من الحكمة، وإثباتاً لسعة صدرك واختباراً لمقولاتك عن الديمقراطية وحريات الآخرين في التعبير، أن تحمد الله على نعمة وجود سلفيين يحملون صفة أصدقاء في قائمتك الفيسبوكية. هم نعمة وفضل وعدل، فلا تفرط فيهم. احتفظ بواحد على الأقل تضمن الغفران لثلاثة أسباب: أولها رحمة الله الذي لن يجمع عليك عذابين أو شماتتين في الدارين. والثاني معرفة منسوب الكراهية الذي تبلغه الأنفس المتصحّرة. والثالث يترتب على الثاني؛ ففي الحماسة، ونفور عروق رقبته مؤكداً خلود غير المسلمين في النار، يظل لسانك رطباً بذكر الله، فتلوذ بآيات تلهمك أن رحمته وسعت كل شيء، وأما الانحراف النفسي فيؤدي بالمريض إلى اعتقاده بالاستئثار بالرحمة، دون غيره.
باستثناء من يعلن الصداقة للعدو الصهيوني، احتفظ في القائمة بواحد فقط من ذوي اليقين، الواصل بالدوجما إلى الحافة: ليبرالي، ماركسي، شوفيني، ناصري، إخواني، سلفي. لهؤلاء سمات مشتركة، كل في مجاله. يتسلحون بالمأثورات، شفاهة وفي منشورات منسوبة إلى الرموز والسلف المستقر في يقينهم. لكل منهم خطاب مستعار، يستحضر مفرداته بسرعة من خزائن خلف اللسان مباشرة. وتتفاوت أنصبتهم من حب البشر، والمرح، والقبول الشخصي، إلا من تسلّف فتصيبه عدوى "أمراض المهنة". يصير مثلهم، تستبد بملامحه أعراض ثقل الظل، ويعيد مضغ نكت من السبعينيات، خصوصاً تلك التي قالها الشيخ عبد الحميد كشك في دروسه. يضحك وحده على النكتة، ويعيد إلقاءها، ويريدك أن تضحك.
من الحكمة، وإثباتاً لسعة صدرك واختباراً لمقولاتك عن الديمقراطية وحريات الآخرين في التعبير، أن تحمد الله على نعمة وجود سلفيين يحملون صفة أصدقاء في قائمتك الفيسبوكية. هم نعمة وفضل وعدل، فلا تفرط فيهم. احتفظ بواحد على الأقل
وافقْ على ما يضخّ من مأثورات سلفية عن قضايا لم يعرفها السلف. استفد من تجارب آخرين خرجوا سالمين بعد ابتلائهم بمناقشة سلفي. يؤكد أن غير المسلمين خالدون في جهنم، فتذكّره بألا يفتئت على الله وألا يقسم رحمته، وتقرأ آية "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة"، فيستنكر لسان حاله: "وأنا مالي بالقرآن. إن الدين عند الله الإسلام". ينكر حكمة إسلام الوجه لله، "وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سمّاكم المسلمين من قبل". بعد ذلك لا تجادل، سيقول إن فوائد البنوك حرام. قل له: "حرام وستين حرام".
اُسكت إذا قال إن جمال عبد الناصر كافر، ليحكي أسطورة لفْظ القبر لجثمانه بعد طفح المجاري، ويؤكد أن طه حسين تنصّر في فرنسا، ويلعن كل مَن لقبه عيسى: صلاح عيسى "المجرم الشيوعي الهالك". إبراهيم عيسى "العائد من المصيف مُسودّ الوجه من غضب الله". أي مصيبة تمسّ أحدهم هي ابتلاء لتخفيف ذنوبه. وإذا ابتلي بها أعداؤهم فهي عقاب إلهي. يؤنسنون الله، لا باستئناس رحمته وجلاله مثل المتصوفة، وإنما بإنزاله إلى الأرض لكي يصارع الخلق، وينتقم منه؛ لأن معصيتهم نالت من ملكه الذي لا يحيط به عقل بشر، "ولو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء".
لستَ سلفياً ما دمت تحب الحياة وتفرح بمباهجها، تصنع هذه الفرحة وتجيد استقبالها، وتنفر من طائفة كارهي البشر، وتتمتع بفضيلة القلق، ولا تريحك الابتسامة السلفية البلاستيكية. أما السلفي فلا يقلق، يتأكد له أنه من ورثة الفردوس، على الأقل يضمن أنه "زُحزح عن النار وأُدخل الجنة".
اطمئنانه يمنحه بسطة في الجسم دون العقل. إذا فكرّتَ مثله، بالنهج السلفي، ستجد وجوده رحمة، فاحتمل عبء وجود "صديق" واحد، يظنك من الهالكين، ويسخر من إيمانك بأن رحمة الله تسبق عدله. وتموت فلا يترحم عليك. سيضحك شامتاً، ويبخل بقراءة الفاتحة، وربما يتمادى في الغيّ، فينوب عن الله ويقرر مصيرك، ويعلن على غيره أين مستقرّك، فأبشر.
