شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
الاستبداد الهجين... تغييب الشعب وحضور طاغٍ لديكتاتور تائه

الاستبداد الهجين... تغييب الشعب وحضور طاغٍ لديكتاتور تائه

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 18 مايو 202312:49 م

للشهيد عبد الله بن المقفع ميزتان وكتابان. لديه نفاذ بصيرة، وقدرة على الإيجاز. قد يرى غيري مزيداً من مزايا تمنحه حضوراً لا يغيب. حياة تتجدد بكتابين اثنين أشهرهما "كليلة ودمنة". قرأته في زمن سابق، ولا أجد تفسيراً لحرصي على طبعاته المختلفة. وفي ضباب أيامنا تحلو لي العودة إلى "الأدب الصغير والأدب الكبير". كتاب رشيق، يذكّرني بمأثورات شهيد آخر هو الإمام علي، عليه السلام. كتاب لا يدعي التعالُم، ولا يثقله طابع إرشادي. لعله، إذا استعرنا عنوان يحيى حقي، "أنشودة للبساطة" في وصف أحوالنا. ولا أعرف حاكماً عربياً قال إنه قرأ "كتاب الجيب" هذا، ولا غيره من الكتب صغيرة الحجم أو كبيرها.


الحاكم، كما يرى ابن المقفع، يتفادى الانفعال أمام الناس، لا يغضب؛ "لأن القدرة من وراء حاجته". ولا يكذب؛ لأن أحداً لا يقدر "على استكراهه على غير ما يريد". ولا يستمرئ القسَم؛ "لأن أحق الناس باتقاء الأيْمان الملوكُ، فإنما يحمل الرجلَ على الحلف إحدى هذه الخصال: إما مهانة يجدها في نفسه، وضرَعٌ وحاجة إلى تصديق الناس إياه. وإما عِيٌّ بالكلام، فيجعل الأيمان له حشواً ووصلاً. وإما تهمة قد عرفها الناس لحديثه، فهو ينزل نفسه منزلة من لا يُقبل قوله إلا بعد جهد اليمين. وإما عبث بالقول وإرسال للسان على غير روية ولا حسن تقدير، ولا تعويد له على قول السداد والتثبت".

ما الذي يضطر ديكتاتوراً، لا ترد له كلمة ولا يسمح لأحد بمراجعته، إلى القسم كلما تكلم؟ وهو كثيراً ما يتكلم. حتى ديكتاتورياتنا، يا إلهي، هزلية. ليست خشنة كالديكتاتوريات الكبرى، ولا ناعمة محكومة بوفرة الجاز

نحتاج إلى ابن المقفع في هذه التّوْلة. طالت اللخبطة، واستهلكت من حياتنا سنوات، وتحيّر العاقل، وتجعل المستبد يدمن الحلف، يحلف بالله ثلاثاً على كبير الأمور وصغيرها. الحمّى تتعدى الجمهور المحلي، وتستهدف زميلاً، حاكماً أيضاً، بدعوته أمام الناس إلى القسم بالله على شيء؛ فيردد الآخر بالعربية التي لا يعرفها، ويضحك. لعل الضحك مصدره المثل الشعبي "قالوا للكذاب: احلف. قال: "جاءك الفرج". ما أسهل الحلف على الكذوب الضعيف. فما الذي يضطر ديكتاتوراً، لا ترد له كلمة ولا يسمح لأحد بمراجعته، إلى القسم كلما تكلم؟ وهو كثيراً ما يتكلم. حتى ديكتاتورياتنا، يا إلهي، هزلية. ليست خشنة كالديكتاتوريات الكبرى، ولا ناعمة محكومة بوفرة الجاز.

