في كتاب القاضي التَّنوخي "الفرج بعد الشدّة" شخصية شديدة القوة والبساطة، خياط في سوق الثلاثاء، يخشاه الوزراء، ويسارعون إلى قبول شفاعته، وقد استخلص مالاً لتاجر من قائد لم يقوَ عليه الوزير، وأراد التاجر إعطاء الخياط ما يشاء من المال، عن طيب خاطر، فغضب: "ما أسرع ما كافأتني على الجميل بالقبيح". لم يكن يتباهى بقوته، أو يبوح بثقة الخليفة المعتضد بصدقه، فإذا رأى ما يخالف ضميره، فما عليه إلا أن يؤذن في منتصف الليل، فيسمعه الخليفة ويستدعيه، فما خاطب الخياط أحداً في إنصاف إلا أطاعه، خوفاً من الخليفة، وما احتاج إلى أذان. تحضرني هذه القوة والثقة وأنا أقرأ محاورات حنان عقيل.
الواثق تُغنيه مواقفه عن الإعلان اللفظي عن قوته. وحنان عقيل، بعيداً عن هدوئها المراوغ، باحثة وصحافية واثقة، ولها قضية؛ ففي كتابها "تحطيم أوثان العقل" ثمانية عشر محاورة أنضجتها على مهل، بالإعداد الجيد، وحسن إدارة الحوار، فلا تبتغي انتزاع اعتراف من حماسة هذا، ولا تهتم بإدانة ذاك، لأنها مهمومة بالمستقبل، فترسم ملامح مشهد عربي متشائم ومرتبك "في السنوات العاصفة"، تفكك الظاهرة الأصولية، بشقّيها الديني والعلماني، لتصير هذه المقابلات الفكرية توثيقاً للحالة العربية الغائمة عقب الثورات العربية المغدورة، والمثقفون مسؤولون عن جانب من هذا الفشل، ففي لحظة اصطفاف اليمين الديني، واحتشاده لِقَطفِ الثمرة، بوسيلة ديمقراطية تجلّت في صناديق الاقتراع، انشغل المثقف بذاته.
ترسم حنان عقيل في كتابها ملامحَ مشهدٍ عربيّ متشائم ومرتبك "في السنوات العاصفة"، تفكك الظاهرة الأصولية، بشقَّيها الديني والعلماني، لتصير هذه المقابلات الفكرية توثيقاً للحالة العربية الغائمة عقب الثورات العربية المغدورة
حنان عقيل تجيد فن الإنصات، وفي الوقت نفسه يسعفها فضولها المعرفي بالأسئلة، وهي تتمتع بالوعي الذي يمدّها بالثقة والندّية، وتتسلح بالإحاطة بإسهامات الذين تحاورهم، وتواجههم بأسئلة حادة وناعمة، هم ثمانية عشر من المشتغلين بالفكر، وهي كريمة تمنح الكثيرين صفات المفكر والفيلسوف، ولو حظينا بهذا العدد من "الفلاسفة" و"المفكرين" فكيف بلغنا هذا القاع العربي؟ أصناف المثقفين في الكتاب: طاووس ومهزوم وصادق ينشد الحقيقة.
في برنامج تلفزيوني، سمعت محمد عابد الجابري يقول إن المئات من أطروحات الدكتوراه، في العالم العربي وأوروبا واليابان وأمريكا، "في كل مكان، تُكتب عن أعمالي". هزّ تركي الدخيل رأسه قائلاً: "مئات؟"، فقال: "مئات، وأنا أتابعها، وفي كل مكان".