وجدتُ لحالتك أمثلة ذكرها الإمام موفّق الدين بن عثمان، المتوفى سنة 615 هجرية (1218 ميلادية)، في كتابه "مرشد الزوار إلى قبور الأبرار المسمى الدرّ المنظَّم في زيارة الجبل المقطَّم". ظاهر الكتاب تأريخ لما كان يسمى مدينة الموتى بالقاهرة، وباطنه الحب الإلهي. موسوعة تضم قتلة من الحكام، وشهداء من الصحابة والتابعين، وأولياء على رأسهم أعلام من آل البيت آوتهم مصر. رحم الله المحقق محمد فتحي أبو بكر، لعله آخر المحققين الكبار. جهده ينافس عمل المؤلف. عجبتُ لعدم وجود صورة له في الإنترنت، قبل نشر صورته مع مقالي "مصر تشخد تبديد أكبر مقبرة أثرية في العالم" في "العرب" اللندنية، 30 تموز/يوليو 2023.
إذا سخر سلفي من إيمانك، فأبشر. وإذا شمت بك أو فضحك، فأبشر. في كتاب "مرشد الزوار إلى قبور الأبرار" فصل عن غفران الله لمن لحقهم أذى لفظي بعد موتهم. أحدهم كان له جار يؤذيه، وحين رأى جنازة الجار قال: "بعيدةٌ من رحمة الله". فرآه في المنام في الجنة، وسأله: "مَن أدخلك الجنة؟ قال: كلمتُك".
وروى عن أبي عثمان الغسّال أنه دخل على ميت فسمعه يقول: "النار... النار". فزع وأبلغ الناس، فدخلوا ورجع إليه، فسمعه يقول: "النعيم... النعيم... الجنة". وفي المنام سأله عما فعل الله به، قال: "غفر الله لي وقتَ فضحتني وقال: أنا لا أجمع على عبدي فضيحتين، وأباحني الجنة".
كما روى أن مبارك السندي، وكان أحد النسّاك، سمع شيخاً جليلاً في همذان يقول إنه كان له جار "مخنث مُفسد فمات"، ولم يقم لجنازته. في تلك الليلة رآه في النوم، وأخبره الجار بأن الله غفر له. عجب الشيخ وسأله: بماذا؟ فأجاب: "لما متُّ كنت من أهل النار، وغُسّلت وأنا من أهل النار، وحُملت وأنا من أهل النار، فمرّت بك جنازتي فأنِفتَ أن تقوم لها، فغفر الله لي". أكتفي بهذه النماذج للدلالة على أن رحمة الله أوسع من أخيلة البخلاء بكلمة ترجو للميت الرحمة. أما آثار الموتى، بعيداً عن الوصاية على الله، فيجب قتلها بحثاً ودراسة، كما قال الشيخ أمين الخولي.
لستَ سلفياً ما دمت تحب الحياة وتفرح بمباهجها، تصنع هذه الفرحة وتجيد استقبالها، وتنفر من طائفة كارهي البشر، وتتمتع بفضيلة القلق، ولا تريحك الابتسامة السلفية البلاستيكية
السلفيون مساكين، يهزمهم عقل جبار مثل طه حسين، فيتوارثون التكفير، ويجادلون بجملة منتزعة من سياقها البحثي في كتاب "في الشعر الجاهلي"، عن إبراهيم وإسماعيل وبناء الكعبة. وينسون ما ذكره العميد عن القرآن في الكتاب كله: "ونحن لا نعرف نصاً عربياً وصل إلينا من طريق تاريخية صحيحة يمكن الاطمئنان إليها قبل القرآن". كما ألحّ على الاستدلال على عربية الشعر بنصوص القرآن "أصدق نص عربي قديم يمكن الاعتماد عليه في تدوين اللغة العربية وفهمها". أترحم على "محمد نور، رئيس نيابة مصر"، ذلك العقل الفذّ الذي حقق مع المؤلف. كان ندّاً واجه العميد بأخطاء منهجية، ثم كتب تقريراً مدهشاً في 30 آذار/مارس 1927.
في تقرير المحقق المستنير أن المؤلف "قاده بحثه إلى ما كتب وهو وإن كان قد أخطأ فيما كتب إلا أن الخطأ المصحوب باعتقاد الصواب شيء وتعمُّد الخطأ المصحوب بنية التعدّي شيء آخر". وقال: "إن للمؤلف فضلا لا ينكر في سلوكه طريقاً جديداً للبحث... تورط في بحثه حتى تخيل حقا ما ليس بحق أو ما لا يزال في حاجة إلى إثبات أنه حق". "غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدي على الدين، بل إن العبارات الماسّة بالدين التي أوردها في بعض المواضع من كتابه إنما قد أوردها في سبيل البحث العلمي مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها". وحفظت القضية لانتفاء القصد الجنائي.
تقرير محمد نور درسٌ نقدي تاريخي، يستبعد خطاب التكفير، ويستبدل الصواب والخطأ بثنائية الحلال والحرام. أرجو أن أكتب شيئاً عن معنى طه حسين، في ذكرى وفاته الخمسين، في تشرين الأول/أكتوبر 2023. الذكرى حدثٌ كبير لا تحفل به مصر التي لم تعد كبيرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع