لا يمكن لامرأة مثلي، بعمر الرابعة والخمسين، أن تتجاهل ما تعيشه بشكل يومي من حالات يصعب تصنيفها خارج حدود التسلّط الذكوري والأنثوي، لأنها ببساطة تتدخّل بزيّها، بخروجها، بتعاملها مع المحيط، والأهم بعملها وهو مصدر رزقها الوحيد.
مقارنة بسيطة بين ما كان في سورية قبل العام 2011 وعام 2024، لا أجد اختلافاً يذكر بالحالة التي يمكن للمرأة أن تعيشها، ومن قال إن الحرب هي السبب، أناقضه وأضع اصبعي في عينه، لا لأفقأها بل لأذكّره أننا كنساء لم نعش نعيماً قبل الحرب لنفقده ونبكي عليه بعدها، لأننا لم نسترح من عداوة المجتمع وانتقاده مواقفه الجارحة وتململه من حضورنا إن لم يكن على ذوقه وموافقاً لرؤيته ومقاييسه، لتبقى خدعة مشاركة النساء وتطوّرها باتجاه المساواة كذبة سمجة.
تعال/ي معي لنعيد بعض مظاهر عشناها ونعيشها قبل وبعد، بمعنى أن "نبق البحصة" وبلا منّة التطوّر وسيرة أن ما عاشته المرأة من تطور كان جيداً، ولولا الحرب كانت بأحسن حال.
ببساطة وفي قريتي وقبل أن يصبح لوسائط النقل مآسيها وأوجاعها، أي قبل الحرب، خرجت عند الثانية ظهراً من منزلي في قريتي التي تبعد عن السويداء اثنا عشر كيلو متراً، ولم أكن أملك سيارتي الخاصة، التزاماً بموعد عمل، لتقف بوجهي طفلة، وأمها طبعاً من خلفها، تلقي التحية وتسأل دون مقدمات: "الناس عادت من وظائفها وأنت تخرجين الآن؟".
سؤال جاء على لسان طفلة ليكون سؤالاً بريئاً والله من وراء القصد، ورغم الدهشة لغاية تاريخه لا أعرف من أين استرقتُ الهدوء وتجاهلتُ الردّ، واكتفيتُ بابتسامة مائلة الشفة.
لكن السؤال ساق سلسلة من الأسئلة والملاحظات، بما معناه أن هناك من ينتبه لساعات خروجي وعودتي، ومن يحسب ويراقب، وأنا التي لم أجد يوماً أي صعوبة في التعامل مع الأهل وحرية التحرّك والخروج.
في كل مرة أتذكّر السؤال، أنكر فكرة التحرّر التي نوهم بها أنفسنا، وأصر أن ما كان ينقصنا هو الانتباه اللازم لأسئلة المحيط، واستفساراته ومتابعته لتحرّك المرأة، سواء خرجت لوحدها لداعي العمل أو لأي سبب آخر.
الحرب أضافت واقعاً إضافياً لما سبق، ولم تخلق جديداً على هذا المستوى، فمراقبة النساء موجودة ومستمرّة، الفارق فقط طريقة وسياق الحجّة
امرأة بمفردها تواجه خطر المراقبة
في تلك المرحلة لم أستغرب حديث صديقتي الصحفية التي اضطرّت للسكن في جرمانا بعد التخرج، وباشرت عملها الصحفي الذي تضطرّ فيه أحياناً للعودة بسيارة الوسيلة الإعلامية التي تعمل بها، أو في تكسي مع زملاء لها، أو أياً كانت الوسيلة، وفي أي وقت، ولم تخف تململها من تقصّد صاحب الغرفة الوقوف على الشرفة وإظهار أنه شاهدها، وكأنه يقول لها: "شفتك ومع مين جيتي وإيمتى"، ما اضطرّها في النهاية للعودة للمدينة الجامعية والسكن بطريقة مخالفة، بدل أن تعيش تحت سيطرة تطرف أفكار صاحب المنزل وجيرانها في الحي المذكور.
اليوم أستعيد الحوار معها، تماسكها بعد مواجهة الجيران والابتعاد، أي الهرب بما معناه "ابعد عن الشر وغنيله"، وهذا طبعاً خيار نساء كثيرات، ليبقى خيار المواجهة بالنسبة لهن مقترناً "بوجع الراس" وتوسيع للمشكلة، خيار أثبت الزمن لي أنه خاطئ وقاتل.