يبدأ كتاب "تحطيم أوثان العقل" بمقابلة، عام 2016، مع المصري سيد القمني الذي تبادل الأدوار، فسأل حنان عقيل بسخرية: "لماذا تلبسين الحجاب؟ لو عرفت أنك محجبة ما قابلتك، إن كنت غير قادرة على التحرر من شيء لا يمُتّ للدين بصلة فكيف بغير المثقفات؟". ولأن اللقاء جرى بعد شهور من تحديد مواعيد وتأجيلها، فقد احتفظت مؤلفة الكتاب بهدوئها، وتفادت الصدام، وقالت: "على أية حال أتمنى ألا يكون الحجاب حائلاً بيننا في الحديث". وبدأ الكلام باقتضاب، ثم رأى ألا يكمل المقابلة، وبعد تسعين دقيقة انفعل بشدة، لأنها أخبرته أن الحوار سينشر في مجلة "الجديد" اللندنية، مصحوباً بسجال حول أفكاره. رفض الفكرة قائلاً: "من يناقشني لا بدّ أن يكون على قدري، أنا المعلم الأكبر ولا أقبل مثل تلك المناقشات".
في عام 2016 كانت سطوة القمني (1947 ـ 2022) قد تراجعت. وفي عزّ صعوده، وتصفيق اليسار المصري له، نشرتُ في 4 حزيران/يونيو 1997، في صحيفة "الدستور" المصرية، مقالاً عنوانه "آخر صيحات التنوير... الحوار بالديناميت"، طالباً إنقاذ القمني "من نفسه".
المثقف الديكتاتور يفشل أو ييأس، فيستنجد بالمستبد. القمني اتهم المجتمع المصري بأنه "دُمّر عقله". كارثة تجعل المثقف الحقيقي يفكر في وسائل رفع منسوب الوعي العمومي. لكن القمني استسهل التغيير من أعلى: "ليس لدينا حل سوى في أتاتورك مصري أو رئيس ديكتاتور مثل بورقيبة الذي ترك تونس أوروبية متحضرة تتحدث كلها الفلسفة". تعميم تعوزه الدقة، وقد أثمر فرضُ الغلوّ العلماني وجهاً سلفياً في كلا البلدين.
في هذا الكتاب، الصادر عن مؤسسة المثقف العربي ـ سيدني، رؤى نقدية يقدمها مثقفون لا يعانون من فوائض البارانويا؛ فالفلسطيني سلامة كيلة يعزو فشل الثورات العربية إلى أسباب منها غياب نخب ثقافية حقيقية، هناك مثقفون لا يفهمون الواقع، كما "كان هناك استعلاء ما على الناس".
والتونسي محمد الحداد يقول إن التجربة الميدانية، وليست النخبة المثقفة، هي التي حررت وعي الشعوب. وينتقد علمانيين تقليديين في بلاده تظاهروا، للمطالبة بمادة في الدستور الجديد تنص على أن "تونس دولة علمانية"، فانتهز الإخوان الفرصة، وأذاعوا في المساجد يوم الجمعة أن الدستور سيكون ضد الدين، فنادى البعض بأن تكون "الشريعة مصدر التشريع. هذا صنف من أصناف حماقات العلمانية التقليدية". وهنا يبدو ذكاء بورقيبة في تضمين الدستور نصاً "يقرّ بأن تونس مسلمة، تونس البلاد لا الدولة... هذا الفارق بين زعيم مستنير لكنه متمرس بالعمق الاجتماعي وبين مناضلين أو مثقفين سطحيين".
المثقف الديكتاتور يفشل أو ييأس، فيستنجد بالمستبد.
لا يعمل المثقف في فراغ. الأهم من عقلانية الفكر ومنطقيته أن يفهم السياق الاجتماعي، ويستوعب آليات تَلقّي الأفكار والتفاعل معها، فلا تظل مجرد شارة دالة على امتياز نخبوي، ولا قيمة للفكر ما لم يجد طريقه إلى الناس. يقول الأردني هشام غصيب إن الفكر العربي "لم يدخل الحداثة إلا ظاهرياً"، وإنه يتزين بمفاهيم مستمدة من التراث الغربي، ويتبناها "كأنها أصنام"، وإن الليبراليين العرب "بصورة عامة كان فكرهم هزيلاً وظلّ كذلك"، كما يرى في اجتهادات كلٍّ من محمد عابد الجابري وحسن حنفي "ترهلاً علمياً".
