توثّق مصممةُ المجوهرات العالمية عزّة فهمي، في كتابها "مذكرات عزّة فهمي... أحلام لا تنتهي" بأن أباها كان قد أهدى أمها كتاباً ما زالت هي محتفظةً به حتى هذه اللحظة، لرائدة تدريس الطبخ في مصر "أبلة نظيرة"، وعليه إهداء منها يعود لسنة 1941. هذا الكتاب كان أهم كتاب لسيدات مصر. كل امرأة مصرية كانت لديها نسخة من كتاب "أصول الطهي". تقول إن أمها كانت تستعمله كثيراً في تنفيذ الوصفات، خاصةً المتعلقة بالحلويات منها، وبأنها تنوي إهداءه إلى ابنتها، ليكون لديها جزء صغير من حياة جدّتها.
تسترجع عزة ذكريات الزمن الماضي حين فتقول إنها تضحك اليوم حين تتذكر نفسها وهي تساعد أمها في المطبخ وهي تنفذ وصفةً من وصفات أبلة نظيرة. فحين تكون الوصفة تتطلب إضافة 6 بيضات إلى خلطة الكيك، كانت الأمّ تضع أربع بيضات فقط، وعندما كانت تسألها لماذا لم تضع بيضتَين إضافيتين كما في مقادير الوصفة، كانت تقول ضاحكةً: "كدا كويس، أبلة نظيرة محبّكاها أوي".
حكايات ومواقف تلقائية مع والدتها في المطبخ، تذكرها عزة فهمي، إلا أنها في الواقع تشكل جزءاً أصيلاً من ذاكرة البيوت المصرية، وتدعونا للبحث عن الكتاب الذي وثّق المطبخ المصري وقصة أبلة نظيرة.
بداية رحلة "أبلة نظيرة"
أغضبت الصورة النمطية المأخوذة عن المصريين عند الإنكليز، في الخارج، باعتبار مصر بلداً عربياً موصوماً بالهمجية والبدوية، عكس ما تبدو عليه في الحقيقة، ما دعاه للبحث عن سبل لتغيير هذه الفكرة المغلوطة ومن هنا دفع بالبعثات العلمية الموفدة من المملكة المصرية إلى الخارج لتلقّي العلوم، وكأن القدر ابتسم لنظيرة نيقولا، التي عُرفت بعد ذلك بـ أبلة نظيرة.
قبل أن تصل نيقولا، إلى منصب المشرف العام على وزارة التربية والتعليم، كانت قد تفرغت للطهي وفنونه وحرصت بشدة على الاهتمام بتزيين الطعام وترتيب السفرة وتعليم الطالبات في المدرسة أصول العناية بالمطبخ
وُلدت أبلة نظيرة سنة 1902، وبعد أن أنهت دراستها الثانوية في مدرسة السنية للبنات، أُرسلت من قبل وزارة المعارف العمومية "التربية والتعليم"، ضمن بعثتها الأولى، إلى لندن سنة 1926، والتي شملت 13 فتاةً في جميع التخصصات، لتدرس طوال ثلاث سنوات التدبير المنزلي، حسب ما ذكر الدكتور محمد فتحي عبد العال، في كتابه "نزهة الألباء في مطارحات القراء".
كان إرسال البعثة مجازفةً كبيرةً، فلم يكن من السهل على الأهالي تقبّل فكرة سفر بناتهنّ إلى الخارج بمفردهنّ، لكن تميّزهنّ وتفردهنّ في التفوق العلمي بالإضافة إلى تفوقهنّ الأخلاقي، كانت وراء اختيارهنّ، وبعد أن عادت "الأبلة" من بعثتها الدراسية في جامعة غلوستر في إنكلترا، عُيّنت مدرّسةً لمادة الثقافة النسوية "التدبير المنزلي"، ومن ثم بدأت بالوظائف.
الصدفة التي غيّرت حياة "أبلة نظيرة"
قبل أن تصل نيقولا، إلى منصب المشرف العام على وزارة التربية والتعليم، كانت قد تفرغت للطهي وفنونه وحرصت بشدة على الاهتمام بتزيين الطعام وترتيب السفرة وتعليم الطالبات في المدرسة أصول العناية بالمطبخ، وكانت تقول لهم: "أهم شرط من شروط نجاح الصلصة أن يكون لونها مطابقاً للون المادة الأساسية فيها. مهارة ربّة البيت لا تتجلى فقط في الطهي، ولكن تتجلى أكثر في مهارات إعادة طهي ما تبقّى من بواقي طهي سابق" .