استبسل ممثلو اليمين الديني في لجنة كتابة دستور 2014 في رفض سطر في ديباجة الدستور، يقول إن مصر "دولة مدنية". وجرى التوافق على أن مصر "حكومتها مدنية". وكانت النتيجة هي ما نشهده من حكم هجين، يصعب توصيفه، فلا هو مدني ولا ديني ولا عسكري، وإنما هو ذلك كله بأنصبة تتفاوت من وقت إلى آخر، ومن موقف إلى ما يليه. قد توضع عمامة على بدلة عسكرية، وأحياناً يلوح الكاب فوق زي سلفي. والخطاب السياسي الرسمي يزايد أحياناً على السلفيين، ولا تنقصه إلا عمامة وامتشاق سيف. وليس أنسب، في هذا السياق، من كلمة "امتشاق" المحنّطة في أضابير قاموسية، لدلالتها على مقتضى الحال.

ليست الديكتاتوريات بالنيات. لكي تبلغ مرتبة الديكتاتورية بحق، يفترض أن تكون بالأساس حاكماً مقنعاً، أن تمر في الحكم بمرحلتيْ الشباب والفتوة، ثم يغريك طموح الاستبداد، تحت راية خديعة "وطنية"، بقفزة أخرى يصحبها اختراع عدو تعلق عليه فشلك، وتنسب إليه خطاياك. أو تعلن عن مشروع كبير يجمع الشعب، ولو في الخطوة الأولى للتمكين. جرى هذا التسلسل الديكتاتوري في أغلب المشاريع الاستبدادية الكبرى، حتى إذا انهارت نتيجة حروب حمقاء أو نحر داخلي، فلا يختفي إلا الديكتاتور ومؤسسته، وتبقى البنى الوطنية، وعقليات تصون "الدولة"، وتعيد البناء. ذهب هتلر وبقيت ألمانيا. أين العراق العظيم بعد زوال حكم صدام حسين؟ وأين الدولة الليبية بعد القذافي؟

أين الشعب في مشاريع الاستبداد؟

خضغ للتغييب. هل يسع الوطن نقيضين؟ النموذج الديكتاتوري العربي أقرب إلى المسخرة. على قمته مسخ، يستخسر عبقريته في الشعب، وحين يسقط يترك وراءه رماد الخرائب. ديكتاتورياتنا الممسوخة لا تتحصّن ببناء علمي وصناعي. السقف العالي للهوس "الوطني" من سمات ديكتاتوريات كبرى تنفق ببذخ على العلوم الطبيعية والبحث العلمي.

سمعت عبد الرحمن شلقم يقول في التلفزيون إن القذافي أبٌ للشعب. افتراء على شعب محجوب ينكره رجل غيب اسم الدولة، وفي لحظاته الأخيرة، تحسس الدماء، وتوسل إلى قاتله الجبان: "أنا القائد". اعتراف نادر، متأخر جداً، بأنه إنسان. 

والديكتاتوريات الهجين لا تؤمّن الحد الأدنى لمعيشة الشعوب، وتحتقر العلوم الطبيعية والإنسانية معاً، وتتعمد إهانة العلماء وتخريب الضمائر، وتطرد الكفاءات. القذافي أوجز تجسيد لقدرة العالم العربي على ابتداع ديكتاتوريات تافهة وفاجرة. العقيد لم يقنع أحداً بأنه حاكم عاقل، وحرق المراحل التمهيدية، وقفز إلى ديكتاتورية هزلية، ينتظرها محبو الكوميديا كلما عقد مؤتمر للقمة العربية.

في اهتمام الديكتاتور "الطبيعي" بالعلوم الطبيعية وعي بشروط القوة، وإدراك لطبائع التحدي وامتلاك أدواته، فينفق على من يحتاج إلى ثمار علمهم في تشييد مشروعه. أما الديكتاتور العبيط فيستغني عنهم؛ لأنه يفهم أكثر من الجميع، وتمنعه كبرياؤه وتطاوسه الكاذب أن يعترف بأن أحداً أكثر منه معرفة بالعلوم العسكرية والاقتصادية والعلمية والآداب والفنون. وإذا كان يتظاهر بالتدين الشكلي فهو أكثر إحاطة بالفقه، ويسهل أن يدعي اتصاله المباشر بالله، وأنه وحده سيحاسبه يوم القيامة، فلا يصح أن يُحاسب الأعلى أمام من يراهم أدنى، ولو كانوا أعضاء برلمان منتخبين يمثلون الأمة، وفي خطوة لاحقة قد يحل البرلمان، وينتهي من هذا الصداع. ويتولى السلطات كافة.