الغريب أنني هذا العام، وبعد ثلاثة عشر عاماً، وُضعت في ذات المحل الذي كانت به صديقتي، عند الاضطرار لسكن مؤقت على أطراف مدينة السويداء، لفترة قصيرة، فكان للجيران سلوك مشابه ومواقف لا تختلف كثيراً عن تلك التي عايشتها صديقتي، وكأن روزنامة الأيام لم تتحرّك، وتحرّكات المرأة مرصودة ومراقبة بواقع أكثر فظاظة ومباشرة، باختلاف بسيط في حجّة "أن الأوضاع غير آمنة"، ولابد من مراقبة أي مستأجر أو مستأجرة، تحسباً من أي خطر قادم.
بالتالي، الحرب أضافت واقعاً إضافياً لما سبق، ولم تخلق جديداً على هذا المستوى، فالمراقبة موجودة ومستمرّة، الفارق فقط طريقة وسياق الحجّة، والسبب بات موجباً بلسان حال المراقب، أو المراقبة أيضاً، من المحيط: جيران، أهالي حي أو قرية، باختلاف ليس بسيطا بالنسبة لي، أن المواجهة كانت حاسمة وشديدة ورافضة، لأني لم أكتف بالتجاهل، وجملة "هذا ليس من شأنك"، جعلت المحيط غير قادر على الأقل على التدخّل، وتمنيت لو عاد الزمان ورميتها في وجه الطفلة وأمها في حارتي.
التنقل وحيدة مخاطرة
اليوم تقف إحدى زميلاتي وتذكّرني أنها قبل الحرب لم تكن لتتوجس من العودة متأخرة. أضحك كي لا تثور ثائرتي على موقف صغير، وأذكّرها أن شعورها بالأمان كان بالفعل مختلفاً، فقد كانت الشوارع آمنة ولا أحداث أمنية تذكر، من خطف أو سرقة، أو ما نعيشه اليوم، خاصة في قرى السويداء، ولم يكن في تلك الفترة ما قد يهدّد بقتل أو ما شابه من مخاطر، لكن أيضاً، وللإنصاف، ذكّرتها إن النساء، وأنا وهي منهن، لم يكن لدينا خيار العودة بعد آخر حافلة يمكن أن تعود للقرية عند الثامنة مساء، أو رفاهية الانتقال بسيارة تكسي بعد هذا الموعد، كسيدة عاملة أو طالبة وحيدة تعود بما يناسب وقتها، ليس خوفاً من الخطر لكن تجنباً لألسنة المجتمع، أو انتقاد الأخوة والأشخاص الأقرب بحكم السكن.
تابعتُ وذكّرتها أن سيدة من قريتي تأخرت مرّة في التسوّق، ليس بحثاً عن فستان لها ضمن استعدادات عيد الأضحى، أو بعض أنواع المكياج، بل لأن ابنها طلب منها "سندويشة شاورما" عن طريق "قنوات" الذي يبعد عن السوق مسافة ليست بالقليلة على الوقت المتبقي عن انطلاق آخر باص للقرية، واضطرت تحت إلحاح ابنها للمشي بما يشبه الجري لتصل إلى المطعم وتلبية رغبته، وعادت أيضاً بما يشبه الجري لتستقلّ آخر باص يعود في الثامنة إلى القرية، ولم تتمكن من الالتحاق به كونه انطلق بالموعد المحدّد وهي تأخرت عشر دقائق، وصادف مروري مع والدي، واستقلّت معنا السيارة بحرج شديد، وطلبت أن تنزل قبل الوصول إلى حيّها خوفاً من جيرانها، وهذا لا يختلف بشيء عما تعيشه النساء في حال رضين الارتهان للمراقبة وتقبّل استباحة حياتهن الخاصة المقيدة.
زميلتي في العمل تجاوزت الخامسة والخمسين، وزوّجت ابنتها العام الفائت، تضطر اليوم للتنقل بين السويداء وقريتها برفقة ابنها الذي لا يزيد عمره عن ثلاث عشرة سنة، لا لشيء إلا لتبرّر بوجوده الانتقال بسيارة أجرة، في حال اضطرّت لرعاية ابنتها ومولودها بعد الساعة الثامنة، دون التعرّض لانتقاد المحيط، بالتالي فإن الخوف وغول المراقبة لازالا قائمين، غول الأقاويل "مع من عادت، ومن كان معها" بكل بساطة، فهي، وغيرها، لم تنل ثقة المجتمع ولم تفرح بتحقيق حلم تناسي المجتمع لها وعدم التدخّل بشؤونها، رغم كل الظروف ومعاناة الحرب وما قبلها، وبقيت المرأة تحت المجهر وبقي الذكور مراقبين أيضاً، لكن بطريقة صامتة لأنهم ذكور، بل وتجد من ينافقهم ومن يتماهى بتقديرهم، والتغاضي حتى عن الفعل الشائن بقولة "مالنا علاقة"، وبما يخصّ النساء، لهم مطلق الحرية والانتقاد وتقديم الملاحظات في حال رغبت النساء سماعها أو تجاهلها.
