شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
ضحّيت بالكثير لأبدو فتاة عادية

ضحّيت بالكثير لأبدو فتاة عادية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الجمعة 12 يوليو 202411:00 ص

في كلّ مرة أهمّ فيها بالخروج من المنزل، يتجلى الاختلاف الكبير بيني و بين أمي، وفي الطريقة التي ترى بها كلتانا العالم و تنظر بها إلى ذاتها.

عادة أقدّر حجم المشوار، فإذا كان الغرض هو المشي وشراء بعض الحاجات، أي لن يستغرق أكثر من ساعة زمن، أفتح الدولاب وأختار أول بلوزة تقع عيني عليها، ثم أخرج بنطلون ما وأجهز في دقائق، ثم أمرّ أمام أمي لتقوم بفحص شامل، يضمن حفظ هذا الزي لمعايير البيت والمجتمع.

ما تراه أمي في ما أرتديه بالعادة هي أشياء لا ألتفت لها أبداً، لا أعلم أن لها وجوداً أصلاً. في حياتي لم أحسب طول البلوزة بالميليمتر، ولم أمل لهذا البنطلون تحديداً أو ذاك سوى لأنه عملي أو متناسق، أو لأنه يمنحني شعوراً كبيراً بالراحة. أصبحت في أكثر الأحيان أتسلّل من المنزل بينما هي تصلي، أو تتحدّث على الهاتف، لأن تلك العملية الأمنية تستغرق قرناً، والأمر كله لا يستحق من وجهة نظري. عادة لا أحكم لفة الحجاب، الأمر معقد بما فيه الكفاية لأتفنّن في لفّه، بالكاد أعقده حول رأسي ثم أهم بالخروج.
عندما أسير في الشارع، أرى حجمي الطبيعي: أنا صغيرة بما يكفي لئلّا يلتفت إلي أحد أو يدرك بأني مررت من هنا. العالم واسع وكبير. لست الفتاة الوحيدة التي تمتلك مؤخرة في الشارع. الأمر أكبر من جسدي الهزيل المخبّأ بما يكفي، و أنا أكبر بكثير من مجرد جسد وزي متناسق.
ما يجعلني وأمي غير متفاهمتين على الدوام، هو تلك المسافة الشاسعة بين ما تراه مني وما أراه. تنظر لي نظرة سطحية تغيظني، تقتطعها من المجتمع المحدود، بينما لا ألقي بالاً لكل تلك الأحكام والنظرة التي تلاحقني في المنزل باستمرار.

في النهاية بدأت تمل مني، لأنها لم تنجح في زرع تلك المخاوف بداخلي. بدأت عمليات التفتيش تقلّ صرامة، بل وأصبحت غير ضرورية في كثير من الأحيان. مع الوقت فهمت: إن اختارت لي أمي ملابسي دون أن تشغل بالها بمواكبة الموضة، أهون بكثير من أن تختار لي نظرتي لجسدي. أن تقحم بداخلي ذلك الثقل عن جسدي هو ما رفضته مراراً.

ما تراه أمي في ما أرتديه بالعادة هي أشياء لا ألتفت لها أبداً، لا أعلم أن لها وجوداً أصلاً. في حياتي لم أحسب طول البلوزة بالميليمتر، ولم أمل لهذا البنطلون تحديداً أو ذاك سوى لأنه عملي أو متناسق، أو لأنه يمنحني شعوراً كبيراً بالراحة

عندما أفرطت في الصلاة

تمر الفتاة منا في العادة بمراحل غير مستقرة و عديدة في علاقتها بجسدها، ولكن تعتبر مرحلة الإنكار هي الأكثر طولاً وتعقيداً. بالنسبة لي، كنت طفلة فضولية، حالمة على الدوام. ما يمنحني العالم من إجابات لم تكن تكفيني، ولكن لم تستمر الطفولة الحالمة لوقت طويل، بل انتُهكت بشكل قاس ومؤلم غيّر مسار الأمور، فتعقدت علاقتي بجسدي، ولم أعد أجد الراحة في أي نوع من التواصل الحسّي.

كنت أغيب عن العالم لأيام أهيم فيها بعالمي الوحيد، أحاول تفسير إحساسي المستمرّ بالخوف. لم أتلق أي مساعدة، ولكن بينما كنت أنضج كنت أدرك حجم المصيبة، فأخاف أكثر. فكرت بالانتحار كثيراً، لكني كنت جبانة و أحب الله. كنت أتمنى الموت كل ليلة، أن يستجيب الله لدعائي فلا أستيقظ ذات صباح، أن ينتهي الأمر قبل أن يضطر أحد ما لاكتشافه.

فكرة انتظاري للموت طوال الوقت كانت تجعل الليالي مرعبة. تخيل طفلة ليست متسامحة مع الموت لدرجة أن تتمناه، ولكنها تستجدي منه الخلاص!

كانت الليالي قاسية و كوني وحدي في المأساة جعلها كثيفة ومرهقة على مجرّد فتاة صغيرة. مرّت طفولتي بكل هذا الثقل، دون أن يقرّر الله بأي لحظة أن يرحمني من العذاب، لذا صلّيت ذات ليلة وبكيت دون توقف. قلت له إني عاجزة وصغيرة، ولن أطلب مساعدة أي شخص لأني اخترت ألا أعيش موصومة بذلك العار الذي لا ذنب لي به. قلت له أنت اخترت لي هذا المصير فجنبني تبعاته، أنت من سمحت للوحش أن يلمسني، ولم تعطف علي بالموت الذي تمنيته لليال، أنت كما أعرفك في سنواتي الصغيرة، اخترت لي الشقاء مرّات ومرّات، منذ أن نجيتني من الموت في المرة الأولى، ثم منعتني من الانتحار والخلاص بتعاليمك. أتوسل إليك وللمرة الأخيرة أن تحميني من الغرق في البؤس، أن تنتشلني من عتمة الخوف وأن تعيدني إلى جسدي القديم غير المنتهك، ثم ارتميت على الأرض جسداً صغيراً بالكاد يتنفس.