أما الأردني فهمي جدعان فيتهم الفكر العربي بالتقليد والتبعية لا الإبداع، فالأغلبية تكرس حياتها لمتابعة منجزات غربية، وصفاً وتأريخاً وتحليلاً، "والذين بذلوا جهودا ذاتية إبداعية قِلّة، بل ندرة... لا أفهم أن يقضي أحدهم كل عمره في التعريف بهيجل أو بفوكو أو كانط". جدعان يعتبر الإسلام منظومة إيمانية، وليس نظاماً سياسياً، والغايات الإيمانية لا تحتاج إلى قيام دولة دينية. وفي الوقت نفسه يقسو على "تجديديين" يعرقلون مسار القراءة العصرية للفكر الديني، لأنهم "اختاروا نهج الاستفزاز الذي يمتد في حدود التفاهة والنقد العنيف والسخرية وطلب الشهرة"، كما أن البعض من العلمانيين العرب "يثير نقدهم للدين مواقفَ تصعيدية متصلبة".
تمنيت أن تسأله حنان عقيل: من هؤلاء الذين انتقدوا الدين؟ هل قام كاتب بتسفيه العقائد، أو سخر من العبادات، أو منع مسلماً من أداء أركان الإسلام الخمسة؟ ما عدا ذلك اجتهاد في الفهم والتأويل، فقه بشري ارتبط بظرفه السياسي، ولا يصح أن يكون وصاية على العصور التالية. ابن تيمية، الذي يحظى بقداسة عند السلفيين، اتهمه ابن بطوطة بالخلل العقلي، بعد أن سمعه يقول في خطبة بدمشق: "إن الله جلّ شأنه ينزل كلّ ليلة إلى السماء الدنيا كَنُزولي هذا، ثم نزل على درج المنبر درجتين".
ذكر ابن بطوطة أن فقيهاً مالكياً يعرف بابن الزهراء عارضه، "وأنكر ما تكلم به، فقامت العامة إلى هذا الفقيه وضربوه بالأيدي والنعال ضرباً كثيراً حتى سقطت عمامته". أياً كان صدق رواية ابن بطوطة، سواء رأى ابن تيمية يخطب الجمعة أو كان ابن تيمية سجيناً آنذاك، فإن أحداً لم يتهم ابن بطوطة بانتقاد الدين.
ابن بطوطة زار مصر "أم البلاد... المتناهية بالحسن والنضارة... قهرت قاهرتها الأمم، وتمكنت ملوكها نواصي العرب والعجم"، ولكنه كتب سطراً يستعصي على النظرة الاستشراقية: "يستبد العسكر، والشعب يئن تحت وطأة الحكم، ولا يهتم الأقوياء بذلك، والعجلة تدور".
بهذا الاستبداد العسكري، القديم المتجدد، تمنيت أن يكون كتاب حنان عقيل أكثر عدلاً في نقد الاستبداد السياسي، قرين الاستبداد الديني والمستفيد منه. لكن الكتاب تقصى تفكيك الإسلام السياسي، وفي هذا الخيار راحة للمستبد، وإغراء للمثقف بالرهان على عدوّ الإسلام السياسي، ثم يكتشف المثقف خيبة أمله؛ هكذا راهن سيد القمني على عبد الفتاح السيسي "طلباً للخروج من ظلام الحكم الديني... لكني أقرّ بخطئي... وقدمت اعتذاراتي وأعيد تقديمها؛ لقد كنت قاصر الرؤية في ذلك الوقت". اعتذار شجاع من كاتب يراهن على ديكتاتور عسكري (أتاتورك) أو سياسي (بورقيبة).