النساء اللواتي طحنتهن الحرب لم يكنّ بتمام الصحة النفسية والاجتماعية قبل الحرب، بل كانت الحرب إضافة لما سبق، فكرّست سلوكيات ومواقف، تطلب العدل وتتجاهل النساء، ترفض التساوي وتنافق الذكور على حساب الإناث في أبسط التفاصيل وأصغرها
الحصول على الراتب قصة أخرى
وإذا كانت سورية من الدول التي ساوت بالرواتب والأجور بين الإناث والذكور، لكن واقع الحال عند قبض الراتب من خلال الصراف يظهر تفصيلاً سائداً ما قبل الحرب وبعدها، والجميع يعرف معاناة الموظف/ة والوقوف لساعات طويلة، نساء ورجالاً، بطوابير طويلة منفصلة، بانتظار الحصول على النقود من عدد محدّد من الصرّافات الذي قُصد من استخدامها الانتقال إلى حالة أكثر حضارية، لكن واقع الحال يختلف بعدة تفاصيل تكرّس سلطة ذكورية، تجعل نصيب امرأة واحدة باستخدام الصرّاف بعد رجلين، حالة شبه دائمة، حاولت البحث عن مصدرها ولم أجد مبرراً لها إلا تسلّط الذكور، وفي حال اضطرّت النساء وتعطل الصرّاف الذي تقف عليه مجموعة من النساء، ولا يجدن تقبّلاً من الرجال الذين هم مثلهم موظفون، ولا يسمحون للنساء حتى وإن كان العرف "امرأة بعد رجلين".
الغريب أن النساء هنا يتجاهلن السؤال، وفي حال الطلب بطريقة هادئة، تجد من يقمع طلبهن، وتضطر النساء إما للرحيل عن المكان أو الانتظار حتى إصلاح الجهاز، وطبعاً يتطلب ذلك العودة عدة مرات.
من فرض هذا التقليد، إن صح تسميته بالتقليد، وكيف تكرّس؟ كيف انتقل من سلوك خاطئ إلى قاعدة؟ ولماذا ترضى النساء بهذه المعادلة التي تكرس وجودهن كحلقة أضعف؟
أقول لزميلتي: "منذ أن بدأت المصارف الخاصة بصرف الرواتب لم أعد لهذا الطابور، حتى وإن اضطررت لسحب الراتب على عدة مراحل، ألا يكفينا تسلّط وصل إلى التعرّض للإهانة للحصول على عدة آلاف، لا تعوض إهانة الوقوف والتقيد بعقلية ناقصة؟".
زميلتي التي وقفت في دورها منذ عدة سنوات، وعندما همّت بإدخال البطاقة، تعرّضت للكمة قوية من رجل أزاحها بقوة عن الصرّاف، وكأنه ثور هائج، جعلها عاجزة عن الرد وهي التي تمتلك القوة العضلية الكافية لرد اللكمة، لكن ذهولها وعجز الحاضرين عن الدعم تركها لساعات عاجزة عن اتخاذ خطوة لترحل أو تواجه من سدّد اللكمة دون إحساس، وعندما اتجهت لتسجّل ضبطاً بالواقعة، لم تجد إلا أنا معها لأشهد بما رأيت، وتهرّب الواقفون من الشهادة، رغم أنها سقطت أرضاً وتأذت رجلها أمامهم، عدا عن حالة الهلع التي عاشتها لعدة أيام.
نهاية... إن النساء اللواتي طحنتهن الحرب لم يكنّ بتمام الصحة النفسية والاجتماعية قبل الحرب، بل كانت الحرب إضافة لما سبق، فكرّست سلوكيات ومواقف، تقاليد وعادات، سارت عكس التيار أو معه، تطلب العدل وتتجاهل النساء، ترفض التساوي وتنافق الذكور على حساب الإناث في أبسط التفاصيل وأصغرها، أو تلك التي كانت صغيرة وأصبحت كبيرة، وتضاعفت بسبب تماهي المجتمع معها وتقبلها، واختيار النساء الزاوية المظلمة وعدم الرد، ضعفاً أو لقناعة غرست في نفوس النساء منذ الطفولة أن سلطة الذكور غير قابلة للتحلل أو التراجع، بالتالي كثيرات منهن اخترن عدم المواجهة، وهذا خطر بحد ذاته.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.