شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
الرجال الذين ابتلعوا طرابيشهم

الرجال الذين ابتلعوا طرابيشهم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الجمعة 28 يونيو 202411:06 ص

في أحد مشاهد المسلسل السوري "رجال تحت الطربوش"، تَظهر إحدى بطلات المسلسل التي تَعمل ممثلة، وهي تُوجّه كلامها إلى زوجها الذي يَعمل في نفس مجالها ويكون صاحب شركة إنتاج. تقول له في نبرة حادة وموبّخة: "أنت فعلاً شلت الطربوش عن راسك بس ما رميته لورا متل ما عم تكذب بطريقة لبسك وفنّك وحبّك للفنّ، ما تركته بالمتحف لمكانه الطبيعي، أنتَ بَلعَت الطربوش".

تُلقي الزوجة كلماتها على مسامع زوجها الذي مَنَعها من الاستمرار في مهنتها كممثلة، ووضعها أمام خيارين: إما ترك العمل والتفرّغ للعائلة أو الطلاق؛ تلقيها عليه كأنّها تكشف له حقيقته المدعية أو ازدواجية معاييره، فهو يظهر أمام الناس بمظهر الرجل الفنان المثّقف، صاحب الفكر التنويري، المتحرّر، لكنّه أمامها، وفي مساحة بيته الخاصة، يخلع عنه رداء تقدميته، ليعود بالزمن إلى الماضي، إلى متاحف التاريخ، التي يُعلّق فيها صور الرجال ذي الشوارب الكثيفة والوجوه المتجهّمة والطرابيش المنتصبة على الرؤوس، كدلالة على هيبة الرجولة وعظمة الفحولة.

كم يمتلئُ العالَم بنموذج هذا المثّقف والفنان، وكم تضجّ شوارعه وساحاته برجال حداثيين ابتلعوا طرابيشهم!

يصعد الفقهاء إلى المنابر ويتناولون النساء في خطبهم ومحاضراتهم، يُكرّرون الفتاوى والأحكام المتعلّقة بهنّ كلازمة لعينة، يخترقون عوالمهنّ الخاصة والعامة، والظاهرة والباطنة، وكأنّ لديهم رغبة لامتناهية في امتلاك المرأة من خلال الفتوى

فقهاء يستبدلون العمامات بالطرابيش

يتحدّث كتاب "وأد الأنثى؛ بين النصوص المقدسة والعقيدة الذكورية" للكاتب وضاح صائب، عن تلك المنظومة الفقهية التي يتحكّم فيها الفقهاء في عالمنا العربي، ويُصرّون عبرها على تمرير أحكام فقهية معينة بقصد وأد المرأة وإذلالها، فأولئك الفقهاء يقتطعون الآيات القرآنية من سياقها، ويستخدمون الأساليب الانتقائية في اختيارها، ويقومون بليّ أعناق معانيها، كلّ ذلك من أجل خدمة أغراضهم وأهدافهم في إخضاع النساء، والاحتفاظ بسلطتهم البطريركية عليهنّ.

يصعد أولئك الفقهاء إلى المنابر ويتناولون النساء في خطبهم ومحاضراتهم، يُكرّرون الفتاوى والأحكام المتعلّقة بهنّ كلازمة لعينة، يخترقون عوالمهنّ الخاصة والعامة، والظاهرة والباطنة، وكأنّ لديهم رغبة لامتناهية في امتلاك المرأة من خلال الفتوى، في تحديد كلّ شيء متعلّق بها أو يخصّها، في سلبها خياراتها وإرادتها، وكأنّهم ينسون، أو يتناسون، بأنّ الدين الذين يتكلّمون باسمه دين تحرّر لا دين استعباد أو استملاك كيانات إنسانية، وكأنّهم لا يعرفون أنّ "التحرّر الحقّ هو تحرير المرأة من المظالم التي كانت تُعانيها، تحرير عقلها من الخرافة، تحرير إرادتها في النكاح والخلع، تحرير قلبها من الجبن والخوف، تحرير نفسيتها من عقدة النقص، تحريرها من الجهل والتخلّف".

لعلّ الأولى بهؤلاء الفقهاء أن يستبدلوا عمائمهم بالطرابيش، فهيَ تتلاءم أكثر مع طبيعة فتاويهم ونواياهم كمفتيين.

عندما رأيتُ آثار الطربوش في وجه جدتي

كان في منزل جدتي صورة معلّقة في صالتها، يَظهر فيها رجلاً يرتدي على رأسه طربوشاً. خطر لي في طفولتي مرة أن أسألها عن صاحبها فقالت: "هاي لأبوي، شايفة يا ستي شو كان أنيق وإله هيبة".

