادرتها عندما كنت في الثالثة من عمري. بعد أربعة عقود، أرى رجال الثورة الملتحين يتمسكون ببقايا السلطة، بقبضة من حديد. أنا سعيد جداً لأن ابنتيّ لم تولدا هناك.
"بابا، هل توقعت أن يبقوا هذه السنوات كلها؟". بماذا يمكنني أن أجيبها؟ إذا تمكنوا من البقاء في إيران سنوات طويلة، فلماذا يريدون مغادرة أفغانستان؟ هل لأن أفغانستان الجميلة فيها آلاف الوديان للاختباء، ثم العودة منها؟ أو أن الرجال الأتقياء لديهم مساحة كبيرة في صدورهم للمزيد من كره النساء؟
بعد أربعين عاماً من اليوم، ستشاهد ابنتيّ الأخبار عن إمارة أفغانستان الإسلامية، وتتساءلان عن النساء اللواتي بعمرهن، واللواتي ربما أصبحن جدّات، ورأين أجيالاً عديدة وُلدت لتختفي. ستسألني إحداهما: "بابا، هل توقعت أن يبقوا هذه السنوات كلها؟". بماذا يمكنني أن أجيبها؟ إذا تمكنوا من البقاء في إيران سنوات طويلة، فلماذا يريدون مغادرة أفغانستان؟ هل لأن أفغانستان الجميلة فيها آلاف الوديان للاختباء، ثم العودة منها؟ أو أن الرجال الأتقياء لديهم مساحة كبيرة في صدورهم للمزيد من كره النساء؟
لكن، بدلاً من ذلك، سأجيبها: "انظري، عزيزَم*، في الأسبوع الذي حاولت فيه أن أعلّمك قول كلمة بابا، أردت أيضاً أن أعلّمك أن الكوابيس تدوم حتى تتذكري الاستيقاظ، فحسب. الليلة، قبل سقوط أفغانستان، كنت أشاهد أخبار لبنان، وهو ينفجر. رأيت صوراً لحالات فقدان وعي، وقرأت أخبار مرضى على وشك الموت في المستشفيات. قمت بعدّ أصدقائي وصديقاتي هُناك، ووجدت أنهم أكثر من أن يُعدوا على أصابع اليدين، والقدمين. ذهبتُ للنوم، وأنا أعلم أنني سأستيقظ من هذا الكابوس. لكني عندما استيقظت، أدركت أني في بلد آخر. لم يمحُ لبنان من الخريطة فحسب، بل أفغانستان أيضاً. لم تتعلمي كلماتك الأولى بعد، وقد كنت شاهدة بالفعل على بلدين يسقطان تباعاً. بلدان أحبهما كثيراً. كنتُ قد نسيت كيف أستيقظ من كوابيسي. أعتقد أننا جميعنا نسينا".
*عزيزَم تعني عزيزي، أو عزيزتي، بالفارسية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ 4 أيامتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ 4 أيامحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أيامالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...
HA NA -
منذ أسبوعمع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ اسبوعينأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.