لكن الأستاذ السابق بجامعة الأزهر أحمد صبحي منصور، اللاجئ إلى أمريكا هرباً من القتل أو السجن، أكثر صراحة. ألّف، عام 2015، كتاباً عنوانه "شاهد على بضعة أشهر من حُكم السيسي"، سجل فيه استحالة أن يقوم السيسي بالإصلاح، وختَمَه بفصل عنوانه "أيها السيسي... وداعاً!!". منصور يرفض الاستبدادَين الديني والعسكري: "وبعض المثقفين قصيرو النظر لا يرون أن الاستبداد الديني والاستبداد السياسي وجهان لعملة واحدة. بعضهم يسبّح بِحمدِ البابا مثلاً ويدعو المسلمين إلى العلمانية والإلحاد، ويستسهل الهجوم على الوهابية ومتطرفيها واستبدادها مدافعاً في نفس الوقت عن استبداد الكنيسة... والمستبد يحرص على اضطهاد المثقف المصلح وعلى التعتيم عليه وإجاعته". منصور ممنوع من الظهور في الفضائيات العربية المحكومة بالمال السياسي أو الإسلام السياسي.
في زمن أكثر تفاؤلاً، نشرتُ لسلامة كيلة، كتاب "زمن الثورة" في سلسلة "كتاب الهلال". لم يعد نشرُ مثل هذا الكتاب ممكناً، حيث لا تُستعاد ذكرى ثورة 25 كانون الثاني/يناير إلا كَلَعنة.
لا يعمل المثقف في فراغ. الأهم من عقلانية الفكر ومنطقيته أن يفهم السياق الاجتماعي، ويستوعب آليات تَلقّي الأفكار والتفاعل معها، فلا تظلّ مجرد شارة دالة على امتياز نخبوي، ولا قيمة للفكر ما لم يجد طريقه إلى الناس
وفي كتاب "تحطيم أوثان العقل" يرى سلامة أن اليسار القديم والحركات الإسلامية كليهما لا يملك رؤية للمستقبل، وينتقد قطاعات من اليسار روّجت للإسلام السياسي، وتحالفت معه، وبالوصول إلى الحكم يكون الاحتكام إلى "فقهاء الإسلام المكرّسين عملياً للدفاع عن النص والأسس القديمة، مثلاً راشد الغنوشي انتهى أصولياً عندما وصل إلى السلطة، مثل غيره من جماعة الإخوان المسلمين".
ويضيف التونسي محمد الحداد: "موقف الغنوشي ليس إلا امتداداً لتنظيرات سيد قطب ومحمد قطب عن الجاهلية الجديدة"، وفي ذلك الوقت، بعد نجاح الثورة التونسية في خلع بن علي، رضي علمانيون تقليديون "بمناصب مريحة مقابل توقّفِهم عن نقد حزب النهضة".
ويحمّل اللبناني مُشير باسيل عون، ما يسميه الضلالات الثقافية، مسؤوليةَ الانحرافات السياسية والاجتماعية والدينية، داعياً إلى تحرير الإيمان الذاتي من سلطة المؤسسات الدينية، "حتى تنبثق من اختيارات الناس ثورة ثقافية شاملة تضع قيمَ شرعيةِ حقوق الإنسان في موضع الصدارة". هنا تنضج ملكات الأفراد، ويخرجون من وصاية المؤسسات الدينية، ويصيرون مواطنين.
أما اللبناني أديب صعب فيرى أن الدين لا يقوم بدون أخلاق، لكن الأخلاق قد توجد مستقلة عن الدين، وأن الدساتير وأنظمة الحكم تنطلق من مفهوم المواطن وليس المؤمن، والمواطنة تضمن احترام حريات شركاء الوطن. لكنه يقترح خطة للتمييز بين تعليمٍ بمناهج علمية وفلسفية "في المدارس بدون استثناء"، والتعليم الديني باتباع مناهج عقائدية في مؤسسات خاصة "تنشئها الطوائف والمؤسسات الدينية لهذا الغرض"؛ اقتراح خطير، لأنه يمدّ هذه المؤسسات العقائدية بأسباب النقمة على المناهج العلمية لتعليم الدين، وما يترتب على ذلك من اتهام الأولى بالضلال، والخروج عن صحيح الدين الذي تحتكره المؤسسات الخاصة، الطائفية، وتختطفه. ثم تخرّج كارهين يحتكرون الدين والله معاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 16 ساعةأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يومينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...