بعد سنوات من تلك المحادثة، كنت أجلس في حضرتها أدرس لامتحان لدي في الجامعة، كانت تنظر إلي وتتابعني بنظرات حاسرة، ثمّ قالت لي: "الله يسامحه أبوي اللي ما خلاني أتعلّم القراءة والكتابة".

 كانت جدتي تُعلّق فوق صورة والدها في تلكَ الصالة طربوشاً. لم يخطر في بالها يوماً أن تفكّر في سلطته المتوارية، وفيما يُخفيه من ترميزات جندرية تنتمي إلى النظام الأبوي البطريركي، حيثُ يرتبط الرجل بصفات معينة مثل، القوة والشجاعة والإقدام والذكاء والفحولة (صفات يُمثّلها الطربوش)، في حين ترتبط المرأة بصفات معينة تختلف كلياً عن صفات الرجل مثل: الضعف والخور والهوان وغياب الجرأة والإقدام وفقدان الشجاعة.

كانت آثار السياط التي تركها طربوش والد جدتي تَظهر في وجهها في كلّ مرة تراني فيها أحملُ كتاباً، وكنتُ أبصر حسرات وجهها، وأفهم ما فيه من وجع وحرمان

لم تعرف جدتي أنّ الطربوش الذي تُعلّقه هو لعنة خبيثة تصيب الرجال وتجعلهم يظهرون كمستبدين وجلادين، يُسمّكون سياطهم المعنوية ويضربون بها النساء، فتظهر علاماتها في حيواتهم في أشكال الحرمان؛ حرمان من التعليم، من الكتابة، من الحبّ، من الجنس، من العيش، حرمان من الحياة بحدّ ذاتها.

كانت آثار السياط التي تركها طربوش والد جدتي تَظهر في وجهها في كلّ مرة تراني فيها أحملُ كتاباً، وكنتُ أبصر حسرات وجهها، وأفهم ما فيه من وجع وحرمان.

شهرزاد؛ حكواتية بدون طربوش

يرتدي الحكواتي طربوشاً حين يمتهن السرد، وكأنّ الطربوش يُحفّز ملكات الاستماع عند الجمهور، ويجعلهم يتطلّعون بشغف إلى الرجل الذي يرتديه، وينتظرون ما سيجود به لسانه عليهم من قصص وحكايات.

 منذ غابر الأزمنة وطربوش الحكواتي يأتي ليدلّل عليه وعلى ما يمتلكه من قدرة على الحكي والسرد، لكنّ شهرزاد، وهي الحكواتية الأولى التي ناقضت الصورة الذكورية للسارد، لم تكن بحاجة إلى طربوش يُدلّل عليها، فقد امتلكت سلطة السرد والقدرة عليها دون ارتدائه فوق رأسها.

أثبتت شهرزاد بأنّ الرجل الحكواتي ليس له أنْ يحتكر سلطة السرد، وأنّ طربوشه هو مجرّد تفصيل هامشي في العملية السردية، كما وأنّها استطاعت أن تُسيطر على الطربوش وتُعيد تفصيله وتعريف هيمنته من موضعته كرمز لسلطة الذكر الحكّاء، ليُصبح رمزاً نسائياً يرتبط بالسرد كفعل حرّ ومتحرّر من الجندرة وتبعاتها، فكلّ الذين قرأوا "حكايات ألف ليلة وليلة" تخيلوا أنفسهم في حضرة امرأة تحكي لهم وتقصّ عليهم دون أن ترتدي طربوشاً، بل كأنها أعادت تفصيله ليصبح شالاً أو خلخال في القدم، أو حتى ممسحة لنفض الغبار عن الحكمة.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

رصيف22 من أكبر المؤسسات الإعلامية في المنطقة. كتبنا في العقد الماضي، وعلى نطاق واسع، عن قضايا المرأة من مختلف الزوايا، وعن حقوق لم تنلها، وعن قيود فُرضت عليها، وعن مشاعر يُمنَع البوح بها في مجتمعاتنا، وعن عنف نفسي وجسدي تتعرض له، لمجرد قولها "لا" أحياناً. عنفٌ يطالها في الشارع كما داخل المنزل، حيث الأمان المُفترض... ونؤمن بأن بلادنا لا يمكن أن تكون حرّةً إذا كانت النساء فيها مقموعات سياسياً واجتماعياً. ولهذا، فنحن مستمرون في نقل المسكوت عنه، والتذكير يومياً بما هو مكشوف ومتجاهَل، على أملٍ بواقع أكثر عدالةً ورضا! لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم، وأخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا!.

Website by WhiteBeard