إنها المرة الأولى التي أقترب فيها من ألمي الدفين، ترى هل شفيت من التجربة فعلاً؟

إنكار مؤلم

قضيت سنيناً أشعر بانفصال دائم عن جسدي، أنكره، أنكر أنه لي، لا أنظر إليه عندما أستحم، وألعن القدر الذي وضعني فيه. لقد كان العبء ثقيلاً وكنت هزيلة بشكل لا يصدق، ولكني حين رميته لأول مرة من فمي وانتحبت بصوت عال شعرت بالخلاص، ووعدت الله ألا أفكر في الأمر مرّة أخرى طوال حياتي. سأنساه كأنه لم يحدث قط، فأنا أكثر بكثير من مجرّد جسدي المنتهك، وأنت يا الله أكبر بكثير من أن تتركني أشقى بلا نهاية، فأنا أصلي وأحب العالم.
هكذا نسيت الأمر، تعاملت معه على أنه ذكرى مشوشة مشكوك في صحتها، حتى أني بدأت أصدق أنه لم يحدث، وجدت نفسي كثيراً ما أتساءل: هل حدث من الأساس؟ هل حدث أصلاً ما يستحق المعاناة؟ الشيء الوحيد الذي تأكدت منه هو أني من لا تستحق المعاناة.
عندما دخلت المراهقة، ظللت أنتظر ان تزورني الأميرة (الدورة الشهرية) بفارغ الصبر، فزيارتها تعني أن ما يمكن أنه حدث لم يؤثر على مستقبلي كامرأة، وأنني لست منقوصة ولا معيبة في شيء. كنت أذكّر الله في صلاتي بوعدنا السابق، لأشعر به يقول لي إنه متكفّل بالأمر، فيخفّ قلقي، لذا عندما يقول البعض إنه ليس موجوداً أشعر بالفزع من فكرة أن من كنت أحدثه لأعوام لم يكن سوى نفسي المتوهمة، وأنني لست سوى غريق يتشبّث بقشة واهية، مع ذلك فأنا مؤمنة أنه لولاه لكنت غرقت في بؤسي وانتحرت منذ زمن.
كلما ازداد عمري كلما أصبحت أكثر ابتعاداً عن تلك الذكرى الموحشة، ما يذكرني بها في الغالب هي نوبات قلقي المترسبة من طفولة قلقة وتعيسة، فتلك النوبات تضربني منذ أن كنت في العاشرة من عمري. لم ألجأ لأي متخصّص أو غير متخصص إلى الآن، ولكني أدرك حجم احتياجي للمساعدة. كل ما في الأمر أني حملت على عاتقي الشفاء من الأمر وأبقيته سرّاً بيني وبين الله، لأن لا أحد في العالم كله يستحق أن يراني مجرد فتاة تعرّضت لمأساة، فأنا أكبر من ذلك، أنا أكبر من مجرد جسد موصوم بالانتهاك، أكبر من مجرّد طفولة قلقة.

كان هناك شيء بداخلي يؤكد لي أن هذا ليس كل شيء، أني أملك بداخلي ما هو أكبر من أن يجعلني أقف للأبد أمام لمسات غير بريئة تعود ليوم سحيق. أستطيع اليوم أن أقول: نعم، لقد ضحيت بالكثير لأصبح مجرّد فتاة عادية

ألم خفيف

إنها المرة الأولى التي أقترب فيها من ألمي الدفين، ترى هل شفيت من التجربة فعلاً؟

يقول علاء خالد في كتاب "ألم خفيف كريشة طائر تنتقل بهدوء من مكان لآخر" إن الحكاية علامة شفاء الراوي، لذا بما أني حكيت فقد يعني أني شفيت ولو بدرجة بسيطة.
ربما تبدو الذكرى في مضمونها تجربة مرعبة وذكرى مخيفة، ولكن نجاتي منها وتحرّري من الخوف الذي حاوطها، وتلك العلاقة الفريدة التي كوّنتها مع جسدي، أشياء تجعلني أدرك أننا نحن النساء لسنا جسداً وحسب، بالطبع أجسادنا جزء مهم منا، ولكنها ليست كل شيء. هي ليست شيئاً منفصلاً عن ذواتنا، ولا جُبلنا على صيانتها حتى تأويها القبور. نحن منصهرات به.

إن هذا الجسد الذي يحوي بداخله كوناً منفرداً، قائماً بذاته، بأوهامه وأحلامه، تجاربه وزلاته، أكبر بكثير من مجرّد إناء مثير نخاف عليه من الخدش و الكسر و الضياع. خلال السنوات الماضية شغل الأمر بالي باستمرار، فبحثت عن نفسي بعيداً عن جسدي حتى وجدتها. كان هناك شيء بداخلي يؤكد لي أن هذا ليس كل شيء، أني أملك بداخلي ما هو أكبر من أن يجعلني أقف للأبد أمام لمسات غير بريئة تعود ليوم سحيق. أستطيع اليوم أن أقول: نعم، لقد ضحيت بالكثير لأصبح مجرّد فتاة عادية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image