جاءت الفرصة الذهبية وقد حان الوقت لتلعب الصدفة دورها، في تغيير حياة نظيرة جذرياً، حين أعلنت وزارة المعارف عن مسابقة تشترك فيها مدرّسات التدبير المنزلي بهدف إعداد كتاب في مجال الطهي، تعتمده الوزارة كمادة دراسية للفتيات في فن التدبير المنزلي، وحسب ما يشير الدكتور محمد علي عبد الله، في كتابه "المرأة.. العولمة والعطاء"، فإن نظيرة وزميلتها بهية، قد اشتركتا في إعداد الكتاب الذي فاز بالمركز الأول في المسابقة وكان عدد صفحاته قد وصل إلى 800 صفحة موزعة على 18 جزءاً ليصبح موسوعةً في الطهي وليس كتاباً تقليدياً، اعتمدت فيه الزميلتان، على الأسلوب البسيط، وتقديم وصفات تراعي الحالة الاقتصادية للأسرة المصرية حتى يصبح الجميع قادرين على تنفيذ وصفات الطعام، ووُزّع الكتاب في الأسواق وأصبح حديث الناس.
لاحظت محررة الشؤون الخارجية في "أخبار اليوم"، أن كتاب أبلة نظيرة هو أكثر ما تطلبه البعثات الدبلوماسية في القاهرة، ثم اكتشفت أنه طلب عرائس السلك الدبلوماسي، بخلاف الطلبة والطالبات المغتربين، وكتبت قائلةً: "لا بد للأبلة نظيرة، أن تكون قد جنت الملايين من وراء كتابها الذي يطلبه العزاب والعرائس ويزداد انتشاراً كلما ضعفت صلة الفتاة الجامعية بالمطبخ وتعلّم أصول الطهي على يد أمها". وردّت أبلة نظيرة بأن ما حصلت عليه وزميلتها من وزارة المعارف 525 جنيهاً، أي ما يعادل 10 دولارات، فقد اشترت وزارة المعارف حقوق طبع الكتاب ونشره، وخصصته الوزارة لمعاهد البنات، وطبعت منه آلاف النسخ التي نفدت كلها من الأسواق.
نظيرة نيقولا في ملاعب الطهي
عندما عادت أبلة نظيرة من لندن، كانت مدفوعةً بالحماسة للاكتشاف، فنزلت بنفسها إلى ملاعب الطهي الشرقي لتتقنه، وكانت تقضي أياماً طويلةً في محال الحلوى لتتعلم صناعة الكنافة والبقلاوة بإتقان مفعم بالشغف والحب، وتذهب في جولات داخل المطاعم الشهيرة لتكتشف طرائق مختلفةً لطهي الخضروات واللحوم، وأياماً أخرى في معامل وزارة الزراعة تراقب بحفاوة كيف يتم تصنيع المربيات والألبان، وبعدها طبقت ما تعلمته في بريطانيا على الذوق الشرقي والمطبخ المصري، حتى أنها باتت تصنع قوانينها الخاصة لفنون الطبخ في المنزل.
كانت مسوّقةً جيدة لكتابها، تخاطب الفتيات بضرورة اقتناء كتابها وتؤكد كلامها بعبارتها: "أنصحكنّ بأن تدرسن كتابي جيداً، ولتحملنه معكنّ إلى عُشّ الزوجية فالرجال قلوبهم في بطونهم"؛ هذا وفق ما ذكر الكاتب عمر طاهر، في كتابه "صنايعية مصر".
كتاب "أبلة نظيرة"
رسّخت أبلة نظيرة صورتها الذهنية عند الجمهور المصري من خلال فقرة من إعدادها وتقديمها ضمن فقرات برنامج "ربّات البيوت"، وكان واحداً من أشهر البرامج الإذاعية في مصر، وكانت تبدأ فقرتها بقاعدة من كتابها كالتي تقول فيها: "كل طعام مطبوخ لا بد أن تكون نكهة المادة الأساسية واضحةً فيه. مهما كانت إمكاناتك لا بد أن تكون ألوان الطعام على المائدة متباينةً، فمتعة العين جزء من متعة تذوق الطعام".
عبر أثير موجات الإذاعة المصرية مع الإذاعية الكبيرة صفية المهندس، التي دعتها لتشارك معها تقديم فقرة ضمن برنامجها الصباحي، أعجبتها الفكرة خاصةً مع اقتراب الأبلة إلى "سنّ المعاش"، وظلت سنوات طويلةً تقدّم فقرتها التي تساعد فيها ربات البيوت في اختيار طبخة الغداء، وهذا بدوره كان السبب وراء انتشار اسم نظيرة مقارنةً بزميلتها بهية عثمان، التي لم تأخذ حظّها من كتاب الطهي، ما جعل المصريين يطلقون عليه "كتاب أبلة نظيرة".
حتى أن لينا، في مسرحية "المتزوجون" (1979)، أعدّت وجبةً فاشلةً لزوجها، وقالت إنها طهت الملوخية بعد قراءة الوصفة في "كتاب أبلة نظيرة"، لتؤكد أنها جهّزتها بأفضل طريقة، لكنها لم تعجب مسعودي، ووصف الصفحة بأنها صفحة الوفيات، ليس تهكماً على الكتاب وإنما على الطبق نفسه، بينما لم تجد زوجته صفحة الشوربة، فلم تجهّزها. جاء السياق الدرامي للمشهد في إطار الطرفة، لكنه يوضح كيف كانت السيدات المصريات المتزوجات حديثاً متعلقات بكتاب سيدة المطبخ المصري، لكن الأبلة رفضت المشهد وعدّته سخريةً غير مقبولة وتقليلاً من قيمة الطهي.