الديكتاتور الحق يتحصن بوسائل القوة. والعبيط تكفيه أوهامه. يظن نفسه كائناً فوق البشر، ويتولى رجاله تسويغ سلوكه باعتباره أباً روحياً. سمعت عبد الرحمن شلقم يقول في التلفزيون إن القذافي أبٌ للشعب. افتراء على شعب محجوب ينكره رجل غيب اسم الدولة، وفي لحظاته الأخيرة، تحسس الدماء، وتوسل إلى قاتله الجبان: "أنا القائد". اعتراف نادر، متأخر جداً، بأنه إنسان. بعد القيامة، حكى شلقم أن الزوجة اللبنانية لهانيبال القذافي أرسلت طائرة إيرباص إلى بيروت؛ لإحضار كلب، وأن عائشة القذافي أخذت طائرتين إلى بريطانيا لكي تلد أو تقيم حفلات. إنها ديكتاتوريات ارتجالية، وجودها جحيم، وزوالها غزو وحرب أهلية. اضطراب أهل الكهف حين يفاجئهم النور.

ليست الديكتاتوريات بالنيات. لكي تبلغ مرتبة الديكتاتورية بحق، يفترض أن تكون بالأساس حاكماً مقنعاً، أن تمر في الحكم بمرحلتيْ الشباب والفتوة، ثم يغريك طموح الاستبداد، تحت راية خديعة "وطنية"

من سماء تحتشد لإحضار كلب، تهبط سيرة التفاهة إلى حلم الأحذية. الديكتاتور العربي ضحية الجهل، وفقر الخيال، والجوع التاريخي الذي لا يسده شبع. كان حسني مبارك محدود الموهبة والطموح. والسلطة أسكرته. قبل الرئاسة، كان في زيارة رسمية إلى يوجوسلافيا، وشغله حذاء جوزيب بروز تيتو، فسأل السفيرَ المصري جمال منصور: من أين يأتي تيتو بأحذيته؟ وهل يشتريها جاهزة أم تصنع له خصوصاً؟ بعد الرئاسة، جرت واقعة تتصل بالحذاء، وطرفها فتحي رضوان الذي أخرجته ثورة 1952 من المعتقل إلى الوزارة. رغب الرئيس في لقاء رضوان، فتفاءل وكتب محاور في خمس صفحات. وأخذته طائرة من القاهرة إلى استراحة مبارك في الدخيلة غربي الإسكندرية.

هناك أبلغوه بتأخر الموعد ساعتين لانشغال الرئيس بمقابلة رئيس إفريقي. وبعد خمس ساعات أبلغوه بأنه سيكون ضيف الرئيس على الطائرة في العودة. وجاءه مبارك من مقدمة الطائرة. قال له إنه، منذ كان طالباً وإلى الآن، يمسح حذاءه كل صباح بالورنيش، ثم بالفرشاة، ثم يلمّعه بقطعة من القطيفة. أوضح رضوان أن وقت رئيس الدولة أثمن من تبديده في هذا الأمر. وقبل أن يحدثه بشأن الورقة التي سجل فيه نقاطا للنقاش، كانت الطائرة تقترب من مطار القاهرة. وعاد مبارك إلى ضيفه الإفريقي، وأخبره بأن سيارة ستحمله إلى بيت الرئيس؛ ليكملا الكلام. ولكن السيارة أعادت فتحي رضوان إلى بيته. ولم يتصل به أحد.  


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image