لم توثق أبلة نظيرة أكلات المطبخ المصري فحسب، بل شرحت فيه فنَّ الإتيكيت على الطريقة المصرية، التي تشمل أساليب الذوق على المائدة حسب ثقافة الشعب المصري، مقارنةً بفن الإتيكيت المضحك الهزلي الذي نسمع عنه حالياً، والذي لا يتناسب مع واقع البيئة المصرية والمجتمع المصري بعاداته وتقاليده. بهذه الكلمات تعلّق الكاتبة، سوزان جمال، لرصيف22، حيث ترى أن السيدة نظيرة نيقولا، تستحق أن توصف بأيقونة المطبخ المصري، لأنها أول امرأة مصرية قدّمت المطبخ الذي لم يخرج من أسوار المنزل كمهمة منزلية بالدرجة الأولى كفنّ ودراسة وعلم مستقل بذاته.
"أبلة نظيرة" التي أبهرت نوال السعداوي
تأثرت بها الكاتبة نوال السعداوي، وذكرتها في الجزء الأول من كتابها "أوراق حياتي"، قائلةً إنها عرفت أبلة نظيرة في مدرسة السنية الثانوية للبنات. كلمة أبلة نظيرة كانت ترنّ في أذنها أكثر رهبةً وأُبهةً من كلمة السنية، فهي في نظرها واحدة من الرائدات مثل نبوية موسى، خاصةً عندما تسمع صوتها يخرج من الجهاز السحري الذي يسمونه الراديو، كما وصفته، ذلك الصندوق الخشبي، صاحب العيون السحرية المفتوحة على العالم، الذي يبعث أصواتاً قادمةً من السماء.
كما يشير محمد حسن، وهو طاهٍ عام، لرصيف22، إلى أن كتاب أبلة نظيرة، يُعدّ مرجعاً للطهاة المصريين الذين يعودون إليه للتعرف على طرائق ووصفات الأكلات الشعبية المصرية خاصةً ما أوشك منها على الاندثار، والأطعمة الشرقية، ويضيف: "الكثير من الزملاء والزميلات في مجال الطهي استخدموا وصفات أبلة نظيرة، سواء بتقديمها كما هي أو بتطوير الوصفة بالإضافة إلى طرائق تقديم الطعام وأشكال تزيين الطبق بالفاكهة والخضروات وهذه الأمور يتم تقديمها كمناهج تعليمية لدراسي فنون الطهي في كلّ مدارسه".
لم توثق أبلة نظيرة أكلات المطبخ المصري فحسب، بل شرحت فيه فن الإتيكيت على الطريقة المصرية، التي تشمل أساليب الذوق على المائدة حسب ثقافة الشعب المصري، مقارنةً بفن الإتيكيت المضحك الهزلي الذي نسمع عنه حالياً، والذي لا يتناسب مع واقع البيئة المصرية والمجتمع المصري
اختارت نظيرة نيقولا، دراسة التدبير المنزلي، لأن أمها كانت تمنعها من دخول المطبخ خوفاً عليها، كعادة كل الأمهات ذوات الحذر الشديد على أطفالهنّ، إلا أنها لم تمنع ابنتها "نجلاء" التي احترفت المجال نفسها، وعملت مدرّسةً لمادة الاقتصاد المنزلي، في مدرسة طه حسين، حتى تعيينها مديرةً لإدارة البيئة في وزارة التربية والتعليم في الأسكندرية، وفقاً لما جاء في كتاب "نجمات وكواكب الاقتصاد في سماء الاقتصاد المنزلي".
تقول أبلة نظيرة: "الزوج يفضّل ألف مرة الطبق الذي تطهوه له زوجته، على طبق يعدّه له أمهر طباخ لأنه يشعر بسعادة عندما يدرك أن زوجته وجدت طريقةً شهيةً تعبّر له من خلالها عن اهتمامها به". وبالعودة إلى أرشيف مؤسسة "أخبار اليوم"، فقد نشرت رأي المهندس إسكندر عبد السيد، المفتش العام في مشروعات ريّ بحري، في مطبخ زوجته الأبلة نظيرة، وقد قال عنها: "نظيرة ست بيت بحق وحقيقي، تُشرف على كل صغيرة وكبيرة وتقدّم على المائدة أطباقاً شهيةً من صنع يدها وابتكار عقلها".
الطبخ فنّ في قانون "أبلة نظيرة"
آمنت أبلة نظيرة بالطهي، وعدّته فناً كما الغناء والتمثيل، وكل الفنون، حتى أنها كانت تسمّيه "الفن". نشرت إلى جانب كتابها "أصل الطهي"، 8 كتيبات أخرى عن الحلويات والأطعمة المختلفة، وكانت تقدّم سفرةً أسبوعيةً متكاملةً في مجلة "حواء"، واستمرت في تقديمها حتى بعد توقف برنامجها الإذاعي، وتوفيت سنة 1992 بعد أن أتمّت 90 عاماً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه